5 نوفمبر، 2024 5:00 م
Search
Close this search box.

دروس أولية في الوعي الديمقراطي : بين مأسسة العصبيات ودولة المؤسسات

دروس أولية في الوعي الديمقراطي : بين مأسسة العصبيات ودولة المؤسسات

كثيرا”ما جرى تحريف المفاهيم عن مقاصدها السياسية ، وتزويغ المصطلحات عن دلالاتها الاجتماعية ، وتحويل المفردات عن مضامينها الرمزية . وذلك إما لاستشراء داء الجهل بطبيعة السياقات المنهجية التي تقود خطى المرء باتجاه هذا المستوى الفكري أو ذاك ، وإما لفقدان القدرة على إدراك ماهية الصلة التي تربط ما بين هذا النمط الاجتماعي أو ذاك ، وإما لدوافع مصلحية ضيقة آثرت سلخ أصول الفكرة المعنية عن مقوماتها الواقعية ومبرراتها العقلانية ، إرضاء لهذا الطرف السياسي أو ذاك . الأمر الذي لم يعرض تلك المفاهيم والمصطلحات إلى سوء الفهم وتشويه المعاني وازدراء المقاصد ، حين تلقفتها منظومة الوعي الاجتماعي للفاعلين من أفراد وجماعات فحسب ، وإنما ألحق بالغ الضرر وفادح العواقب بحصيلة التجارب الاستقلالية ونتائج الممارسات السلطوية التي تمخضت على أساس الخيارات التي تبنتها أنظمة الحكم في بلدان العالم الثالث(1) عشية الانعتاق من الهيمنة الأجنبية ، بعد أن دعت إليها وبشرت بها نظريات سياسية وعقائد اجتماعية استلهمت قيم ومبادئ تلك المفاهيم والمصطلحات ، كما في دعاوى النظرية الليبرالية حول الحرية والديمقراطية وغريمتها الماركسية حول الاشتراكية والشيوعية . ناهيك ، بالطبع ، عن جملة من الإسهامات النظرية المتنوعة لثلة من مفكري البلدان المحيطية والطرفية ، الذين حاولوا تقديم صياغات فكرية واجتراح  مقاربات منهجية تحايث واقع مجتمعاتهم المحلية وتستجيب لخصائصها القومية ، على الرغم من كون مساهماتهم  لم تخرج عموما”عن واقع بزوغها على هامش تلك النظريات وضفاف تلك العقائد التي حاولوا تطوير براهينها وتفعيل مقولاتها وتبسيط أفكارها بما يجعلها متواكبة مع متطلبات العصر وتحولات الواقع . ولهذا فقد عزى الدكتور (خلدون حسن النقيب) حالة اللبس والغموض التي ((تسود معظم المفاهيم والمصطلحات في علم الاجتماع السياسي وعلوم السياسة عموما”يرجع سببها إلى حقيقة ان أغلب هذه المصطلحات تدخل في اللغة اليومية التي يستعملها عامة الناس ، أو عامة المثقفين على الأقل . ولذلك تهمل المعاني الدقيقة والخصائص المميزة لهذه المصطلحات والمفاهيم ، فتظهر وكأنها مترادفات أو ذات معان متشابهة ، وكأن بامكاننا أن نستبدل الواحدة بالأخرى دون ضرر كبير ، وهذا غير صحيح ))(2) .
