وقفة مع كتاب “المرأة: كيان وتمكين” للدكتورة أمل الأسدي
د. علي المؤمن
تكشف دلالات النصوص المقدسة عن مفهوم الإسلام للمثل الإنساني الأعلى، أو القدوة الإنسانية المتصلة بالمثل الأعلى المطلق، والتي تشكل المرجعية الأرضية الدينية والاجتماعية والأخلاقية للإنسان، سواء أكانت هذه المرجعية تاريخية أو معاصرة، فضلاً عن مصاديق هذا المفهوم، والمتمثلة في رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله)، ثم أهل بيته (عليهم السلام)، ومن بينهم المرأة القدوة، الصالحة لكل الأزمان. يقول رسول الله مخاطباً ابنته الزهراء: (( يا فاطمة ألا ترضين أنْ تكوني سيدة نساء العالمين وسيّدة نساء هذه الأمة وسيّدة نساء المؤمنين)).
ويشير الرسول هنا إلى حقيقتين:
الأولى: حقيقة مفهومية، وتتمثّل في وجود مثل أعلى إنساني ثابت للنساء المؤمنات.
الثانية: حقيقة مصداقية، وهي أنّ هذا المثل الأعلى ليس إلاّ فاطمة بنت محمد.
وتتأكد أهمية اقتداء المرأة بالنموذج الذي أراده الإسلام لها، وضرورته يوماً بعد آخر، وخاصة في مرحلة احتدام الصراع الثقافي والسياسي والميداني بين حالة الصعود الإسلامي، والهجمة الغربية المضادة، ولا سيما في بعدها الإجتماعي؛ إذ تحاول التيارات الغربية والمتغرِّبة في المجتمعات الإسلامية، فرض نماذجها الوضعية في مجالي الأسرة والمرأة. وتتلّخص هذه النماذج الوافدة؛ في المرأة التي فقدت هويتها وشخصيتها الحقيقية، وضاعت في متاهات الانحراف الفكري والاجتماعي والسلوكي. وفي الوقت الذي تفتقد التيارات المتغربة إلى النموذج المقبول والصالح للمرأة، فإنها تحاول نقل ضياعها الثقافي، وتجاربها الاجتماعية الفاشلة إلى مجتمعاتنا؛ لتكون جزءاً منها. وإذا نجحت في ذلك، فإنها تكون فقد حققت مقدّمة أساسيّة في الهيمنة الحضارية على واقع المسلمين.
وعلى مستوى التطبيق؛ فإن النماذج الوافدة، أو النماذج التي تُصنّع محلّياً في إطار مناهج متغرّبة، والتي تُطرح كقدوة للمرأة العربية والمسلمة، تتمثل ـ عادة ـ في ممثلاث ومغنيات وعارضات أزياء يتاجرن بشخصية المرأة، أو أديبات وإعلاميات (متحررات)، أو ناشطات اجتماعيات وسياسيات يمارسن لعبة المتاجرة نفسها، وما شاكل ذلك. ولا شك أن موجات التغريب والغزو الثقافي التي تستهدف مجتمعات المسلمين، حققت كثيراً من أهدافها، من خلال التركيز على قطاع المرأة أكثر من غيره، تحت شعار: ((المرأة قبل أيّ شيء))، لأن حرف المرأة يؤدي الى حرف الأسرة والمجتمع، والى تصدع بناه الثقافية والإنسانية والسلوكية.
وإيقاف الغزو الثقافي التغريبي عند حدوده، وطبع النموذج الحقيقي في عقول النساء العربيات والمسلمات وقلوبهن، وحماية الأسرة المسلمة؛ يتطلب جهوداً مكثّفة ومتظافرة على مختلف المستويات. وأهم عنصر حماية ومواجهة في هذا المجال؛ تكريس حالة التمسك بالمرأة القدوة التي طرحها الإسلام قبل ما يقرب من 1400 عام، وهي عودة إلى الأصول المقدّسة، وإلى المرجعية التي أمر الله باتّباعها، وهي ليست عودة زمنية إلى الماضي، والتشبث به، بذريعة عدم وجود نموذج عصري؛ بل هي عودة سلوكية وروحية إلى فاطمة الزهراء، لإخضاع الواقع النسوي المسلم الى سيرتها وسلوكها، بما ينسجم وعملية استيعاب الشريعة الإسلامية للمجتمع استيعاباً كاملاً. ولا يعدّ هذا الاقتداء جزءاً من عملية استنطاق التّراث؛ لأن فاطمة الزهراء ليست جزءاً من التراث أو الماضي، بل هي نموذج صالح للماضي، والحاضر والمستقبل.
هذه المرأة القدوة، قال عنها رسول الإسلام: «فاطمة بضعة منّي»، وأن اللَّه ليغضب لغضبها، كما في قوله: «يا فاطمة إن اللَّه ليغضب لغضبك، ويرضى لرضاك». ولذلك؛ فإن المرأة التي تقتدي ببنت رسول الله، هي وفيّة لدينها، وإنسانيتها، وتكتسب العظمة من سيدتها.. سيدة نساء الأمة. وعندها لن تكون هناك جدوى من البحث عن قدوة أخرى.. عصرية كما يقولون.
