23 ديسمبر، 2024 6:42 م

العمل بين مطلب النجاعة ومبدأ العدالة

العمل بين مطلب النجاعة ومبدأ العدالة

استهلال:
“العمل ليس مجرّد ضرورة قاسية لا يستطيع الإنسان التملّص منها بل هو في الوقت ذاته الإمكان المتاح له حتّى يبلغ جدارة عالية”[1]
لم يوجد الإنسان فقط ليتأمّل و يحبّ الحياة و ينظّم الشعر و يؤلّف الموسيقى و يلهو و يلعب بل وجد أيضا ليعمل و يشقى و يكابد و ينتج و يحوّل ظواهر الطبيعة إلى أشياء نافعة و ينمّى ثرواته و يمتلك جملة من خيرات و يطوّر فرديّته و يستقلّ نسبيّا عن الجماعة التي وجد ضمنها في السابق لا سيما أنّه “كلّما أخلد إلى الكسل كلّما صعب عليه أن يعزم على العمل”[2]، لكن التوتّر سيبرز والإشكال سيظهر عندما يجد المرء نفسه حائرا أمام إيجاد تفسير لعمله فهل هو وسيلة لتحقيق الربح بتقاضي أجر أم أنّه غاية إنسانية

نبيلة ؟ وهل يعمل لتلبية الضرورة الطبيعية أم لتجسيم اختيار ثقافي ؟ هل العمل هو مصدر الملكية وطريق نحو السّعادة أم أنّه يضفي معنى على الحياة ؟ ما يزيد من حيرتنا هو تحوّل العمل من الحرفة إلى المانيفاكتورة و من علاقة إنتاج داخل المصنع إلى علاقة تبادلية بين الدول في إطار التقسيم العالمي للعمل “عمل على تأبيد التبادل اللامتكافىء و تفاقمه”[3]، و قد انعكس التقسيم التقني للعمل كذلك سلبا على العمّال و عوض أن يخلّصهم من الملل صار هو الذي يسبّب لهم ذلك و صاروا يعملون دون متعة و كما يقول دي توكفيل: “كلّما تقبل مبدأ تقسيم العمل تطبيقا أكثر تقدّمت الصّنعة و انحطّ الصانع” و بالتالي عوض أن يحفظ العمل كرامة العامل و يحقّق له الازدهار و الرخاء المادي فاقم من بؤسه و جعله ينحطّ عن كرامة طبيعته و يحنّ إلى حياة البدائي الهمجيّة الحرّة الواسعة. إنّ الذي يدعونا إلى الاستشكال الفلسفي المعاصر لظاهرة العمل هو المفارقات التي أصبحت تطرحها و الاحراجات التي بات تخلّفها عند الإنسان العادي و محترف الثقافة و ممتهن الصناعة و خاصّة تواجدها على عتبة البطالة و الاستعباد و بين نحتها لماهية الإنسان و تسبّبها في فقدان الذاتية و التحوّل إلى آلة عاملة غير قادرة على التمتّع باستهلاك قليل ممّا تنتجه. رأس المشكل عبّر عنه أحد الباحثين عن فرصة عمل في عصر اللاعمل على النحو التالي:” أنا لا أحبّ أنّ أظلّ  عاطلا عن العمل و لكنّي لا أريد أن أصبح عبدا أثناء عملي”. فإذا كان العمل عبادة و الله تعالى يكره الإنسان البطّال و إذا كانت كينونة الإنسان تكمن في سعيه و فعله و كدّه اليومي فإنّ الإسلام قد شرّع ذلك و ألزم الناس به و دعا إلى طلب العلم النافع خاصّة لمّا ألغى الرق و أعتق الجسد من الامتهان و حثّ على طلب الرزق إلى يوم البعث، كما أنّ الرسول صلعم قد أوصى بإعطاء العامل أجره المناسب قبل أن يجفّ عرقه و أن يتمتّع بحريّته كاملة و أن تصان كرامته دون قيد أو شرط. فهل التزمت الحضارة المعاصرة بمثل هذه القيم الكونية و احترمت القوانين الوضعية التي امتلأت بها مجلاّت الشغل أم أنّها ظلّت مجرّد حبر على ورق ؟ يترتّب عن ذلك أنّ واقع العمل في عصر العولمة أنتج توتّرا حادّا بين مطلب النجاعة و مبدأ العدالة، فما نعني بالنجاعة ؟ و ما المقصود بالعدالة ؟ كيف ارتبط العمل بقيمة النجاعة ؟ هل تحترم كلّ الأعمال الإنسانية مبدأ العدالة ؟ كيف يكون وضع العمل في إطار التناقض بين العدالة و النجاعة ؟ أليس الحرص على نجاعة العمل يؤدّي إلى تدنيسه لمبدأ العدالة ؟ و لماذا أفرز العمل توتّرا حادّا بينهما ؟ بعبارة أخرى هل العمل يحقّق مطلب النجاعة فقط أم أنّه يمكن أن يحترم مبدأ العدالة ؟ متى يكون العمل منصفا ؟ هل بالإبقاء على التناقض بين العدالة و النجاعة أم بإزالته و تحقيق التوازن بينهما ؟ هل يضفي العمل على امتلاك البعض القسط الهامّ من الثروة المشروعية القانوني ؟ هل العمل خلق للقيمة أم سلب لكلّ قيمة ؟ هل من العدل المساواة بين الناس في الأجور ؟ و هل المنفعة المادية هي الغاية المثلى من العمل الإنساني ؟ ما نراهن عليه من البحث في آداب العمل هو تفادي النظر إلى العدالة من زاوية المساواة و التعويض و التعامل معها من زاوية الإنصاف و التوزيع للمنافع و الخيرات حتّى يستفيد الذين هم أقلّ حظّا.؟

1 ـ  العمل والنجاعة الاقتصادية:

” إنّ الإنسان في المجتمع الحديث يتصرّف وفق ما تمليه عليه المصلحة”[4]

العمل هو المعاناة المشفوعة بتعويض أو بربح وهو الفعل المتواصل الذي ينكبّ عليه الإنسان لينجز عمليات صناعية و ليبدع أشياء لها نفع معيّن و بالتالي “يعتبر العمل عملا منتجا إذ هو يساهم في خلق إنتاج ما” و من هنا جاء المطلب الكانطي الذي يقرّ بحاجة الإنسان إلى “أن يتعلّم أن يعمل” لأنّه “في حاجة إلى أشغال تستلزم إكراها معيّنا”[5]. جميع الناس يتّفقون في البحث عن أعمال من أجل تحصيل الرزق و جلب الخيرات و قد عبّر عن ذلك نيتشه بقوله:” البحث عن عمل من أجل الربح هذا ما يتساوى فيه تقريبا كلّ سكّان البلاد المتمدّنة”[6]. إنّ العمل شأن جماعي يساعد الناس على الوقوف ضدّ الاستسلام الآني للعنف و يجعلهم ينخرطون في شعور عام بالارتياح عندما يوفّر لهم وعدا بالربح الآجل و كما يقولجورج باطاي:” يقتضي العمل تصرّفا معيّنا تكون فيه نسبة الجهد المبذول قياسا إلى النجاعة الإنتاجية نسبة قارّة.”[7]على هذا النحو يرتبط العمل بتحقيق النجاعة و الفائدة و قد عبّر عن ذلك برودون بقوله: “إنّ العمل هو الفعل الذكّي الذي يعالج به الإنسان المادة و يحوّلها إلى شيء نافع” و بالتالي كان العمل مصدر الثروة و أساس الملكية و كما يصرّح جون لوك:” إنّي قد بدّلت بجهدي الخاصّ الحال العامة التي كانت عليها الأرض لذلك أصبحت ملكي الخاصّ بحكم ذلك الجهد”[8]. في هذا السياق تقريبا أكّد روسو:” إنّ العمل وحده هو الذي أعطى الفلاح الحقّ في منتوج الأرض التي حرثها”[9]. لكن ما نعني بالنجاعة ؟ النجاعة  Efficacité هي الفاعلية التي ترتبط بمعاني الإنتاج و الربح و الثروة و تحقّق الوفرة و الرخاء و الرّفاه و الاستهلاك، بعبارة أخرى النجاعة في العمل هو استعمال أفضل الوسائل الممكنة في أسرع الأوقات بأقلّ التكاليف لتحقيق أعلى النتائج. يقول آدم سميث حول ذلك: “إنّ الاستمرار في الإنتاج بتكاليف أقلّ تمكّن من البيع بأكثر ربح… و إنّ اختراع عدد كبير من الآلات التي تسهّل العمل و تختصره تمكّن إنسانا واحدا من القيام بمهمّة عدد كبير من الناس”[10]. النجاعة هي طريقة من التحقّق تضمن القدرة على إنجاز نوع خاصّ من الأداء يقع التخطيط لتحصيله بشكل مسبق، و بعبارة أخرى إنّ النجاعة هي أسلوب في العمل يتضمّن قصديّة منظّمة تمكّن من تحقيق هدف نفعي و تتحدّد كإستراتيجية تنظّم طريقة العمل ليضمن لنفسه ما أراد من منفعة بالتعويل على مبدأ الأداء. كما تتطلّب النجاعة توفير مجموعة من المستلزمات هي التخطيط المنظّم و طريقة في العمل ذات مراحل و تتكوّن من جملة من الوسائل و كذلك التحكّم في المجهودات عن طريق ضبط السرعة و الدقّة و توخّي المرونة و السهولة. إنّ مثل هذا القول يفيد أنّ التقسيم التقني للعمل داخل نظام رأسمالي تتحكّم فيه الدولة يحقّق الرخاء الاقتصادي الذي يفرز استقرار اجتماعيا ممّا يمكّن الأفراد من تحقيق مصالحهم الفردية في ظلّ مصلحة جماعية متوفّرة. ألم يقل ماركس و انجلز في البيان الشيوعي: “خلقت الرأسمالية خلال فترة حكمها التي كانت بالكاد مائة عام قوى إنتاجية أكثر جبروتا ممّا خلقته كلّ الأجيال السابقة معا” [11] ؟ ما نلاحظه أنّ النجاعة مفهوم بالأساس اقتصادي مرتبط بالوصول بالعمل إلى قدرة إنتاجية عالية و يتحرّك ضمن مبدأ المردود و كوجيتو البضاعة و العقل الحسابي و يربط العمل بالمصلحة و الربح و الثروة و المنفعة و بالتالي فإنّ كلّ عمل لا تحصل منه منفعة مادية هو عمل غير ناجح و كلّ عمل يحقّق المصلحة الآنية و المستقبلية و الخاصّة و الجماعية هو عمل ناجع، في هذا السياق يقول كاينز:” إنّ العالم لا تحكمه المشيئة الإلهية على نحو تتوافق فيه المصلحة الخاصّة مع المصلحة العامة لأنّ التجربة تؤكّد أنّ المصالح الجماعية تعبّر عن المصالح الفردية.” غير أنّ الحرص على المردودية أثناء العمل و على إنتاج كمّية أكبر من البضائع تزيد عن حاجيات السوق و الالتجاء إلى مضاعفة عدد ساعات العمل من أجل المزيد من الإنتاجية قد أدّى إلى تحويل مبدأ النجاعة إلى وسيلة يقع استثمارها اجتماعيا لتنمية رأس المال و تطوير الاقتصاد و إلى حصول استتباعات خطيرة أهمّها التفاوت و اللامساواة و الاستبعاد الاجتماعي و الاغتراب و التشيّؤ و التموضع. لكن ما تعني هذه الظواهر ؟ إنّ الاغتراب هو حالة من التفاوت بين الذات و ما يتحقّق منها تعلن عن فقدان الذات لذاتها لا سيما و أنّ العامل يكون المنتج من جهة و الغريب أمام ما ينتجه من جهة أخرى. في حين أنّ التشيُّؤ يتمثّل في أنّ الزيادة في قيمة عالم الأشياء قد حوّل الإنسان من مرتبة الصانع للأشياء إلى مرتبة المتماهي معها. أمّا التموضع فيعني أنّ الذات لم تعد تنتج ذاتا تعي ذاتها بل تحوّلت إلى موضوع فاقد قيمة ما يصنع بفعل التكرار الدائم لنفس العمل. حول هذا الموضوع يقول ماركس: “يصبح العامل سلعة تزداد وضاعة بقدر الزيادة في خلق السلعة” و يضيف أيضا: “كلّما زاد فقر العامل و تعاظم فقر عالمه الداخلي إلاّ و حلّ ما يملكه بشكل خاصّ.” [12] إنّ هذه النتائج الخطيرة سببها الاعتقاد في أنّ العمل إمّا أن يكون ناجعا أو لا يكون عملا و عدم الاكتراث بمبدأ العدالة و التغافل عن الظروف اللاإنسانية التي يعاني منها العمل و الوضع البائس. إنّ “العمل هو الوسيلة التي يستطيع من خلالها الناس تحسين دخلهم و لكن بسبب العلاقة بين الأجر المنخفض و الفقر قد لا تقدر الوظيفة وحدها على انتشال الأسرة من الفقر.”[13] بل إنّ ما حصل هو النتيجة العكسية أي المزيد من الاستبعاد الاجتماعي و العيش في أسر فقيرة و التداخل بين الأجر المنخفض و الفقر و محدودية الرعاية الصحّية و النقص في الروابط الأسرية و سوء التغذية. فهل كان آدم سميث على خطأ عندما بين:” أنّ الزيادة الكبيرة في منتجات مختلف الحرف و المهن الناتجة عن تقسيم العمل تؤدّي في مجتمع سليم القيادة إلى حالة من الرفاهة العامة التي تسري إلى آخر طبقات الشعب” ؟ ما منشأ الفقر و اللامساواة و البطالة و الحرمان و التفاوت و كلّ المشاكل الاجتماعي ؟ انتهينا إلى أنّ التضافر بين العمل و النجاعة أدّى إلى إحداث نجاعة دون عدالة عبّر عنها ايريك فايل بقوله: “إنّ المواطن هو بادئ الأمر عضو في مجتمع العمل و أوّل ما يطالب به هو جزء عادل من الإنتاج الاجتماعي.” [14] و المقصود هو الاحتجاج على الحيف و الإجحاف و الجور الذي يتعرّض له العمّال في مجتمع المصنع و الذي أدّى إلى إنتاج فوراق اجتماعية و تفاوت في الدخل و خلل في التمتّع بالخيرات بين الأفراد و الطبقات لكن ألم “يبتدع الحقّ ليقاوم اللامساواة” [15] ؟ أليست العدالة هي الحقّ ؟ فما ينتج عندما نربط بين واقع العمل و مبدأ العدالة ؟