وإذا ما تحرينا الدقة وتوخينا الصواب فإننا سنجد ان مفهوم ( الديمقراطية ) بدلالاته المعاصرة ومعطياته المباشرة كان ولا يزال من أكثر المفاهيم الاجتماعية عرضة لإساءة التفسير وسوء الاستخدام ، ليس فقط من قبل خصومه ومناوئيه الذين لم يبخلوا بتجنيد وسائلهم السياسية وتوظيف عدتهم المعرفية لمحاربة قيمه والنيل من أفكاره فحسب ، بل ومن قبل أنصاره ومريديه الذين أدمنوا الإساءة إليه عبر ممارساتهم المخلة بأصوله والعبث بمبادئه أيضا”. والسبب يعود في جلّه – باعتقادنا المتواضع – إلى أن مفهوم الديمقراطية يمتاز بكونه حمّال أوجه يأبى الانصياع لقيود التعاريف المبتسرة والتقوقع عند حدود المعاني الفضفاضة . فهو غني بمضامينه الاقتصادية وعميق بأبعاده الاجتماعية وواسع بتخومه السياسية ومتنوع باتجاهاته الثقافية وشامل بمعانيه الحضارية ، للحد الذي ان أي مسعى يستهدف (( تحنيط مفهوم الديمقراطية وإلباسه صفة الثبات وإقحامه في إطار الجمود ، سوف لا يلحق الضرر فقط بجهود القوى الاجتماعية الفاعلة والرامية إلى إحداث يقظة فكرية شاملة تلتمس بلورة مضامين جديدة لماهية الديمقراطية في الوعي التقليدي لمختلف الشرائح الاجتماعية فحسب ، وإنما يسهم في إعاقة مسيرة المجتمع المراد له أن يكون ديمقراطيا” على الصعد كافة . إضافة إلى منح سلطة الدولة المبررات السياسية والمسوغات الاقتصادية والدواعي الاجتماعية لكي تتحول من دولة مؤسسات دستورية تحتكم إلى القانون وتستند إلى الشرعية ، إلى دولة شمولية بوليسية تتعاطى القمع السياسي وتمتهن الاضطهاد الاجتماعي وتنتهج الترويع النفسي وتمارس المسخ الفكري ))(3) . وهكذا ففي الوقت الذي يكثر فيه خطاب الديمقراطية الحديث عن ضرورة تقييد سلطة الدولة بقيود دستورية تستهدف الحدّ من طغيانها على حقوق المجتمع ، والتأكيد على أهمية الفصل ما بين السلطات الثلاث للحيلولة دون استبداد أحداهما على الأخرى وضمان فاعلية مراقبة ومحاسبة هذه لتلك ، والدعوة لتفعيل دور المجتمع المدني وتنشيط وظائفه لضمان حرية المواطن وصيانة حقوقه وحفظ كرامته إزاء تجاوزات المجتمع السياسي وانتهاكاته . فقد وجد أقطاب حركات الإسلام السياسي المعاصرة من باب تحديث خطابهم الفكري وعصرنة أهدافهم السياسية وتسويغ برامجهم الحزبية ، ان محتوى هذه القيم وخلاصة روحها متضمنة في مبدأ (الشورى) الذي دعا إليه الدين الإسلامي قبل أن تهتدي إليه التجربة الأوربية بمئات السنين ، باعتبار انه قائم على صيغة الحدّ من سلطان الحاكم والتحسب من مغبة الاستبداد برأيه ، عبر إلزامه مراعاة رأي سراة القوم ( أهل الحلّ والعقد ) والنزول عند ضرورة إشراكهم بتقرير شؤون الرعية ، دون أن يصار إلى إدراك الفوارق الجوهرية التي تفصل ما بين مدلول الأول ومقصود والثاني ليس فقط على المستوى العملي المباشر فحسب ، وإنما على الصعيد النظري اللامباشر. ولعل للمفكر العربي الدكتور ( محمد عابد الجابري ) بهذا الصدد وجهة نظر تستحق أن نقتبس فحواها من خلال قوله (( لقد عمدوا – يقصد الجيل الثاني من رواد الفكر السياسي الإسلامي – إلى الموازنة بين الديمقراطية والشورى لا لأنهم كانوا يطابقون بينهما أو يجهلون الفروق التي تباعد بينهما ، بل لقد فعلوا ذلك في إطار ممارسة إيديولوجية تستهدف من جهة طمأنة المتشددين المتزمتين من (علماء 
الدين) ، ولربما الحكّام أيضا”، طمأنتهم جميعا”بأن المناداة بالديمقراطية لا يعني إدخال بدعة دخيلة إلى دار الإسلام ، إذ الديمقراطية ما هي إلاّ الاسم الذي يطلقه الغربيون على ما نعبّر عنه نحن بالشورى . وتستهدف هذه
الممارسة الإيديولوجية ، من جهة أخرى ، الارتفاع بمعطيات تراثنا ومقومات حضارتنا إلى مستوى العصر ، الشئ