ولكي نُخضِع واقعنا لهذه الحقيقة، ونُبقي نموذج المرأة المسلمة القدوة ماثلاً في العقل والقلب؛ لا بد أن يبقى فهمنا لسيرتها متجدّداً، وواعياً للتحولات التي يفرضها الزمان على مستوى المعرفة والثقافة والفكر.
والى يمين السيدة فاطمة ويسارها؛ أمها السيدة خديجة الكبرى وابنتها السيدة زينب؛ هاتان القدوتان المكملتان للمرأة المسلمة، في تفكيرها العقدي وهويتها الدينية وسلوكها الإنساني والأخلاقي، وعلاقتها بأبيها وزوجها وأخيها وابنها وابنتها، وتضحيتها من أجل المبادئ. فهذا المثلث النموذج، الذي تتقدمة سيد النساء فاطمة، هو المعبر عن موقف الإسلام من المرأة، والمعبر عن موقف المرأة المسلمة من دينها وأسرتها ومجتمعها، ومن كل مقولات الحرية والحقوق كما تراها الشريعة.
ومن خلال سيرة السيدة الزهراء وأُمها وابنتها؛ يمكن استنباط المفهوم الإسلامي التأصيلي لتمكين المرأة المسلمة، والذي ينطوي على أدوات حديثة، تنسجم ومتطلبات العصر، وبذلك يتم انتاج نظرية نسوية إسلامية، أصيلة في قواعدها العقدية والفقهية، وعصرية في أدواتها ووسائلها، وهو أمر في غاية الأهمية والضرورة، ليكون إطاراً نظرياً وتطبيقياً لعملية تمكين المرأة المسلمة العصرية. ولاشك أن توعية المرأة والمجتمع النسوي المسلم، بل عموم المجتمع المسلم، بأهمية إلتزام هذه النظرية؛ سيجنب المرأة المسلمة والمجتمع المسلم مخاطر الانزلاق في تحريفات النظريات الغربية العلمانية والليبرالية والماركسية المستوردة، وكذا النظريات التوليفية الانتقائية التي تحاول التوليف بين النظريات الغربية المستوردة والبيئة الاجتماعية المحلية. وجميع هذه النظريات تتعارض مع تعاليم الإسلام وشريعته ومع الأعراف الإجتماعية المحلية للمسلمين؛ إذ أن مفهوم التمكين من منظار الإسلام له معاييره وقواعده العقدية والفقهية التي يجب استحضارها بدقة عند استنباط النظرية الإسلامية النسوية ((الذين إِن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتَوا الزكاة وأمروا بالمَعروف ونَهوا عن المنكر ولِلّه عاقبة الأمور)).
وقد أخذت الباحثة العراقية الدكتورة أمل محمد الأسدي على عاتقها العمل على استخلاص النظرية الإسلامية النسوية وتدوينها، وإخراجها بالمضمون التأصيلي والمنهج العملي القابل للتطبيق، وقد أبدعت في هذا المجال؛ فكان لها قصب السبق في التأسيس لهذه النظرية، والتي نقرأ نصها المركّز في الفصل الثاني من الكتاب، ثم منهجها وتفاصيلها ورمزياتها وتطبيقاتها في الفصول الأُخرى للكتاب.
ولعل هذا الحديث هو مدخل موضوعي لكتاب ((المرأة: كيان وتمكين)) الذي كتبته الباحثة والأديبة الدكتورة أمل الأسدي؛ فهذا الكتاب يكشف عن تفاصيل حياة وسلوك المرأة القدوة السيدة فاطمة الزهراء، وكذلك السيدتين خديجة وزينب، والدروس المستخصلة من سيرتهن على الصعد كافة، وهي دروس لصيقة بهوية المرأة المسلمة والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم، بل والدولة الإسلامية، بصرف النظر عن الزمان والمكان، وكذلك يكشف عن النظرية التأسيسية الإسلامية النسوية، والتي تقوم على مفهوم التمكين التأصيلي العصري للمرأة المسلمة.
ولا أرى أن أهمية هذا الكتاب وتوجهاته، تخصان المرأة المسلمة وحسب، بل تخص الرجل أيضاً في طبيعة علاقته بالمرأة، أياً كان عنوانها السببي والنسبي إليه. ولذلك؛ أدعو المرأة المؤمنة والرجل المؤمن على حد سواء، الى مطالعة هذا الكتاب والتوقف عند أفكاره وتحليلاته واكتشافاته، بل أدعو حتى المرأة غير الملتزمة بأوامر الشريعة ونواهيها، أن تقرأ هذا الكتاب، لتتعرف على مكامن الخلاف بينها وبين سيرة المرأة القدوة وسلوكها.
ختاماً؛ لا يسعني إلّا أن أقدم للباحثة المبدعة الدكتورة أمل الأسدي وافر التقدير على جهدها البحثي المهم هذا، والذي عبّرت فيه مرة أخرى عن إصرارها الانحياز لهويتها وانتمائها، وهي ذروة الموضوعية التي تجعل الإنسان واعياً بمتطلبات عصره، وبصيراً بالجادة التي توصله لرضا الله والولاء لآل البيت.