17 نوفمبر، 2024 1:35 م
Search
Close this search box.

التغريب المجتمعي واغتيال الهوية الإسلامية

التغريب المجتمعي واغتيال الهوية الإسلامية

  الغزو الفكري، الغزو الثقافي، الغزو الإعلامي، الاغتیال الثقافي، القهر الثقافي، اختطاف الهویة، اغتيال الهوية، استلاب الهوية، استلاب الشخصية، القهر السلوكي، التغريب الفكري، التغريب الثقافي، التغريب السلوكي؛ كلها مصطلحات ومفاهيم تدخل في إطار مشروع واحد، هو المشروع الاستكباري الغربي الهادف الى تغريب مجتمعات المسلمين، لغايات استعمارية وسلطوية. والحديث عن التغريب لايمثل حديثاً نظرياً وبحثاً ترفياً، بل هو لصيق بواقع المجتمعات المسلمة كافة، ودون استثناء، لأن هذه المجتمعات تعيش مظاهر كبيرة للتغريب الفكري والسلوكي والمؤسسي، على مستويات الفرد والمجتمع والدولة.    

   نقصد بالتغريب: اتخاذ الغرب مرجعية، على مستوى مناهج التفكير، والنتاجات الفكرية والمفاهيم والمصطلحات، والثقافة العامة والخاصة، والسلوك الفردي والمجتمعي، وهو ما يتعارض مع الهوية الإسلامية الفردية والمجتمعية التي تستند الى المرجعية الإسلامية في التفكير والسلوك، وهي مرجعية القرآن والسنة، ثم مرجعية الاجتهاد المتفرعة عنها، إضافة الى العادات والتقاليد المحلية التي لاتتعارض مع المرجعية الإسلامية، وهي غالباً عادات وتقاليد محافظة ومتوازنة. وإذا كان الله (تعالى) قد نهى عن اتخاذ المسيحيين واليهود مرجعية، وهم مؤمنين وأهل كتاب ((يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضُهم أولياءُ بعض، ومن يتولّهم منكم فإِنّه منهم، إِنّ اللّه لا يهدي القوم الظالمِين))، ((يا أيها الذين آمنوا لَا تتّخذوا الذين اتّخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أُوتوا الكتاب من قبلكم والكفّار أولياء، ۚواتّقوا اللّه إِن كنتم مُؤمنين)) ؛ فكيف بالمسلم وهو يتخذ النصارى واليهود الذين تحولوا الى ملحدين وعلمانيين مرجعية وأولياء سياسيين وفكريين وثقافيين؟!.

   وتعد فئات المراهقين والشباب والنساء الأكثر استهدافاً في عملية التغريب، وتحديداً المرحلة العمرية 14 ــ 35 سنة، وهي ـــ عادة ــ مرحلة تلقي واستقبال وانجذاب وانفعال، ويكون فيها الإنسان أكثر قابلية ذاتية على التماهي والحفظ والتقليد، شعوراً ولا شعوراً، أكثر منها مرحلة عطاء وفعل واستقطاب وجذب. وإذا تشكلت شخصية الإنسان وفق قواعد أو قوالب فكرية وثقافية وسلوكية معينة في هذه المرحلة العمرية؛ فسيكون من الصعب إحداث تغيير واختراق فيها عندما يتقدم في العمر.

   إن التغريب المجتمعي هو أهم مخرجات الغزو الشامل الذي تقوم به المدنية الغربية للشعوب الأخرى منذ أكثر من قرنين، وهي المدنية التي أفرزها ما يسمى بعصر الأوروبية، وما رافقه من احتلال عسكري مباشر لأراضي بلدان الجنوب، أي البلدان الإسلامية والأفريقية والآسيوية واللاتينية، وهيمنة اقتصادية، ونهب للثروات، وتصدير للأفكار والثقافات والمنهجيات، والنظم الالحادية والعلمانية والليبرالية والكنسية، وتشكيل جماعات من العملاء السياسيين والعسكريين والفكريين والثقافيين والمخابراتيين.