الذي يعني ان مشاكلنا تجد حلها في تراثنا الديني والفكري وان المسألة كلها منحصرة في الكيفية التي ينبغي أن نفهم بها هذا التراث ، وتلك آلية معروفة من آليات تأكيد الذات والدفاع عن النفس ))(4) . هذا من جانب ، أما من الجانب الآخر فحين ألزمت الديمقراطية كلّ أنواع الأكثريات السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية واللغوية بالمراعاة الكاملة لحقوق كلّ أشكال الأقليات ، بما في ذلك ضرورة إشراكها في أتون العملية السياسية على وفق معايير المساواة في الحقوق والتكافؤ في الواجبات والعكس بالعكس ، فضلا”عن احترام الخصوصيات الثقافية والحضارية لكافة عناصر المجتمع المعني ومكوناته باعتماد مبدأ (المواطنة) والركون لمعاييره ، فان الحركات الدينية المتطرفة والتيارات القومية المتعصبة التي غالبا”ما تنشد التميّز في المكانة وتتقصى الأفضليات في المكاسب ، وجدت لها في ذلك حجة نظرية تتخندق ورائها وملاذا”سياسيا”تتحصن خلفه . معتقدة من جهة  ان ذلك يقيها سيل الانتقادات ويجنبها الاتهامات التي تتعرض لها بسبب تصوراتها القبلية عن ذاتها وقصورها في قبول الآخر ونبذها لفكرة التعايش معه على قدم المساواة ، ويعطيها من جهة أخرى  الحق في تأطير دعواتها العنصرية ونزعاتها الطائفية بإطارات مؤسسية تتيح لها إمكانية منافسة الدولة على سيادتها ومشاطرة القانون في سلطته . وبرغم صحة الممارسات التي تنادي بها الديمقراطية من حيث الترويج لأفكار الاختلاف والتنوع بين مكونات المجتمع الواحد ، والدعوة لانتهاج سبيل المشاركة والتواصل بين فرقاء القضية المشتركة ، والحرص على نبذ أساليب العنف كوسيلة لتسوية المشاكل وحلّ الخلافات بين أطراف المصير نفسه ، والاحتكام إلى فضائل المبدأ السامي القاضي بتداول السلطة سلميا” بين أطراف العملية السياسية ذاتها ، وتوفير الشروط اللازمة لتحقيق قيم العدل الاجتماعي والمساواة الاقتصادية بين عموم المواطنين ، بصرف النظر عن أصولهم القومية واعتقاداتهم الدينية وانتماءاتهم المذهبية واروماتهم اللغوية وطقوسهم الرمزية . فان ذلك لم يثنها عن اشتراط ان وظيفة تلك القيم والمعايير لن تكون مجدية ودورها سيغدو غير مؤثر، ما لم تلتقي ضمن إطار وحدة المجتمع المتعاضد وتحت رعاية دولة القانون وحماية مؤسساتها الدستورية . بمعنى استحالة حصول هذا الاشتراط على وفق علاقات الهيمنة والاستتباع كما هو الحال في معظم التجارب السياسية التي تعيش وطأتها شعوب البلدان الموصوفة بالتخلف والمنعوتة بالتأخر ، بحيث تتدخل (سيطرة الحاكم) وقد تحولت إلى (سلطة الدولة) بكل تفاصيل المجتمع ودقائق حياته بعد أن تتمكن أجهزتها الأمنية وعناصرها الاستخبارية ووسائلها الإعلامية من اختراق كافة البنى الاجتماعية وتفكيك جميع الأنساق الثقافية ومصادرة كل الحريات السياسية . كما لم يمنعها ذلك من التأكيد على حقيقة ان تلك الأشكال من المؤسسات الاجتماعية والأنواع من الأنماط الحضارية ، لا يمكن لها أن تحظى بالوجود الشرعي فضلا” عن التطور الطبيعي ، ما لم تعي حدود المحرمات التي ينبغي لها عدم تخطيها مهما كانت الظروف إذا ما تطلعت بصدق لممارسة شعائرها الخاصة على نحو يضمن لها حرية التمتع بتلك الشعائر ويحفظ لها الحق في التعبير عن خصائصها النوعية . وعلى هذا الأساس فقد أشار الباحث العربي الدكتور ( جورج قرم ) متأثرا”بتجربة بلاده (لبنان) وما تمخض عنها من إشكالات لا تزال تعاني منها لحد الآن إلى واقع : (( ان المؤسسة الطائفية ، إذا ما أريد لها أن تلعب دورها على الوجه المرام ، يجب أن تكون مؤقتة وأن يضيق حقل فعالياتها تدريجيا”. أما في الحالة المعاكسة ، فان انشطار المجتمع إلى جماعات متمايزة ، تفصلها مؤسساتها الطائفية عن بعضها بعضا”، يجعل من المستحيل في نهاية المطاف الحفاظ على وحدته السياسية ، إذ يحكم بالشلل على المؤسسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المشتركة الكبرى ))(5) .