2 ـ  العمل والعدالة الاجتماعية:

“إنّ العمل رغم صدوره عن لعنة يظلّ مرتبطا بالصلاة” هيجل[16]

العدل هو إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه و العمل على احترام حقوق كلّ إنسان، عند أفلاطون العدالة هي إحدى الفضائل الرئيسية الأربعة إلى جانب الحكمة و الشجاعة و الاعتدال إذ يقول في هذا السياق: “لا يسمح الإنسان العادل لأيّ جزء من أجزاء نفسه بأن يقترف شيئا غريبا عنه و لا يدع مبادئ نفسه الثلاثة تتدخّل في شؤون بعضها البعض، فهو صديق نفسه ينّسق بين أقسامها الثلاثة و يربط بين عناصرها بحيث يصبح شخصا واحدا بعد أن كان متعدّدا.” تفيد العدالة في معناها الإتيمولوجي ما هو مطابق للحقّ فهي تعود في الأصل إلى كلمة أي juris-jus  الحقّ. و قد اقترنت العدالة  Diké  بالمساواة و الفضيلة و بالتالي فإنّ سجلّها أخلاقي يوكل إليها مهمّة احترام حقوق الآخرين. لكن هذا المعنى تغيّر في الفترة المعاصرة ليرتبط بتوزيع الثروات و المنافع الاقتصادية و بالمصلحة العمومية التي تقتضي أشكالا من التفاوت حتّى تتحقّق لتصبح ناتجة عن ضرب من الاتّفاق العام. في نفس السياق يشير مسكويه:” ليست العدالة جزءا من الفضيلة و إنّما هي الفضيلة كلّها” و يقصد أنّها رأس المأمورات و أساس العمران و ذهابها يؤدّي إلى خراب العمران و تفشّي الظلم و لذلك نجدأبيقور يقول:” لا وجود لعدل في ذاته بل العدل تعاقد مبرم بين المجتمعات تكون الغاية منه ألا يلحق أحدا ضررا بغيره و ألا يلحقه منه ضرر.” و يرى نيتشه ما يلي: “كلّ شيء له قيمة و كلّ شيء يمكن دفع ثمنه ذلك هو القانون الأخلاقي للعدالة.” [17] أمّا  سبينوزا فإنّه يعرّف العدالة على أنّها:” استعداد دائم للفرد لأن يعطي كلّ ذي حقّ ما يستحقّه طبقا للقانون المدني.” و قد جرت العادة أن يقع التمييز بين عدالة تعويضية و عدالة توزيعية و تتمثّل العدالة التعويضية في تعويض المظلوم من الظالم على أساس التساوي و وفق مبدأ العين بالعين و السنّ بالسنّ سواء كان ذلك في المعاملات الإرادية الناشئة عن تفاهم الطرفين (قران و بيع و شراء) أو في المعاملات غير الإرادية (السرقة و الاعتداء و الشتيمة). هذا النوع من العدالة يقوم إذن على قاعدة المساواة الرياضية نظرا لأنّ التعويض يكون عادلا إذا ما وجدت مساواة حقيقية بين الطرفين كانت لهما نفس القيمة. في هذا السياق يصرح أرسطو:” عرفنا الجائر على أنّه المخالف للقانون و غير متساو أمّا العادل فهو ما ينصّ عليه القانون و ما يتوافق مع المساواة [18].” أمّا العدالة التوزيعية فهي الصادرة عن السلطة و المتمثّلة في توزيع الخيرات و الأموال و الفوائد حسب الاستحقاق و الجدارة و الموهبة و الكفاءة و المجهود المبذول نظرا لأنّه ليس من باب العدل توزيع نفس المقادير على أشخاص غير متساوين. حول هذه الفكرة يقول المعلّم الأول: “أمّا في العدالة الجزئية و ما ينتج عنه من حقّ فالنوع الأوّل منها يظهر على مستوى القسمة في الكرامة و الثروات أو على مستوى الامتيازات الأخرى التي تعمّ أفراد المدينة و هذه الامتيازات قد تكون موزّعة بين المواطنين داخل المدينة بطريقة متساوية وغير متساوية أمّا النوع الثاني فيخصّ العدالة المرتبطة بالعقود.”[19] هذا التمييز بين العدالة التعويضية و العدالة التوزيعية يذكّرنا بالتمييز الذي قام بهأفلاطون في محاورة الجمهورية بين المساواة العددية التي تنظر إلى الأفراد على أنّهم متساوين مثل أسنان المشط و المساواة الهندسية التي تقتضي معاملة الأفراد حسب حاجياتهم و استحقاقاتهم. إذ يقول حول هذا الموضوع: “إنّنا لسنا جميعا سواء و إنّما تتباين طبائعنا و توجد بيننا فروق كامنة تجعل كلاّ منّا صالحا لعمل معيّن”[20] على هذا النحو بدل إقامة علاقات على أساس المنافسة و الصراع و التصادم في إطار العمل و المسألة الاجتماعية يكون من الضروري كما عبّر عن ذلك ايريك فروم إقامة علاقة تعاون عادلة بدونها يستحيل إيقاف التوجّه الأعمى للآلة الاجتماعية. بيد أنّ العمل في شكله الحالي غير عادل و ذلك لتداخل عوامل متفرّقة، فالعامل لا يتقاضى أجرا يعادل قيمة ما ينتجه بل إنّ ثمرة منتوجه تسرق منه، كما أنّه لا يتقاضى مقابل احتياجاته. زد على ذلك اللامساواة التي تجد تبريرها في التفاوت الطبيعي ذكاء و موهبة، و بناء على ذلك يصبح العامل رهين أبشع المساومات و سوء ذرائع الاستغلال استجابة لمنطق السوق القائم على العرض و الطلب و الصراع و المنافسة. من هذا المنطلق يرى أحد منظرّي مدرسة فرانكفورت هربرت ماركوز أنّ: “الرّفاه و الفعالية و افتقاد الحرّية في إطار ديمقراطي هذا ما يميّز الحضارة الصّناعية المتقدّمة… (بعد أن) تحوّل الجسد و الفكر تحت سلطان مبدأ المردود إلى أدوات للعمل المغترب…” [21] إنّ التزام تنظيم العمل باحترام مبدأ العدالة يؤدّي إلى التفريط في قيمة النجاعة من أجل تحقيق مبدأ المساواة و منع تراكم الثروة و تعطيل النموّ الاقتصادي و غياب المنافسة و التقليص من فرص الربح. “إذا جعلتم العدالة غير نافعة تماما فإنّكم ستخربّون بذلك ماهيتها و ستعلقّون الإلزام الذي تفرضه على البشر”[22] على أي نحو تتحدّد حقوق الأفراد من الناحية الاقتصادية ؟ هل يمكن أن نتحدّث عن عدالة في ظلّ التسليم باللامساواة ؟ و هل من العدل أن تمنح المهارة أو الموهبة الحقّ في جراية أرفع ضمن مجتمع إنتاجي تعاوني ؟ ما معنى أن يصرّحأرسطو أنّ العدل فضيلة تامّة و مطلقة و لكنّها شخصية محضة و متعدّية إلى الغير ؟

3 ـ العمل وإتيقا الإنصاف:

“إنّ العدالة من غير النجاعة ليس لها معني وإنّ النجاعة لا تفيد شيئا من غير العدالة “[23]

