توصل الجانبان السعودي والإيراني في بكين إلى اتفاق تاريخي ينهي مرحلة من القطيعة الدبلوماسية بين البلدين استمرت نحو سبع سنوات.
وتكمن اهمية هذا الاتفاق فيما يعززه من العلاقات الثنائية بينهما، وما يخففه من حدة التوتر في المنطقة، وما يفتحه من آفاق واسعة للتهدئة والاستثمار وإيقاف الحملات الاعلامية المتبادلة، كما وأنه يأتي في وقت حساس تتصاعد فيه المواجهة غير المباشرة بين ايران وحلفائها وبين اسرائيل التي ضغطت كثيرا باتجاه تكوين حلف عربي في مواجهة ايران واختراق المنطقة بالتطبيع.
فمنذ أواسط 2016 قُطعت العلاقات الايرانية السعودية بعد أن سحبت الأخيرة دبلوماسييها من طهران احتجاجا على قيام مواطنين غاضبين باقتحام سفارتها وقنصليتها في طهران ومشهد بسبب اعدام السلطات السعودية رجل الدين السعودي الشيعي، نمر النمر.
وقد بذلت دول عربية منها العراق جهودا كبيرة في انهاء القطيعة وتقريب وجهات النظر، ولاشك أن تلك الجهود أسهمت أخيرا في إنضاج المساعي وصولا الى اتفاق بكين.
اللافت ان الاتفاق حظي بترحيب وارتياح واسع في المنطقة العربية على الصعيدين الرسمي والشعبي، وهذا ما يكشف عن مدى رغبة شعوب المنطقة في تجنب الخلافات والتوترات السياسية كونها أدت إلى مشاكل أمنية واقتصادية جسيمة ألحقت ضررا كبيرا بها.
ومع ما يفتحه اتفاق بكين من آفاق واعدة ستنعكس ايجابا على دول المنطقة وقد تنهي الحرب في اليمن، وتعزز من فرص عودة سورية الى الجامعة العربية، وتساند العراق الناهض من دوامة العنف والمشاكل الاقتصادية.
هناك أطراف دولية سجلت امتعاضها من هذا الاتفاق، وأول هذه الأطراف هي اسرائيل التي كشف مسؤولون فيها قبل وسائل اعلامها عن شعور رسمي بالإحباط من التقارب الايراني السعودي، لأن الاتفاق يعني تعثر مساعي التطبيع في المنطقة ويخفف الضغط عن إيران التي شهدت عملتها انتعاشا واضحا بعد ساعات من الإعلان عن اتفاق بكين.
ببساطة قد تلقت اسرائيل صفعة قوية بهذا الاتفاق وتحطمت آمالها باختراق منطقة الخليج والانتصار على ايران بحربها الناعمة، فالمملكة السعودية تمثل ثقلا سياسيا ودينيا في الاوساط العربية والاسلامية وتقاربها مع ايران سيفتح أبوابا لحوارات مماثلة بين ايران ودول عربية اخرى مثل مصر والاردن والبحرين وربما المغرب وتونس.
ولاشك أن الاتفاق يسجل نقلة نوعية في طبيعة التعاطي الرسمي مع مشاكل المنطقة ترجيحا للحوار بعيدا عن لغة التهديد والعنف التي استنزفت قدرات دول المنطقة الاقتصادية والبشرية، وهو يضاف الى جهود ايرانية حثيثة هذه الايام تهدف الى إطفاء الحرائق في المنطقة ولاسيما في الملفين السوري واليمني.
وهذه المساعي كلها وما يثمر منها يشكل ضربة للمشروع الاسرائيلي – الامريكي الرامي الى نشر الصراعات في الشرق الاوسط وتحويل دولها الى دول فاشلة يسهل التحكم بها.
بقي ان نقول ان امريكا ليست اقل اضطرابا من توقيع اتفاق بكين، فهي فوجئت به لأنه أحيط بسرية تامة، والسعودية بحسب التصنيف الامريكي تعتبر حليفا استراتيجيا كانت ادارة بايدن تنتظر منها ان تحيطها علما بهذا الاتفاق. لكن يبدو ان القيادة السعودية اختارت ان توجه رسائل عميقة للإدارة الامريكية بإخفاء هذا الاتفاق مرة، وتوقيعه في بكين، الخصم اللدود لأمريكا مرة أخرى.
وظهر الامتعاض الامريكي واضحا في تعليق الخارجية الامريكية الذي سارع للتشكيك بنوايا ايران في الالتزام ببنود الاتفاق، ومن المتوقع أن تلجأ إدارة بايدن خلال الساعات المقبلة الى إصدار حزمة عقوبات ضد ايران تعبيرا عن غضبها وللتشويش على الاتفاق ولإيقاف انتعاش العملة الايرانية.
ما نرجوه هو أن يتم إعادة العلاقات الايرانية السعودية سريعا على أسس من الثقة وحسن النوايا وأن تتوقف الحملات الاعلامية المتبادلة، وأن تتجه بوصلة جميع الدول الى قضية المسلمين الأساسية فلسطين دعما لشعبها الذي يعاني الأمرين جراء سياسة البطش والتجويع الاسرائيلية.