ومن مفارقات هذه الظاهرة / المحنة هي ان المنظوين تحت لواء تلك المجاميع العنصرية والتكتلات الطائفية – لشتى النوازع ومختلف الدوافع –  قلما تتاح لهم إمكانية النظر إلى الواقع الاجتماعي والظرف التاريخي من زاوية الثوابت الوطنية المشتركة والانتماء السياسي الموحد ، على الرغم من سخاء الوعود وتزويق الادعاءات التي غالبا” ما تتحول إلى شعارات للمزايدة في سوق المساومات السياسية ، تارة بأسم حب الوطن وسمو مقامه ، وتارة ثانية بوازع التفاني من أجل مصالح المجتمع ، وتارة ثالثة بالذود عن سيادة الدولة والدفاع عن مؤسساتها ، وتارة رابعة باحترام هيبة القانون والانصياع لقواعده . بحيث يبقون أسرى وضعية مأزقية ممضة تتراوح ما بين الانفصام الشخصي والاغتراب الاجتماعي ، وسط حالة من التعبئة الدائمة والاستنفار المستمر ، على خلفية الإحساس بتفاقم المخاوف وتعاظم الهواجس حيال الواقع السياسي المضطرب ، الذي بات نهبا” للممارسات القائمة على ( حق القوة ) المشاعة بين العصبيات المتخندقة والأصوليات المستنفرة ، حيث الصراع مستعرّ من أجل السيطرة على مقاليد السلطة والاستحواذ على مصادر النفوذ ، فضلا” عن إقصاء المنافسين وتهميش المخالفين، بدلا” من الاحتكام إلى (قوة الحق) المؤسسة على قيم التواصل الاجتماعي والتشارك السياسي والتوافق الوطني .
ومن ضروب المأسسة السياسية لظاهرة العصبيات بمختلف أشكالها وأنواعها في المجتمعات المأزومة سياسيا” والمتشظية اجتماعيا”، لجوء المنتسبين لتنظيماتها الحزبية والمنخرطين بنشاطاتها السياسية والمتأثرين بخطاباتها الإيديولوجية ، إلى استثمار شبكات الروابط الأولية وصلات التجمعات العضوية التي تتيحها لهم أنماط علاقاتهم القرابية وشراكة مرجعياتهم الرمزية وأماكن تجمعاتهم الديمغرافية(6) ، لاسيما حين تغزو مظاهر الانحلال سلطة الدولة والاضمحلال فاعلية المؤسسات التي تعتمد عليها لإنجاز القضايا المتعلقة باستتباب الأمن الاجتماعي وتفعيل هيبة القانون وتسيير شؤون الإدارة وتعميم كفاءة الخدمات . مما يستتبع أن ترتهن المصالح العمومية للمجتمع وتصادر استحقاقات مكوناته في إدارة مرافق الشأن العام والإشراف على مصادر الثروة الوطنية  لصالح أهداف وطموحات هذه المجموعة العرقية أو تلك ، لهذه الفئة الطائفية أو تلك بكل ما تشتمل عليه هذا الخيار من سلبيات سياسية وانتهاكات اجتماعية وعلاقات استزلامية وممارسات اعتباطية(7) . وبالتالي الإسهام بزيادة معدل الخلافات المتوطنة وتصعيد حدة التوترات المزمنة ، للحد الذي ينذر بترجيح احتمالات حدوث مصادمات بينية مسلحة ، قد تتطور – بفعل الحساسيات المتبادلة والشكوك المتقابلة – إلى نشوب حرب أهلية لن ينجو من جحيم أتونها أحد ، إذ ان الفواجع التي ستأتي بها ستكون من نصيب كل الأطراف وان الآثار التي ستنجم عنها ستنعكس على جميع الفصائل . وهنا نصل إلى حافة منعطف خطير لا تلبث أن تنقلب عند تخومه أطروحة الديمقراطية رأسا” على عقب. فبدلا”من الطموح نحو تحقيق مجتمع عصري القيم متجانس العلاقات متكافئ الفرص ، ينعم بأسباب الاستقرار السياسي والتوازن الاجتماعي والتطور الاقتصادي والازدهار الثقافي ، ويقوم على قواعد احترام التنوع
العرقي والاختلاف الفكري وتأصيل الحوار الديني وتواصل العلاقات الإنسانية ، فإذا بها (= الأطروحة الديمقراطية) تتحول إلى دعوة مفتوحة لإثارة النعرات الطائفية وتأجيج الصراعات الايثنية وتسعير العداوات الجهوية وتمزيق الوحدة الوطنية وتخريب الوعي الجمعي ونسخ الذاكرة التاريخية .  وخشية حدوث مثل هذه الاحتمالات فقد حذر أحد المتخصصين بشؤون الفكر الديمقراطي من (( ان اللجوء إلى الطائفة يقضي على الديمقراطية كلما أدى هذا اللجوء ، باسم ثقافة ما ، إلى تعزيز سلطة سياسية ما ، وبالتالي كلما أدى إلى القضاء على السستام السياسي ، والى فرض علاقة مباشرة بين سلطة وثقافة ، وعلى الأخص بين دولة ودين ))(8) .
