اثبتت التجارب الإنسانية ان كل حدث سواء كان سلبيآ او إيجابيآ تقف وراءه مقدمة , ولكل موقف انعكاس في عمل معين وإن كان تشكيليآ او سينمائيآ او مسرحيآ , واحيانآ ينعكس في عمل حربي , والأمثلة على تلك المواقف والأعمال كثيرة , منها مثلآ موقف الرسام الكبير بيكاسو من الحرب الاهلية التي اشعلها الرئيس فرانكو وتسبب في مقتل العشرات من سكان قرية جيرنيكا الواقعة في اقليم الباسك الاسباني في بغارات جوية اشتركت بها القوات الالمانية والإيطالية سنة 1937 وراح ضحيتها المئات من البشر .
كانت اللوحة تقوم بواجب تذكير الشعب الاسباني بجرائم الحرب وآثارها المدمرة على الشعوب بشكل عام , وهي بطبيعة الحال انعكاس لموقف بيكاسو الذي أستنكر تلك الجرائم بهذا العمل التأريخي الخالد .
في العراق الذي لم يكن منذ 1968 صالة مختبر سياسي لكي تجري فيه الإختبارات السياسية الحزبية , أو شاعت به الصراعات فيما بينها كشيوع التعددية الحزبية والصراعات في مرحلة مابعد السقوط , لكي نكتشف دوافع الاحزاب سواء من ناحية الظاهر الإنتهازي أوالباطن التبعي أو المتحفظ , او المستقل ,
لسبب بسيط وهو ان حكم الدولة كان منذ تلك السنة ذو اهداف واتجاهات شمولية وقومية مقفلة امام التعددية الحزبية , إذ ان السلطة الحاكمة لم تكن تعنيها الحقائق السياسية الموجودة على الأرض لكي تحترمها سواء كانت تعمل في الخفاء أو في العلن أو مرتبطة بتأريخ المجتمع منذ حقبة الملكية , كحقيقة الحزب الشيوعي , والأحزاب الكوردية من ناحية , والقوميون – الناصريون المؤيدون لنهج الدولة بشكل غير مباشر من ناحية اخرى .
بل ان قادة الحزب الأوحد الحاكم آنذاك قد استنكفوا من ان تشاركها السلطة بأي شرط او قيد لغاية عام 1973 , حين اشترك الحزب الشيوعي والثوري الكوردستاني وفئات اخرى في إطار ميثاق عمل وطني انبثقت عنه الجبهة الوطنية والقومية التقدمية ,
ثم انتهى خطأ التحالف الذي انضم اليه الحزب الشيوعي عام 1975 عندما عبثت به الأقدار بسبب عدم مصداقية السلطة ومعها مصداقية امينه الذي وضع مواهبه وتأريخه في خدمتها في تلك الحقبة , إذ ان الخطأ كان لعدم انسجام وجود فكرين متنافرين في مكان واحد كما هو معروف , فالحزب الحاكم قد اطلق شعار الحزب القائد كدليل على الشمولية المبتغاة , وهو يتصادم مع ايديولوجية الشيوعيين . وبالنتيجة تحولت جميع الأحزاب المنضوية تحت تحالف الجبهة الوطنية والقومية التقدمية الى المعارضة السرية .
أما دعوات الدولة القومية الى التعددية الحزبية في العلن قبل التحالف , فقد تبينت انها محض هراء طالما منحت رئيسها لقب ” القائد الضرورة ” الذي الغت بموجبه حرية العمل السياسي بشكل مضمر لتبدأ حقبة الإستبداد السياسي وبناء السجون والمقابر الجماعية لإنقاذ نفسها من السقوط على ايدي معارضيها .
اما الأحزاب التي لعبت دورآ بالخفاء ضد نظام الحكم , بعد ضحيته الأولى وهو الحزب الشيوعي العراقي , فقد كان متمثلآ بحزب الدعوة الإسلامية الذي توزع اعضائه على المنافي والسجون والمقابر الجماعية والإختباء من جور النظام الذي أصرّ على البقاء بنظام الحزب الواحد والدولة القومية بشكل لايتزعزع .
هكذا مضت حقبة المقدمة الخاصة لمشروع الهيمنة الحزبية التي بدأت بعد 1968 لتنتهي احداثها المريرة التي تولّدت عنها في 1975 , وهكذا بدأت المقدمة الثانية لحقبة تفكيك الاحزاب وصنع الرتابة الصعبة في الحياة المدنية التي تحولت فيما بعد الى مرحلة الفاقة والتمجيد العلني لقائد الحزب الواحد لينعكس ساريآ في كل نشاطات السلطة وحزبها الأوحد ومنها الأناشيد والأغاني التي اقترنت بأسم الوطنية , ومن غير المسموح به لأحد بمقارنة القائد بأي شخصية سواء كانت دينية او ثقافية أو تأريخية .