 إذا كانت النجاعة هي القوّة عند باسكال فإنّ” العدالة دون القوّة عاجزة و القوّة دون العدالة مستبدّة” لذلك يجب أن نضع العدالة و القوّة معا و أن نحرص على أن يكون العادل قويّا و القوّي عادلا”، أمّا إذا كانت النجاعة تعني المصلحة عند ايريك فايل فإنّ”العدالة دون مصلحة وهم و النجاعة دون عدالة تضليل و فساد” و يقصد أنّ ما يطرحه العمل من مشاكل اجتماعية يمكن أن نجد لها حلاّ في المجال السياسي الأخلاقي و ليس في المجال الاقتصادي، و يؤكّد على أنّ النجاعة تفترض اعتبار متطلّبات الواقع و المصلحة و التنظيم و كلّ مقتضيات الحساب العقلي، أمّا العدالة فهي تنظيم المصالح الفردية في إطار المصلحة العامة و هذا هو مبدأ الإنصاف عينه الذي يجعل المواطن يطالب بجزء عادل من الإنتاج الاجتماعي، و يصرّح حول هذه الفكرة: “أنّ الثروة و الإنتاجية و وضع المجموعة الخارجي و تقاليدها الخاصّة و كامل أسلوب عيشها عناصر تتدخّل في التحديد الملموس لذلك الإنصاف,.”[24] لو كانت النجاعة تعني المنفعة فإنّها تستوجب التفكير في المعنى التوزيعي للعدالة و قياسا على ذلك يبحث ستوارت مل في تحديد المفهوم باستحضار المعاني الاشتقاقية مشيرا إلى علاقة العدالة بالقانون و العرف مبيّنا أنّ اللفظة اللاتينيةJustum   مشتقّة من  Jussum   أي ما هو منظّم و أنّ اللفظة الإغرقية  Dikaion  تعني في الأصل تقديم قضية عدلية و اللفظة الانجليزية right   تفيد القانون و الحقّlaw.   من هذا المنطلق تبدو العدالة مالكة لعلاقة متينة بالمنفعة و أنّ الشعور بالعدالة يقوم على أمرين هما الرغبة في معاقبة من أحدث ضررا و وجود أشخاص أصابهم ذلك الضرر. و تبعا لذلك يذكر ستوارت مل تصوّرين للعدالة: الأوّل يطالب العامل بأن ينتج ما ينتجه الآخرون لا غير، أمّا الثاني فيرى أنّ المجتمع يستفيد من العامل الذي يكون مردوده أعلى و خدماته أنجع و لذلك يجب عليه أن يمنحه أجرا أعلى و ألاّ يعطي إلاّ كمّية أقلّ من وقته و جهوده. ما يلاحظه مل هنا هو أنّ هذين التصوّرين للعدالة متضادّان و يستحيل إقامة الانسجام بينهما و يرى أنّ ” النجاعة الاجتماعية هي وحدها القادرة على الحسم بين هذه و تلك” [25]. فإذا كانت العدالة تعرّف على أنّها منفعة عمومية تقترن بالحقّ فإنّ الصالح العام هو الذي يكمل أن يكون لشخص الحقّ في ضمان ما يجب أن ينتفع و يتمتّع به. يستحضر ستيوارت مل لتوضيح أطروحته عدّة أمثلة تتعلّق بالحقّ في القصاص و المكافآت و توزيع الضرائب و يقرّ أنّ مفهوم المنفعة لا يحيل إلى السجلّ الأخلاقي فحسب بل و كذلك إلى حقل البحوث الاقتصادية. يظهر أنّ النظرية النفعية l’utilitarisme عند مل ليست مجرّد سعي أناني وراء المصلحة الشخصية وهي ليست إقصاء للعدالة بل إنّها نظرية اقتصادية تستحضر السعادة كغاية للإنسان و ترى أنّ المصلحة العامة هي التي لها أولوية على المصلحة الخاصّة و أنّها لا تتحقّق إلاّ بضمان الأولى. إنّ تجاوز التوتّر الحادّ الذي أوجده واقع العمل في عصر العولمة بين مبدأ العدالة و قيمة النجاعة لا يتمّ إلاّ باللجوء إلى مفهوم الإنصافEquité لكونه ينبع من الشعور الطبيعي بما هو عادل وهو أسمى من القانون الوضعي و يتمثّل في احترام احتراما كلّيا ما يحصل عليه كلّ واحد من البشر . هنا تطرح فكرة العدالة التوزيعية التي نظر إليها جان راولز كمرادف للإنصافEquité   التي تحقّق في الآن نفسه المصلحة الفردية في إطار ضمان استقرار المصلحة الكونية. يربط فيلسوف الطريق الثالث بين العدالة Justice    و الإنصاف و