بالمقابل فان التأكيد على مساوئ ما ندعوه (مأسسة العصبيات) ومخاطر ما نعتقده (تسييس للمذاهب) ، لا ينبغي أن تنسينا الإشارة إلى البواعث الحقيقة التي تكمن خلف هذا التقهقر الاجتماعي والنكوص الحضاري ، وتجاهل الدوافع المسؤولة عن انحراف القيم الاعتبارية بهذا الاتجاه الخاطئ . إذ من شأن ذلك أن يقلل من قيمة الفكرة التي نروم إيصالها ، ويعّقد الأمر إزاء الهدف الذي نتوخى بلوغه . فمما لا شك فيه ان الأصل في كل بحث سياسي / اجتماعي لا بد أن ينطلق من حقيقة أن كل مجتمع إنساني ما هو إلاّ حصيلة تمازج أعراقه وتثاقف حضاراته وتعايش أديانه وتخالط عاداته وتشابك قيمه ، حيث تواضعت على العيش مجتمعة في ظل مجموعة من القواسم المشتركة التي استلزمتها ضرورات التاريخ وفرضتها حتميات الجغرافيا ، بحيث بات من الصعب ان لم يكن من المستحيل الحديث عن ظواهر نقاء الأصول وصفاء الأرومات . ولهذا لم يعد من الواقعية في شئ الركون إلى التمييز بين الشعوب والأمم على أساس مكوناتها المحلية وخلفياتها الفرعية وانحداراتها الأولية ، بل ان الأمر الصحيح والواقعي لابد أن  يجري بدلالة انتماءاتها الوطنية وولاءاتها السياسية واعتبار ذلك بمثابة الهوية العلوية لكل أبناء المجتمع المعني . ومن هذا المنطلق لا يعرف الشعب العراقي بدلالة مكوناته العرقية ( العربية والكردية والكلدو آشورية ) ومعتقداته الدينية (الإسلامية والمسيحية والصابئية واليزيدية ) وتنوعاته الطائفية ( الشيعية والسنية ) ، وإنما على أساس هويته العراقية الواحدة ، مثلما لا تعرف الشعوب الأخرى ؛ الإيرانية والتركية والهندية والغربية بدلالة بمكوناتها السلالية والدينية والمذهبية دون الإشارة إلى هوياتها السياسية / الوطنية المعروفة بها أمام العالم وإزاء بعضها للبعض الآخر . على ان هذا التجانس القائم على التنوع في المراجع والاختلاف في الخلفيات والتباين في الانحدارات والتعدد في المنطلقات ، لم يأتي اعتباطا”وبمحض الصدفة السعيدة و / أو تحقق دفعة واحدة بدون مقدمات وشروط ، بل انه تكّون وتبلور بفعل تظافر عدة عوامل ذاتية وموضوعية متشابكة ومتداخلة صقلتها التجارب وهذبتها الممارسات ، كان دور السلطة المؤسسة (الدولة القومية و / أو الوطنية) فيها عظيم الشأن وبالغ الأثر ، لاسيما في مجالات توحيد المجال الاجتماعي ، وتحقيق مظاهر الإجماع السياسي ، وبناء أسس ثقافة وطنية وتوطين مبدأ المواطنة خلافا”لمفهوم الرعية ، وتأسيس قاعدة للرموز المشتركة في المخيال الجمعي . وعليه فان
الدولة – كما يقول الفقيه الفرنسي جورج بوردو – هي (( ذات جوهر مختلف تماما”عن جوهر الجماعة المغلقة أو القبيلة . وفي حين تنتج هذه الأخيرة عن اشتراك عفوي للأفراد ، تحتاج الدولة لكي تتكون أن يمارس كل واحد منا المراقبة على نفسه ، وأن يفكر بمتطلبات النظام القانوني وأن يفهم أخيرا” الدولة على أنها أداة لتحقيق مصيرنا الزمني . وبهذا المعنى ، تعتبر الدولة قبل كل شيء فعل الإرادة التي تتحرك بمواجهة تطلعات وميول ولا مبالاة الفرد الذي يميل إلى الانسياق وراء غريزته الأنانية ))(9) .
