يقول تعالى ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ والأصل ان كل شيء وكل أمر بيد الله فان لم ييسره الله فلن يكون ، لكن الله اختص هذا الامر الجلل وكانه “لاغيره ” مما لايمكن تغييره الا بامر من الله ، و مرد ذلك ان الضال “افتراضا” لا يرى الرشد والا لكان اختاره ، ولكن الجاري غير ذلك ، فانه وان رآه لن يتبعه ، ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ﴾ أي بينا لهم الهدى والضلال فاختاروا الضلال !
، عن ابن عباس وغيره ، فاستحبوا العمى على الهدى أي اختاروا الكفر على الإيمان . وقال أبو العالية : اختاروا العمى على البيان . والسدّي يقول : اختاروا المعصية على الطاعة . فأخذتهم صاعقة العذاب ، انتهى كلامهم فتركهم الله في ضلالهم ولو شاء سبحانه لفعل ، ولو اراد أحد غير الله لم يقدر وهكذا حصل مع أخيهم صالح عليه السلام ، ومع نوح إزاء قومه قرابة الف عام ، ومع من قبلهم ومن بعدهم من النبيين وصولا الى نبينا الهادي العظيم باذن ربه ازاء خير أمة اخرجت للناس ، وحصل أيضا مع الفلاسفة والمصلحين ، فلمَ برأيك يختار الإنسان الضلال وإن راى نقيضه ، الا ترى ذلك غريبا ،!
عندي -بعد امر الله ومشيئته -ان لاغرابة فيه ، ذاك ان الضلال مكمنه الهوى ومامنه التعصب ، فيكره الرجل طرفا او طائفة “بالهوى” او بالتنشئة الخاطئة او الظن او السماع فيعتاد ذلك او يحبه او يشبّ عليه ثم يدافع عنه “بالتعصب” ، فتريد ان تُفهمه فلا يفهم وتقنعه فلا يلزم ، فترى الرجل يصنع لنفسه غشاوة من الهوى ويسدلها على عينيه من أجل التعصب ، فاذا كره “الاخوان” قال لك ان مصر افضل بيد السيسي ، حتى وان راى السيسي يظلم ويفقر الناس ويفسد في الارض ، فاذا قلت ، نعم ان اولئك خاطئون فاشلون ولكن الا ترى مايصنع هذا الطاغية المسنود من اعداء امتك ، صد عنك وكابر عقله ودليلك من اجل هواه ، واذا كره صدام قال لك السراق والعملاء افضل ولا يرعوي ولا يتراجع إما تعصبا لمذهب مشوش او لرأي منقول او لهوى مجرد ، واذا احب صدّام قال لك الاستبداد والظلم والتفرد افضل العلاج ، فخالف قوانين الله وشرائعه من أجل مااشتهته نفسه ، دون ان يعي ان صدام ومثله لن يقدروا على إنقاذ انفسهم من ان ينقذوا من تعصب لهم ، وهكذا اذا ناصب المداخلة -بحق- او السلفية -بباطل- لايهمه ان تنهدم الكعبة او يخرب الدين , فان قلت له ولكن ابن سلمان حوّل بلاد الحرمين -امام انظار العالم- الى مراقص ومواخير ، قال لنفسه ولك شيئا لايفهمه هو ولا انت ،إلا ان غايته الهوى ودافعه التعصب ،
قال أبو جعفر الطبري في تفسيره : “يقول تعالى ذكره: إن إعراض هؤلاء التاركي النظر في حجج الله والفكر فيها, لإضلال الله إياهم, ولو هداهم الله لاعتبرُوا وتدبَّروا فأبصروا رُشْدهم; ولكن الله أضلَّهم، فلا يبصرون رشدًا ولا يهتدون سبيلا ومن أضلَّه عن الرشاد فلا هادي له إليه، ولكن الله يدعهم في تَمَاديهم في كفرهم،” انتهى كلامه. فلا شك ان من لم يرد الله له الهداية سلط عليه الهوى- اعاذنا الله – وهذا اشر ما يجترحه المرء على نفسه ومايستجلبه على عقله ،فلا يريد النظر ولايرغب في السماع ، ويهرب من الدليل ان سيق على لسان من لايوافق عاطفته من الناس ، ويتجاهل البرهان إن فاجأه في مقال او كتاب فيغلقه ويلقيه جانبا ، وتراه يكفهر وجهه ان راى من انصاع للحق بالاستدلال فيمتعض وتبدأ علامات جفائه لمن كان من اصدقائه ، وتحلله عن عهد من كان من اوليائه ، ﴿وَمَن یُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن وَلِیࣲّ مِّنۢ بَعۡدِهِۦۗ﴾
يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير عن تلك الآية : بَعْدَ أنْ حَكى الله أصْنافًا مِن كفْر المُشركِين وعِنادِهِم وتكْذِيبهِمْ، ثُمَّ ذكَّرهم بِالآياتِ الدّالَّة عَلى انْفِرادِه تَعالى بِالإلَهِيَّة وما في مَطاوِيها مِنَ النِّعَمِ وحَذَّرهم مِنَ الغرور بِمَتاعِ الدُّنْيا الزّائِلِ أعْقَبَه بَقَوْلهِ: ﴿ومَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِن ولِيٍّ مِن بَعْدِهِ﴾ وهو مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّما السَّبِيلُ عَلى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ﴾والمَعْنى: أنَّ فيما سَمعْتم هِدايَة لِمَن أراد اللَّه لَه أنْ يَهْتَدِي، وأمّا مَن قَدَّر اللَّه عَلَيْهِ الضَّلالَ فَما لَهُ مِن ولِيٍّ غَيْر اللَّهِ يَهْدِيه أوْ يُنْقذهُ، فالمراد نَفْي الوَلِيِّ الَّذِي يُصْلِحهُ ويُرْشدُه ، فالمراد هُنا ابْتِداءُ مَعْنى خاص مِن الوِلايَةِ. وإضْلالُ اللَّهِ المَرْءَ: خَلْقُهُ غَيْرَ سرِيعٍ لِلِاهْتِداءِ أوْ غَيْرَ قابِل لَه وحِرْمانه مِن تَدارُكِهِ إيّاه بِالتَّوْفِيق كُلَّما توغَّلَ في الضَّلالَةِ ، فَضَلالُه مِن خَلْقِ اللَّهِ وتَقْدِيرِ اللَّهِ لَهُ، واللَّهُ دَعا النّاسَ إلى الهِدايَة بِواسِطَة رُسُلِه وشرائِعِه قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ يَدْعُو إلى دارِ السَّلامِ ويَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ ، أيْ يَدْعُو كُلَّ عاقِلٍ ويَهْدِي بَعْضَ مَن دَعاهم.” انتهى كلامه رحمه الله.