يرى أنّ طريقة توزيع الخيرات الأوّلية بين أفراد المجتمع هو أمر أساسي إذ أنّ “معرفة ما إذا كان مجتمع ما عادلا لا تقوم إطلاقا على كمّية الخيرات الأوّلية بل على طريقة توزيعها على من هم الأقلّ حظّا فحسب”. يعطي راولز أهمّية كبيرة للحرّيات مثل حرّية الترشّح للوظائف العامة و حرّية التعبير و حريّة التفكير و المعتقد و حقّ الملكية و عدم انتهاك حرمة الشخص. فهذه حرّيات و حقوق تحدّدها الدولة. كما أنّ المساواة تقتضي ألاّ يؤثّر المنشأ الاجتماعي سلبا على الأفراد و يحاول أن يجمع بين الحرّية الاقتصادية و الحماية المدعّمة للحرّيات و التشريعات الاجتماعية التي تسمح بتحسين وضعية من هم أقلّ حظّا. يحدّد راولز مبادئ العدالة من خلال فرضيتين هما: الوضع الأصلي و حجاب الجهالة و بالانطلاق من مبدأ الحرّية و مبدأ الاختلاف ذلك أنّه في وضع شبيه بالحالة الطبيعية عند منظرّي العقد الاجتماعي و دون معرفة مسبقة بالوضعيات الاجتماعية يكون الأفراد قادرين على اختيار عقلي يجعلهم يتّفقون على تعريف العدالة من خلال الإنصاف و ذلك بضمان الحرّيات الأساسية و النظر إلى الاختلاف و التفاوت على أنّه ضرب من المساواة الديمقراطية، إذ يقول في هذا السياق:” يجب أن يكون لكلّ شخص في المقام الأوّل حقّ معادل للنظام الأكثر انتشارا للحرّيات الأساسية التي يتساوى فيها الجميع، نظام يكون متوافقا مع نفس النظام الذي للآخرين.” [26] المبدأ الأوّل يتمثّل في الحرّية المرتبطة ببنية المجتمع الأساسية و يقرّ بأنّ للأفراد الحرّية في فعل أمر ما أو الامتناع عن القيام به و قد صاغه راولز على النحو التالي: “يجب أن يكون لكلّ شخص نفس الحقّ في أشمل نسق من الحرّيات التي يتساوى فيها الأفراد” [27]. هذا هو مبدأ المساواة المرتبط ببنية المجتمع و المنقسم إلى جانب سياسي و يتعلّق بالحرّيات الأساسية و جانب اقتصادي و يتعلّق بمسألة توزيع الخيرات و الثروة، لكن الحقّ السياسي عند راولز له الأولوية على المنفعة الاقتصادية، إذ لا يسمح بتقليص الحرّيات الفردية باسم تحقيق عدالة اجتماعية. في حين ينصّ المبدأ الثاني على الاختلاف الذي يقول عنه: “يجب على أشكال التفاوت الاجتماعي و الاقتصادي أن تكون منظّمة على نحو يجعلنا قادرين على أن ننتظر منها أن تكون في آن واحد لصالح كلّ فرد و أن تكون مرتبطة بمواقع و وظائف مفتوحة للجميع.”[28] يدلّ هذا المبدأ الثاني للعدالة على الفهم الليبرالي للحقّ وهو “مبدأ مساواة بالمعنى القويّ لأنّه بالنسبة إلى شخصين إذا لم يكن هناك توزيع يحسن وضعية الاثنين فإنّه يجب تفضيل توزيع آخر عليه”. زد على ذلك أنّه يفسّر فكرة انتفاع الأفراد من المنفعة العمومية ضمن نظام تسلسلي على أنّها تقتضي الابتداء بتحسين رفاه من هم الأقلّ حظّا ثمّ الصعود إلى منهم الأكثر حظوة”. أمّا مفهوم الوضع الأصلي فقد اعتمدهراولز كطريقة في العرض ليؤسّس نظريته في العدالة بما هي إنصاف، إذ لو نفترض أناسا يجهلون الوضع الذي سيكون لهم في المجتمع و لهم معرفة دنيا بالطبيعة الإنسانية و يفضلّون الحصول على خيرات أوّلية و لنفترض أنّنا طلبنا منهم أن يختاروا تعريف للعدالة تنظّم لهم المجتمع الذين يريدون العيش فيه فإنّهم سيرفضون ربط العدالة بالمنفعة العامة كما نظر إليها النفعيون و سيختارون المبادئ التي حدّدتها نظرية العدالة كإنصاف، أي أنّهم سيختارون الحرّيات الأساسية التي يكونون متساوين في التمتّع بها و سوف يقبلون بالتفاوت الاجتماعي و الاقتصادي لكنّهم سيشترطون حماية مصالح من هم أقلّ حظّا.