وفي ضوء تصاعد درجات حمى الليبرالية الجديدة التي ما برحت تجتاح بلدان المعمورة كافة ، لاسيما بلدان العالم الثالث كمؤشرلانسياح العصر الأمريكي على المستوى الكوني، بكل ما يحمله من قيم وما ينشره من مبادئ وما يبشر به من خيارات وما يحمله من تهديدات ، لا يفتأ دعاة الأفكار (الإصلاحية) الذين سحرتهم حضارة الإبهار والإشهار البرغماتية ، من الدعوة لرجم صنم الدولة والمناداة بهدم محرابها وتحطيم أساطيرها وحرق الجسور الموصولة بينها وبين المجتمع بصورة عامة والفرد بشكل خاص ، كما لو كانت وحشا”خرافيا”ينبغي استئصال شأفته ، إذا ما أريد لشعوب تلك البلدان الدخول في رحاب العلم والولوج في عصر الصورة ، وذلك بالمبادرة لانتزاع أنيابها وتقليم أظافرها وتقليص سلطانها وجعلها ذات وظيفة محدودة لا تتعدى نطاق الإشراف البروتوكولي وتقديم الخدمات الاجتماعية وحفظ النظام العام ، دونما تحسب لحجم الأخطار السياسية أو تقدير لطبيعة العواقب الاستراتيجية التي من المتوقع ، لا بل من المؤكد إنها ستنجم في حال تم تخوين الدولة الوطنية وتجريدها من كل المزايا السيادية والامكانات السلطوية والقدرات التعبوية التي تتمتع بها ، لمجرد أن يقال بان المجتمع المعني قد انتهج سبيل الحكم الليبرالي وحداثته ، وهو يخطو باتجاه طور الممارسة الديمقراطية التي من شأنها نقله من مرحلة التخلف والعبودية إلى عتبة الحضارة والحرية على غرار المجتمعات الغربية التي سبقتنا في هذا المجال . والواقع ان هذا التوجه الطوباوي الذي يعتبر من جملة المغالطات الكبرى التي ما انفك بعض السياسيين والمفكرين العرب ونظرائهم من كتّاب العالم الثالث الذين يشاطرونهم ذات الهوى يقترفون آثامها بحق شعوبهم وتاريخ أوطانهم ، دون أن يفيقوا إلى رشدهم بعد وينشدوا التحرر من الأوهام التي تحول دون إقرارهم بان تجربة المجتمع الأوربي بهذا الخصوص شيء ، وتجربة بلدان العالم الأخرى في الشأن ذاته شيء آخر تماما”، لا من حيث ظروف نشأة الدولة في كلا الحالتين وما تمخض عنهما من مؤسسات ، وما حظيت به من سلطات ، وما تأسس عليها من علاقات ، وما أشيع حولها من خرافات . ولا من حيث طول باع التجربة السياسية التي خاضتا غمارهما ان على مستوى التفاعلات الداخلية كنتاج لاختلاف بنى المجتمع وتنوع أنساقه وتباين حاجاته وتعدد اهتماماته ، أو في إطار الصراعات الخارجية كنتيجة لتقاطع الرؤى الإيديولوجية وتعارض الأهداف السياسية وتناقض المصالح الاستراتيجية . ففي حين ان تجربة نشوء الدولة في الحالة الأولى تبلورت بشكل طبيعي متدرج على أساس من تراكم الخبرة في مجال علاقات الحاكم بالمحكوم ، وتوافر الشروط المادية والمعنوية التي جعلت من وجود هكذا نمط من العلاقات حاجة ملحة لضمان سلامة الفرد وتنظيم شؤون الجماعة ، بعد أن بلغت مستويات التطور الاقتصادي وعمليات الحراك الاجتماعي واتجاهات التقدم الثقافي ومتطلبات الكشوف العلمية ، شأوا”متقدما”استلزم أن تتحول مقاليد السلطة من طابعها الشخصي الكاريزمي / الأسطوري إلى طابعها المؤسسي الشرعي / العقلاني . أما على صعيد تجربة الدولة في الحالة الثانية فأنها ولدت كما هو معروف هجينة الأسس وضعيفة المقومات ، نتيجة لعملية استزراعها بصورة محض هيكلية مصطنعة ، قام بها المستعمر الغربي تحت وطأة