فهؤلاء القوم عجزوا عن هداية انفسهم وتجنيبها طرق الضلال بالتوقف والمراجعة وتدبر الادلة والبراهين بعيدا عن التعصب للأب والعشيرة والمذهب والمشرب ، وعجز محبوهم من المهتدين ان يدلوهم الى الصواب بعنادهم وصم آذانهم ووصد قلوبهم امام الناصحين ، يقول ابن كثير في تفسيرها: “أي: من أضله الله فلا هادي له غيره”، ويعقب على ذلك ابن باز رحمه الله قائلا : “إن الآية المذكورة وأمثالها إنما تدل على أن من قدر الله إضلاله، فلن يستطيع أحد من الخلق أن يجعله مهتديا”. انتهى كلامه.
فالرجل الضال مفتون ، والمفتون لا يملك لنفسه شيئا ولايملك له احد من الله شئيا ، فالله تعالى اوكله لنفسه الراغبة في التعصب الغارقة في الهوى ، التي لاتريد ان تنظر في حجج المنطق الذي لايقبل الدحض ولا حتى في صور البرهان التي لا تعشو عنها العين ، فالفتنة من مصاديق الضلال وجنوده ،: ﴿وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ وقد يقدر الله بعد ذلك للضالين غير ذلك فنحن لم تطلع على الغيب لنعلم أن الله كتب فلانا مع من حقت عليهم الضلالة الى الأبد ؛ فإن قدر الله سبحانه سر مكتوم،
يقول المفسرون ان الآية المذكورة ومثلها لا تدل على أن من ضل لن يهتدي بعد ضلاله، ولكن لايهديه الا الله ، فان قدر الله ذلك جعل هدايته على يد احد من خلقه او بلطف من عنده ، وليس بلازم لمن ضل أثناء حياته أن يختم الله له بذلك، والعكس بالعكس، ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، أو أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثله، ثم يكون مضغة مثله، ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات: فيكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد. ثم ينفخ فيه الروح؛ فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل عمل أهل الجنة، فيدخلها.”
ولكن طرق الضلال خطيرة ، وتجنبها يسيرة رؤيته عسيرة متابعته إن لم يكتب الله للعبد بصيرة تنأى به بعيدا عن الهوى وتحيطه بحمى عن التعصب ، فان كتب الله الهداية لعبد ارشده ونوره وفتح بصره للبرهان وشرح صدره للدليل وجعل خيره يغلب على شره وعقله يسيطر على عاطفته ، ﴿وَمَنْ يُضْلِلْ﴾ أي: يُقَدِّر أن يكون ضالًّا.
﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ أي: من يتولّاه ويرشده إلى الصواب، ومن كلام ابن عثيمين رحمه الله ان ” في هذا خبر من الله عز وجل تنبيه على أننا لا نسأل الهداية إلا من الله جلت قدرته ، وأننا لا نجزع إذا رأينا من هو ضال؛ لأن الإضلال بيده سبحانه ، فنحن نؤمن بالقدر، ولا نسخط الإضلال الواقع من الله، لكن يجب علينا أن نُرشد هؤلاء الضالين، فهنا شرط وقَدر، القَدر يجب عليك أن ترضى به على كل حال، والمقدور فيه تفصيل؛ المشروع يجب عليك أن ترضى به بكل حال، فنحن نرضى حيث إن الله تعالى جعل الناس على قسمين: مهتدٍ وضالّ، ولكن يجب علينا مع ذلك أن نسعى في هداية الخلق.” انتهى
أقول بل ونسعى اولا في هداية انفسنا ثم بدعاء الله والتضرع اليه ان يديم علينا هديه وان لايقلب قلوبنا وان لانتبع هوانا وان لا نتعصب لراي او امر او شان من رجل او لرجل لايوحى اليه ، ولانتخذ من علمنا اعلى العلوم ولا من فهمنا أقصى الفهوم ولا من رأينا اتم الآراء ، وأن يرينا الله الحق حقا ويلهمنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويلهمنا اجتنابه ، وان لايجد الينا الضالون سبيلا وان لايفتننا بمن هو لايغنينا من دون الله ولايغني عنا يوم الحساب ، وان لا يجعل في انفسنا للهوى مكمنا ولا للتعصب مأمنا ، ولا للضلال الينا سبيلا ،وان يجعلنا من المهتدين ، والحمد لله رب العالمين.