خلاصة القول إنّ العدالة كإنصاف هي ضرب من الحدّ الأقصى من الرّفاه بالنسبة إلى أغلب أفراد المجتمع أي يقع تبنّي مبدأ العدالة التوزيعية (كلّ حسب مجهوده) بدل العدالة التعويضية (كلّ حسب حاجته)، و قد لخّص راولزالمشكلة في الصراع بين النفعيين و الماركسيين كما يلي: “يتمثّل المشكل في معرفة ما إذا كان فرض أعباء على عدد ضئيل قابل للتعويض بأكبر مجموع من المنافع التي يمكن أن تكون للآخرين، أم أنّ العدالة تقتضي التساوي في الحرّية بالنسبة إلى الجميع و لا تسمح إلاّ بالمساواة الاقتصادية الاجتماعية التي تكون في صالح كلّ فرد…”[29] إنّ الإنصاف عند راولز هو الحلّ الممكن لتجاوز خطأ الاشتراكية التي عظّمت العدالة الاجتماعية و المساواة على حساب النجاعة و الحرّية الفرديّة و قصد إصلاح مأزق الرأسمالية التي نادت بالملكية الخاصّة و حرّية السوق و أهملت الحقوق الاجتماعية و الإنسانية للعمل، ليكون بذلك أحسن طريق ثالث يدافع عن مبدأ المساواة في حقّ الحريّة للجميع دون أن يتنافى ذلك مع وجود تفاوت و لامساواة تبرّر دوما بالنظر إلى حصول المنفعة العامة و المصلحة العمومية. يصرّح في هذا السياق: “إذا لم يكن ثمّة ما يستوجب أن يكون توزيع الثروة و المداخيل على نحو متكافئ فلا بدّ أن يكون لفائدة كلّ شخص و أن تكون مواقع السلطة و المسؤولية في نفس الوقت في متناول الجميع… إنّنا ننظّم أشكال التفاوت الاقتصادي و الاجتماعي على نحو يستفيد منه الجميع.” [30] لا تعزل نظريةراولز ما هو عادل عمّا هو خير و لا تعتمد تعريفا لما هو عادل على أساس أنّه تجميع أو بلوغ الحدّ الأقصى للخير كما يفعل النفعيون بل تقول بأولوية العدالة التوزيعية على المساواة. و تنتهي إلى الإقرار بأنّ “العدالة هي فضيلة المؤسّسات الاجتماعية” لأنّ ما يهمّ هو معرفة المجتمع العادل و ليس الفرد العادل و يرى أنّ ما هو أخلاقي يتفوّق على ما هو اقتصادي و بالتالي يجب أن يكون نمط الحياة اختيارا عقلانيا و ليس مجرّد حساب نفعي. اللافت للنظر أنّ فيلسوف الليبرالية الجديدة يخضع مفهوم العدالة إلى التطوّر و التغيّر و لا يعتبره قيمة ثابتة مطلقة لأنّ ما هو عادل خاضع لصيرورة الزمن و تنوّع المجتمعات و لأنّ ما هو عادل في هذه الهوّية الثقافية يمكن أن يكون غير عادل في هوّية ثقافية أخرى. لكن كيف يكون اعتبار راولز من أنصار الخصوصية و احتسابه كأحد المنتسبين إلى تيّار الجماعاتيي  Communautariste و في الآن نفسه يعتبره البعض الوريث الشرعي للنزعة الكونية Universalité  الكانطية ؟ ألا يوجد تناقض بين الحديث عن العدالة و الإقرار بأشكال من التفاوت الاقتصادي و الاجتماعي ؟ فيم تتمثّل المقاييس المعتمدة في توزيع المنافع الاقتصادية و الاجتماعية ؟ ما وجه الارتباط بين مبدأ الحرّيات الأساسية و مبدأ توزيع المداخيل و الثروة ؟ ألا “تغمر الفرحة الإنسان حين يعطي و يشارك و ليس حين يستغلّ و يكنز” ؟