حاجاته اللوجستية وتسهيل مهماته العسكرية وتأمين مصالحه الاقتصادية وتحقيق أهدافه السياسية ، دون أن يضع باعتباره – وهذا هو ديدن القوى الاستعمارية –  ضرورة توفر شروطها السوسيولوجية وظروفها التاريخية وبنيتها الفكرية وبيئتها الحضارية حتى تتمكن من تأسيس هويتها السياسية وإنجاز مشروعها الوطني وتحقيق النهوض الاجتماعي . ولهذا (( لم يكن ظهور الدولة الجديدة نتاجا”لتفاعل التناقضات الاجتماعية وتطورها في صور تجميعية جديدة ، بل كان ظهورا” مصطنعا” وهامشيا”، أي ولدت هذه الدولة ، بنمط سلطتها (الخارجية) وطاقمها وأجهزتها ومثقفيها ، هامشية بالمعنى الحرفي ، ولم تنجح في كسر هامشيتها حتى في أوج سلطتها ، عندما بدأ إنها أمسكت في قبضتها مقاليد الحكم والتنظيم السياسي ووسائل الإنتاج الرئيسية والإيديولوجية الرسمية ))(10) .
وإذا كنا في درس سابق(11) قد حملنا على أساليب الدولة وهجونا مواقفها وانتقدنا تجاوزاتها من باب الانتصار لحقوق الإنسان ودفاعا”عن حرياته الأساسية فإننا استهدفنا من ذلك نمط الدولة التي تحولت – خلافا”لواجباتها –  إلى أداة طيعة بيد الحكام الطغاة والمستبدين الذين يقمعون بواسطتها شعوبهم وينهبون من خلالها ثروات بلدانهم ويفتعلون عن طريقها حروبهم . أي ان القادة العتاة انتحلوا صفة السلطة المؤسسة التي هي من خصائص الدولة القائمة بذاتها وإسباغها على أشكال سيطرتهم ، مستخدمين بذلك كل ما تملك من عناصر القوة ومقومات السلطان التي بحوزتها ، معززين الانطباع الخاطيء لدى عامة الناس ، والذي مؤداه ان دولة ما بعد الاستقلال قد تنكرت لوعودها الوطنية وتخلت عن وظائفها الدستورية وفقدت مبرراتها الشرعية ، وتحولت من كيان مؤسسي يجمع
تحت لواء سلطته شتات الطيف الاجتماعي وتنوعات قواه السياسية ، إلى جهاز بوليسي يحارب الأفكار ويضطهد
العقائد وينتهك الحريات ويعبث بمقدرات الإنسان ، تقتصر وظيفته على نشر الخوف وتعميم الرعب وإنتاج الكراهية بين مختلف أفراد المجتمع وسائر طبقاته . وهكذا فالمقصود ضمن سياق هذا الدرس ليس سوى الدولة الوطنية صاحبة السيادة وحاضنة الشرعية ومؤسسة الهوية وصانعة القانون وحامية المجتمع وضامنة حقوق الإنسان ، التي من العبث الاعتقاد بأن خيار الديمقراطية سيكون سهل المنال دون وجودها ، وان حرية الفرد ستكون مصانة بعيدا” عنها . فالديمقراطية كما تدلل التجارب ، لن تكون قرينة الفوضى وإنما مرهونة بالانضباط ، كما لن تكون إلاّ مجرد أكذوبة قاتلة حين تتعالى صيحات لجم الدولة وتفكيك مؤسساتها من جهة ، وإطلاق العنان لمكونات المجتمع وإحياء نوازعه العرقية والمذهبية من جهة أخرى ، لاسيما في ظل ظروف تتسم بالتفجر السياسي والاضطراب الاجتماعي والاحتقان الفكري والتوتر النفسي . وهنا تأتي ملاحظة المفكر الخليجي الدكتور(محمد جابر الأنصاري) في محلها حين كتب يقول : (( تحتاج الديمقراطية – في مفارقة جدلية – إلى (رحم) دولة قوية متماسكة ينمو جنينها بداخله . يخطئ دعاة الديمقراطية إذا تصوروا أن حلمهم الديمقراطي سيقترب أكثر إذا هم انتقصوا الدولة أو قلقلوها أو فككوها . الدولة القوية والديمقراطية المستمرة صنوان لا يفترقان ، بعكس ما يتوهم بعضهم . وعندما تضعف الدولة أو تفقد الثقة بنفسها ، فان أولى ضحاياها هي الديمقراطية ))(12) .