ثم انتقلت الحياة من الرتابة والفاقة الى الإنشغال بتطوير أحداث هذه المقدمة التي انجبت الحرب في عام 1979 لتنعكس آثارها على الشعب الذي اصبح كالقارب في مياه جارية لنهر بلا ضفاف , فقد تسلقت شخصيات من اقارب رأس السلطة المناصب الرفيعة في بؤرة الحرب من دون ان يؤخذ في الاعتبار دراسة ارضيتهم الثقافية او السياسية واية مسحة علمية يتمتعون بها ليسهموا في ايجاد الحلول لمصائبهم التي صنعوها واضرّوا بها البلاد , سوى صلة القرابة به ,
لذلك تمسكوا برتابة التمجيد الذي شجع رأس النظام على ازدراء المصالح الدولية في دول المنطقة , ولكي يعتمد على ارضية صلبة كبديل لتعددية الاحزاب التي تدعو اليه الدول الصديقة من غير الامريكان او الروس في صياغة مفاهيم اخرى لرعاية مصالح الشعب من ناحية ومصالح تلك الدول ذات العلاقة بسياسة العراق الخارجية من ناحية اخرى ,
فقد عمد على استغلال موقفه من الكويت ليعكسه في صنع مسرحية النداء التي ظن انها ستمنح الزيف الخانق لأساليب الحياة الذي صنعته نتائج الحرب العراقية – الإيرانية , القدرة على الحوار مع امريكا , وهي فعلآ كانت المقدمة الطويلة للحوار مع الأمريكان , إلا ان الأمريكان استخدموا بالحوار كعادتهم السياسة المضللة معه ومع العالم لينجم عنها حرب الخليج الأولى وهي المقدمة لإخضاع العراق الى الهيمنة الكاملة السياسية الأمريكية ,
وقد تم لها ذلك في خيمة صفوان واستباحت بها مساحات واسعة من الحدود البرية والبحرية انتقامآ من العراق لتبقي لنفسها اجزاء من الثروة النفطية لإستغلالها في مواعيد لاحقة كهدف سعت اليه خدمة للصهيونية والفكر الماسوني .
وحين انتهت المقدمة بالحرب ثانية عام 2003 وخُتمت من بعد بقرار تعيين بول بريمر رئيسآ للإدارة المدنية للعراق , بدأت مرحلة إنجاب سلسلة من الأحداث بقيادة الهيمنة السياسية الأمريكية , اولها دخول منظمة القاعدة الى العراق لتبدأ حربها على القوات الامريكية والعراقية على حد سواء , أما القوى الوطنية فقد فتحت جبهة لقتال القوات المحتله , وقوى اخرى انتهازية عملت لحساب قوى متعددة قاتلت المحتل والقوات العراقية المتعاونة معها .
بعد الإنتهاء من مقاتلة الفصائل الإرهابية العبثية المتمثلة بالقاعدة ومشتقاتها وانتشال العراق من مخططاتها المرسومة في مختبرات السياسة الامريكية دون رحمة او شفقة بالشعب العراقي الذي لم يتنفس الصعداء ,
جاءت عاصفة اخرى هوجاء لقوى الظلام المتمثلة بداعش الارهابي فعاثت بالمدن فسادآ وخرّبت البنى التحتية للبلاد وشرعت بإستإصال آثاره التأريخية بشكل همجي ومستهتر وصبّت جام نقمتها على فئات من الشعب اتصفت بفطرتها السلمية لقتلها بعد تكفيرها ,
وكانت هذه العصابات المصحوبة بالفحشاء والمنكر الذي تجاوز حدود العهر أينما حلّت, والمدعومة مباشرة من أمريكا وتركيا الأردوغانية , لا شأن لها سوى اسقاط المدن وحرقها لإنشاء المقابر الجماعية وصناعة الإتجار بالبشر عبر البحور السبعة عراة حفاة وبيع النساء كالبهائم على الطرقات وصب اللعنة والتكفير على من يخالف نهجهم الصهيوني المنحرف عن قيم السماء بأفكار تخرج بالية من رؤوس كبارهم العفنة الخاوية وهي تتقمص الهوية الإسلامية كذبآ ونفاق , كل هذا لتكون مقدمة ساعية الى تقسيم العراق ,
ولكن بقاء الأرضية الأجتماعية الرصينة للمجتمع العراقي المجيد التي هبّت منها فيالق الرجال وقد جمعتهم فتوى الجهاد التي انتخوا بها بسرعة وبشكل اذهل العالم لمواجهة هذه المقدمة دفاعآ عن أرضهم وحضاراتهم ومقدساتهم , قد انهت هذه الزوبعة السوداء من ناحية , وانهت دور اردوغان ليذهب الى دور آخر لمحاربة الأكراد على ارض العراق بذريعة الإرهاب من ناحية اخرى , وفشلت مهام القوات الأمريكية في دعمها اللوجستي العلني والفاضح لقوى الإرهاب ,
وعادت الأمور لتنتقل الحال الى مناخ ترعرع فية اللصوص ابتغاء اكتمال المؤامرة على استمرار الفوضى السياسية بالعراق ومضاعفة الغلاء في المعيشة من خلال قوالب اقتصادية صنعت في امريكا بعلامة جديدة بالشكل والمضمون على الشعب العراقي في اتباع الطرق الاقتصادية التي تساهم في هيمنتها على الإقتصاد بحجة تضييق الخناق على إيران الإسلامية لكسب تأييد فئات من الشعب للوصول الى اهدافها البغيضة .