خاتمة:

“إنّ قواعد الإنصاف و العدالة تخضع كلّيا للحالة الخاصّة و الوضعية التي يوجد فيها الناس” [31]

 إنّ العمل ظاهرة مرتبطة منذ القدم بتحقيق الحاجات الضرورية للإنسان وهي لم تستقرّ على حال بل شهدت عدّة تحوّلات، ففي البداية كانت المجتمعات القديمة تميّز ين الحياة التأمّلية و الحياة العملية و بين العمل الفكري و العمل العضلي و كانت تستهجن المجهود العضلي و تجعله من اختصاص العبيد و لذلك فهي تقوم بطرده من دائرة العمل الناجع و كانت تنظر إلى العلم و المعرفة و التأمّل على أنّها الأعمال الحقيقية النافعة، لكن مع ظهور الحداثة و تفجّر الثورة الصناعية و تحرّر الجسد وقعت المماهاة بين العمل العضلي و العمل الذهني و أصبح مجهود الإنسان يمتلك قيمة تداولية في نظام الأجرة و بدأ تقسيم جديد للعمل على أساس التسلسل و الوظيفة و صار كلّ عامل منشغلا بصناعة معيّنة. لكن رياح العولمة عصفت بهذا التصوّر الكلاسيكي للعمل و أنهته إلى الأبد عندما استبدلت علاقات الإنتاج المادية بين أصحاب رؤوس الأموال و العمّال بواقع افتراضي جديد يكون فيه العمل لاماديا Immatériel     أي مجرّد وسيط رمزي يحقّق التبادل ضمن سوق يتميّز بالتحرّر في كلّ شيء و تغطّي بضائعه كافّة أرجاء المعمورة و جميع الأسواق. بيد أنّ المعضلة الكبرى التي تطرح في المجال الاقتصادي هي معضلة تحقيق العمل العدالة و النجاعة في الآن نفسه بالنسبة إلى العامل وإلى المجتمع الذي ينتمي إليه فردا و الإنسانية لأنّ الدولة قد تضحّي بالعدالة و تنتج الفوارق و اللا مساواة من أجل تحقيق نجاعة قصوى و نموّ اقتصادي مشجّع للاستثمار و قد تلجأ إلى التضحية بالنجاعة و تؤثّر الركود الاقتصادي و الانكماش من أجل معالجة بعض المشاكل الاجتماعية و توفير الحماية لمن هم أقلّ حظّا و بعبارة أخرى يحاول النظام السياسي الرشيد الحصول على نجاعة عادلة و عدالة ناجعة. إذا كان من غير الممكن أن نتحدّث عن عمل بلا نجاعة فذلك لأنّه لا يمكن لصاحب رأس المال أن يوظّف أمواله دون أن ينتظر منها ربحا و مردودية و فائض قيمة و لكن ما لا يمكن قبوله هو أن يتضاعف فائض القيمة على حساب العمّال أنفسهم خاصّة و أنّ “الناس لا يرغبون في أن يكونوا أثرياء و إنّما في أن يكونوا أكثر ثراء من الآخرين”. من هذا المنطلق لا يمكن أن تكون النجاعة وحدها للأصحاب رؤوس الأموال بل يجب أن يراعى الوضع المادي للعامل حتّى تكون النجاعة نفسها عادلة من الناحية الاقتصادية و الاجتماعية، كما أنّ الغاية من العمل نفسها لا تكون مرتبطة بزيادة الثروة و تفقير العامل ذهنّيا و إنّما يراعى في الإنسان سعيه إلى تطوير وعيه باستمرار و تنمية قدراته و نحت شخصيته و حفظ كيانه و كما يقول بول ريكور في كتاب “التاريخ و الحقيقة”:” أن تكون إنسانا ليس معناه أن تعمل عملا محدّدا فقط و إنّما أن تجنح إلى أفق كلّية الوجود الإنساني الذي أسمّيه العالم أو الوجود.”[32] إنّ أكثر الناس لا يعملون إلاّ تحت ضغط الحاجة كما بيّن ذلك فرويد و هذا يعني أنّ الغاية من العمل في التمثّل العفوي هو إشباع الرغبات و تلبية الحاجات و لكن وضعية العمل في المجتمع الصناعي قد جعلت الإنسان يطمح إلى ما هو أفضل من المتعة المادية و الرخاء الاقتصادي و يتوق إلى تحصيل السّعادة بمعنى الرضا الروحي على الذات و الاستقرار النفسي، يصرّح فروم في هذا السياق: “يبدو أنّ حصول كلّ الناس على الثروة سيوفّر بدون استثناء السّعادة للجميع”‘ [33]، و المقصود بالسّعادة هنا ليس تحقيق إنتاج لا محدود و استهلاك لا نهاية له و لا أيضا إشباع حاجة ذاتية بل خلق ظروف يمارس ضمنها الناس نعمة الحياة الكريمة و رغد العيش. في هذا السياق قال ايريك فروم:” إنّ العمل هو الذي يحدّد وضع الإنسان بالإضافة إلى الطبيعة وإلى الآخرين” [34]، و يدلّ بذلك أنّ العمل يمكن الإنسان من السيطرة على الطبيعة و السيادة على الكون و يجعله يؤدّي وظيفة الاستخلاف و التعمير على أحسن وجه بتحويل المعرفة إلى قوّة و المادة إلى طاقة و استغلال ذلك للتحكّم في الزمان و مراقبة المكان لأنّ “حضارتنا نشأت منذ اللحظة التي بدأ فيها الإنسان مراقبة الطبيعة مراقبة فعّالة” [35] و منذ أن جعل من سعيه الدؤوب في الأرض شحنة يستمدّ منها الأمل في البقاء. “يتعيّن علينا ألا نتناسى روعة الأمل العظيم و ضخامة الإنجازات المادية و الفكرية التي حقّقها العصر الصناعي” [36]، فماذا عساها أن تكون رسالتنا على الأرض غير أن نتعلّم كيف ننجز عملا منصفا يوازن بين العدالة و النجاعة ؟ و متى يأتي اليوم الذي نقول فيه إنّ عملناTravail   ارتقى من مستوى الحرفةŒuvre   و المهنة و الوظيفة إلى مستوى الفعلAction   الإبداعي الخلاّق المغيّر لوجه التاريخ و المحقّق لقيم الحبّ و الفرح و الأمل للإنسانية جمعاء ؟