الهوامش والمصادر
(1)    يرى المدير السابق لكلية الأعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية الدكتور(نسيم الخوري) ان دلالة مصطلح (العالم الثالث) قد فقد وظيفته بفعل (( الاستراتيجيا الخاصة بالعولمة المحكومة بوسائل الاتصال التي طبعت الدنيا بعالمين : الأول أمريكي التوجه والفلسفة والخطة ، والثاني يضم كل ما يبقى من المعمورة بما فيها أوربا . وهنا يلحظ سقوط مصطلح العالم الثالث ، أو تراجعه الكبير من نصوصنا التي ألفته منذ عصور . أين العالم الثالث الآن؟)) أنظر دراسته المعنونة ؛ سلطات الشاشة ونظرية الايماغوس . مجلة حوار العرب ، العددم13 ، ديسمبر2005 ص33 . وفي هذا السياق تنفي الباحثة الاجتماعية الألمانية ( حنّه ارندت ) وجود مثل هذا العالم معلنة انه (( ليس العالم الثالث حقيقة .. انه إيديولوجيا وحسب )) . انظر كتابها القيّم : في العنف ، ترجمة إبراهيم العريس ، ( بيروت ، دار الساقي ، 1992 ) ، سلسلة الفكر الغربي الحديث ، ص 21 .
(2)    الدكتور خلدون حسن النقيب ؛ الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر- دراسة بنائية مقارنة. ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 1996 ) ط/2 ، ص17 .
(3)    ثامر عباس ؛ من العقيدة إلى المنهج : قراءة معاصرة لمفهوم الديمقراطية . صحيفة التآخي ، العدد/ 4098 بتاريخ 20 ت1 2003 .
(4)    الدكتور محمد عابد الجابري ؛ الديمقراطية وحقوق الإنسان ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 1997) سلسلة الثقافة القومية العدد (26) ، ص 41 و 42 .
(5)    الدكتور جورج قرم ؛ تعدد الأديان وأنظمة الحكم ، دراسة سوسيولوجية وقانونية مقارنة . ( بيروت ، دار النهار للنشر ، 1979 ) ، ص 102 .
(6)    برغم إننا نعزو لكل عامل من العوامل المحيطة بواقع المشكلة المطروحة هنا أهمية تتناسب وحدود الدور الذي يمارسه فيها ، إلاّ إننا لا نشاطر الكاتب العراقي ( سليم مطر ) رأيه ولا نوافقه على اعتقاده الرامي إلى اعتبار ان العوامل الجغرافية والديمغرافية تحديدا”هي المسؤولة عن تكّون وبروز ظاهرة العصبيات في المجتمع العراقي . أنظر سليم مطر ؛ جدل الهويات : عرب ، أكراد ، تركمان ، سريان ، يزيدية – صراع الانتماءات في العراق والشرق الأوسط . ( بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 2003 ) ، ص 39 و 40 .
(7)    للمزيد حول هذا الموضوع يمكن مراجعة الدرس التاسع ؛ بين رذائل الإقصاء وفضائل المشاركة .
(8)    آلان نورين ؛ ما هي الديمقراطية ؟ حكم الأكثرية أن ضمانات الأقلية ، ترجمة الدكتور حسن قبيسي . ( بيروت دار الساقي ، 2001 ) ، ص 26 .
(9)    جورج بوردو ؛ الدولة ، ترجمة الدكتور سليم حداد . ( بيروت ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع 1985 ) ، ص 52 .
(10)    الدكتور نزيه نصيف الأيوبي ؛ العرب ومشكلة الدولة . ( بيروت ، دار الساقي ، 1992 ) ، سلسلة بحوث اجتماعية (10 ) ، ص 126 و 127 .
(11)    انظر تفاصيل ذلك ضمن موضوع الدرس السادس ؛ بين عقوق الدولة وحقوق الإنسان  .

(12)    الدكتور محمد جابر الأنصاري ؛ الديمقراطية ومعوقات التكوين السياسي العربي ، ضمن كتاب : المسألة الديمقراطية في الوطن العربي ، تحرير: الدكتور إسماعيل صبري عبد الله . ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 2000 ) ، سلسلة كتب المستقبل العربي (19 ) ، ص111 .

أحدث المقالات

أحدث المقالات