   هذا الغزو الشامل هو مظهر  للصراع الجدلي بين الأمم والحضارات والمدنيات والشعوب، والذي تتمكن من خلاله الحضارة أو المدنية المتفوقة والأمة المتفوقة مادياً أو معنوياً من فرض وجودها وسياساتها وأدبياتها وثقافتها ومفاهيمها وتقاليدها السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والمجتمعية على الأمة المنهزمة المقهورة. وهذه هي سنة الله في خلقه ((فلولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع ومساحد يذكر اسم الله فيها كثيرا)). وبالتالي؛ لايمكن في إطار نظرية التدافع الطبيعي، أن نلوم الأمة المتفوقة على فرض شروطها على الأمة المنهزمة المتخلفة، إلّا بمقدار ما نلوم الأمة المنهزمة نفسها، والتي سمحت لعوامل الهزيمة بالتسلل اليها.

   وظل الغازي الغربي يستهدف في عملية تغريب المجتمعات المسلمة الرخوة، ثلاثة مستويات: الفرد المسلم، والمجتمع المسلم، ودولة المسلمين، سواء في المرحلة التي كانت فيها الدولتان التركية والإيرانية تهيمنان على أغلب البلدان الإسلامية، أو مرحلة تأسيس الدول القومية والوطنية. وكانت المرحلة الأخيرة التي بدأت بعد سقوط الدول القاجارية في ايران والعثمانية في تركيا والمغولية في الهند، هي الأكثر ضغطاً وشراسة وتركيزاً، وهي المرحلة التي لاتزال مستمرة حتى اليوم؛ إذ تتوجت عملية الاستهداف الغربي للواقع الإسلامي بتأسيس أنظمة سياسية مرتبطة بالدول الغربية المحتلة ارتباطاً عضوياً ووظيفياً، وقد عملت هذه الأنظمة على توفير كامل الظروف للنفوذ الثقافي والفكري الغربي، من أجل تحقيق أهدافه في ضرب قواعد الثقافة الإسلامية وعناصرها النظرية والبشرية، واستلاب الهوية الإسلامية أو تشويهها وحرفها حداً أدنى، وصولاً الى الأعراف والتقاليد الاجتماعية، وذلك بذريعة التحرر والتطور والتقدم والعلم والنماء الفردي والاجتماعي، والقضاء على التخلف والرجعية والفقر، وهي شعارات أثبت تقادم الزمن أنها كانت لمجرد الاستهلاك الدعائي وحرف الأنظار عن حقيقة ما يضمره الغرب من أهداف استكبارية، تضمن له هيمنته السياسية والاقتصادية والثقافية الأبدية على بلدان المسلمين، بمساعدة الأنظمة المحلية المرتبطة به وعملائه الثقافيين.  

أدوات غزو المجتمع المسلم ثقافياً وتغريبه

   وتشتمل أدوات الغزو الثقافي والتغريب على أغلب مجالات حركة الفرد والمجتمع والدولة، كالفكر والثقافة والتعليم والفن، والسياسة، والتشريعات، والاقتصاد، والسلوك، في إطار ستراتيجية متكاملة، الأمر الذي يجعل مواجهة الغزو وصده وتحصين الهوية الإسلامية والثقافة المحلية، محفوفاً بالصعوبات والتعقيد، لأن من يقوم بعملية الردع والصد والتحصين، سواء كان فرداً أو جماعة إسلامية أو مؤسسة دينية أو ثقافية أو حراكاً اجتماعياً، سيواجه بشبكة عميقة نافدة في جميع مفاصل الدولة ومؤسساتها، وفي الأحزاب، والصحافة والإعلام، والمؤسسات التعليمية، ومؤسسات الانتاج الفني، ومنظمات المجتمع المدني، بما يشبه الدولة العميقة التي تحميها مافيا كبيرة لاترحم أي صوت مختلف أو معارض.  