الهوامش:

[1]  هنري أرفون، فلسفة العمل، ترجمة عادل العوا، منشورات عويدات، بيروت، باريس، الطبعة الثانية 1989، ص21

[2]  أمانويل كانط، تأملات في التربية، ترجمة محمود بن جماعة، دار محمد علي الحامي للنشر، صفاقس، تونس، 2005

[3]  سمير أمين، الطبقة والأمة، دار الطليعة بيروت، 1980

[4] Eric Weil, Philosophie politique, Paris Vrin 1956, pp183

[5]  عمانويل كانط، تأملات في التربية، ترجمة محمود بن جماعة، دار محمد علي الحامي للنشر، صفاقس، تونس، 2005،ص 48

[6]  فريدريك نيتشه، العلم الجذل، ترجمة سعاد حرب، دار المنتخب العربي، 2001، ص62

[7] Georges Bataille, l’Erotisme, Editions minuit, Paris, 1957, pp46

 [8]  جون لوك، في الحكم المدني، ترجمة ماجد فخري، اللجنة الدولية لترجمة الروائع بيروت، 1959ن ص154

[9]  جان جاك روسو، أصل التفاوت بين الناس، ترجمة بولس غانم، موفم للنشر الجزائر 1991

[10]  آدم سميث، ثروة الأمم، طبع سنة 1776 في نسخته الإنجليزية،ترجمه إلى العربية حسني زينة

 [11]  تيمونز روبيرتس و أيمي هايت، من الحداثة الى العولمة، ترجمة سمير الشيشكلي، سلسلة عالم المعرفة 309 نوفمبر 2004، ص50

[12] Karl Marx, Manuscrits de 1844 , Ed. Sociales

[13]  جون هيلز وجوليان لوغران، الاستبعاد الاجتماعي، ترجمة محمد الجوهري، سلسلة عالم المعرفة 344 أكتوبر2007، ص 202

[14] Eric Weil, Philosophie politique, Paris Vrin 1956, pp183

[15] Alain, Propos sur les pouvoirs, in éléments d’ethique politique, Paris, Ed, Gallimard, Coll.Folio-Essais, 1985, p308

[16]  هنري أرفون، فلسفة العمل، ترجمة عادل العوا، منشورات عويدات، بيروت، باريس، الطبعة الثانية 1989، ص21

[17]  فريدريك نيتشه، أصل الأخلاق وفصلها، ترجمة حسن قبيسي، طبعة مجد بيروت، 1983

[18] Aristote, Ethique à Nicomaque, Trad de J. Tricot, Editions Vrin, 1983, p224

[19] Aristote, Ethique à Nicomaque, Trad de J. Tricot, Editions Vrin, 1983, p224

[20]  أفلاطون، الجمهورية، ترجمة فؤاد زكرياء، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1974 ص235

[21]  هربرت ماركوز، الانسان ذو البعد الواحد. ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت 1988

[22] David Hume, Enquete sur les principes de la morale, Traduction De A.Leroy, éd. Aubier Montaigne, pp37

[23] Eric Weil, Philosophie politique, Paris, Vrin, 1956, pp183

[24] Eric Weil, Philosophie politique, Paris, Vrin, 1956, pp184

[25] John Stuart Mill, l’utilitarisme, Flammarion, 1988

[26] John Rawls, Théorie sur la justice, Ed du Seuil, Paris, 1993,p91

[27] John Rawls, Théorie sur la justice, Ed du Seuil, Paris, 1993,p91

[28] John Rawls, Théorie sur la justice, Ed du Seuil, Paris, 1993,p91

[29] John Rawls, Théorie sur la justice, Ed du Seuil, Paris, 1993,p59

[30] John Rawls, Théorie sur la justice, Ed du Seuil, Paris, 1993,p91

[31] David Hume, Enquete sur les principes de la morale, Traduction De A.Leroy, éd. Aubier Montaigne, pp37

[32] Paul Ricœur, Histoire et Vérité, Editions le Seuil, Paris 1955

[33]  ايريك فروم، الإنسان بين المظهر والجوهر، سلسلة عالم المعرفة عدد140

[34]  هنري أرفون، فلسفة العمل، ترجمة عادل العوا، منشورات عويدات، بيروت، باريس، الطبعة الثانية 1989

[35]  ايريك فروم، الإنسان بين المظهر والجوهر، سلسلة عالم المعرفة عدد140

[36]  ايريك فروم، الإنسان بين المظهر والجوهر، سلسلة عالم المعرفة عدد140

كاتب فلسفي