ولاشك ان ازمة سعر الصرف بالدينار بدأت ترمز لتلك الهيمنة على الرغم من ان عمل الحكومة وان تلخّص باجراءات تعدها بطولية , إلا انها لحد الآن غير فعّالة , لأنها انطلقت من رؤوس لم تستطع دراسة جسد الأسواق العراقية من الناحية التشريحية , فضلآ عن عدم الإستعانة بخطط نقدية حديثة بعيدة عن تلك الهيمنة , وهذا مالم تفعله ,كذلك, الحكومات السابقة في فوضى المنافذ الحدودية ,
ومالم تفعله الحكومات التي تلتها في إزاء معضلة جولات التراخيص التي كانت بمثابة الجنين الذي شجّع على صناعة عمليات تهريب النفط التي نزع اليها ذوو الاعراق السيئة من موظفيها بعد ان كفروا بنعمتهم وباعوا عهودهم لشياطين الفساد الكبار ,
فلم تجد الحلول التي تعيد هذه الثروة الكبيرة الى السيادة الوطنية , فبئس من تخلى عن الوطن ببضعة قروش واعطى موالاته للهيمنة الامريكية , وبئس ذلك الجنين الذي يمثل انعكاس ليذكر بتفكير اجيال من السياسيين عديمي الفائدة لأجيالهم اللاحقة , تلك الأجيال التي صنعت تيارآ من اللصوص والمهربين ولم تأتِ بنفع ينفع الجياع والمهجّرين واعداد الارامل واليتامى والعاطلين ,
ومازالت رأس الأفعى الأمريكية يتقلب بصبغة الهيمنة التي نفهمها ماضية في مخططاتها وخاصة في مقدماتها واحداثها الحالية , تأمر بماتقول والحكومات تسمع ولا تطلق عنانها لشيء ,
أما الشعب ففاقد للأمل في النجاة من النهاية التي يبحث عنها اولآ , في لغة مقنعة لهذه الاجواء الصناعية بصبغة الهيمنة المؤثرة والتي يراها , لاشك , بسبب ما يحصل وراء الكواليس من اتفاقات وفقآ للأدب السياسي الأمريكي المهدد والمحطّم والمهشّم للبلاد , وهاهي علاماتها البارزة مرئية في كل مكان فاسد .
وليتفضل القاريء لقراءة هذه القصة من الادب القديم خاتمة لمقالتنا وعلية معرفة المغزى ;
نزل الفتى حسن في بئر وسط الصحراء من اجل الماء رغم تحذيرات الاعراب من خطورة العملاق هيمنة , إلا انه صمم ونزل , وفجأة جذبته يد هيمنة الى غرفة ليرى فيها فتاتين احداهما شقراء والاخرى سمراء , فتعجب , وبينما هو جالس يفكر في شأن الفتاتين مع هذا الوحش وفي الوسيلة لإنقاذهما , صاح هيمنة يسأله : ايهما الأجمل يافتى ؟
فاحتار حسن بالإجابة , هل يقول انها الشقراء ام السمراء . وبينما هو يفكر صرخ هيمنة : انك كأصحابك الذين جاءوا قبلك بدون عقل , عندها تذكر ان رجلآ يومآ قال له : ياحسن ” الجميل هو العين وما ترى والقلب ومايهوى ” . فردد حسن العبارة امام هيمنة العملاق , فصفّق له وقال : اصبت واطلب ماتشاء لأعطيك . فقال حسن : اريد ماء لجماعتي .
فقال العملاق : لك ماتشاء واخذه معه الى غرفة مملوءة بالحجر الذهبي واعطاه الكثير منه , واشترط عليه ان يطلي الحجر بالطين لكي لايغدر به جماعته . فعاد حسن الى زوجته وشيّد لهما قصرآ كبيرآ لايدانية في فخامته قصر الملك نفسه .