   ويمكن حصر منافذ التغريب المجتمعي وأدواته ووسائله بما يلي:

1- المنفذ الأساس: وهو العامل الداخلي، المتمثل بضعف الحصانة الداخلية، وضعف الارتباط بالموروث الثقافي وبالدين وبالمؤسسة الدينية. وأسباب هذه الحالة تعود الى التقصير العام المشترك للفرد والأسرة والمؤسسة التعليمية والمؤسسة الدينية والشارع والمجتمع والإعلام الداخلي، وصولاً الى الدولة وقوانينها ووسائلها نفسها؛ إذ لاتقع مسؤولية التقصير على الفرد او المجتمع أو جهة بذاتها، بل يتحمل الجميع المسؤولية. ولعل من غير الممكن؛ نجاح الغزو الثقافي الغربي في تحقيق أهدافه، إذا كانت الجبهة الداخلية قوية ومتماسكة ومحصنة، وكانت مؤسساتها الدينية والثقافية والاجتماعية فاعلة، لأن النفوذ الخارجي سيكون صعباً أمام التحصين الداخلي وسد الثغرات والذرائع، ولاينجح الاستعمار، المباشر وغير المباشر، إلّا بوجود قابلية داخلية على استقبال مخرجاته وتلبّسها.  
2- الأداة الأساس: وهو الغزو الثقافي الشامل، عبر الأدوات الخارجية المصدرة من الغازي الغربي نفسه، أو الأدوات المحلية التي تسهل مهمة العناصر الخارجية وتمارس دوراً مكملاً، وخاصة وسائل الصحافة والاعلام والتواصل الاجتماعي المنحرفة دينياً وأخلاقياً، والسينما والدراما والموسيقى والحفلات والمهرجانات الفنية الفاسدة، والكتب والروايات المبتذلة، والتعليم العلماني، ومراكز الدراسات المنحازة، والرياضة النسوية غير الملتزمة، والألعاب الالكترونية، والأزياء الخليعة، والمفاهيم والمصطلحات الموجّهة، وصولاً الى أساليب العيش.    
3- الوسيلة الأساس: وتتمثل في ثلاث جهات متعاونة متعاضدة:
1- المستعمر الغربي، المحتل سياسياً واقتصادياً وثقافياً، سواء احتلالاً مباشراً أو غير مباشر، والمتمثل ــ غالباً ــ بدول بريطانيا وفرنسا وأمريكا
2- المؤسسة السياسية المحلية الحاكمة (النظام السياسي وحكومته)، وكثير من رجالها، وتشريعاتها، ومؤسساتها الإعلامية والفنية والتعليمية، وبعض الأحزاب. وليس من الضرورة أن يكون الحكّام أو الأسر والجماعات الحاكمة في هذه الأنظمة، مرتبطون ارتباطاً عضوياً ووظيفياً بدولة غربية، أو عملاء مخابراتيون وسياسيون لها، بل لعل بعضهم  يحمل نزعة مناهضة للاستعمار والتدخل الأجنبي، لكنه يؤدي، من حيث يدري أو لايدري، دوراً مساعداً للأهداف الغربية في تكريس التبعية الثقافية للغربي، وفي حرف مجتمع المسلمين دينياً وأخلاقياً وسلوكياً، وفي نشر الفساد والابتذال.
3- العملاء الثقافيون للمستعمر، سواء كانوا أفراداً أو جماعات، وخاصة العاملين في مجالات الفكر والكتابة والصحافة والإعلام والتعليم والسينما والموسيقى. وينطبق على النخبة المثقفة العميلة ما ينطبق على النخبة السياسية العميلة أيضاً؛ فلعل كثيراً من هذه النخبة يناهضون الاستعمار والغرب، لكن انتاجهم الفكري والثقافي والاعلامي والتعليمي والبحثي والفني، ومجمل أداءهم الثقافي، يصب في مجرى الأهداف الغربية في استلاب الهوية الاسلامية واغتيال مجتمع المسلمين ثقافياً وأخلاقياً وسلوكياً.

بين الغزو الثقافي والتفاعل الثقافي

    يرى بعض المعنيين بالخطاب الثقافي أن الحديث عن الغزو الثقافي والاغتيال الثقافي واستلاب الهوية وضرورة التحصين الداخلي، يتعارض مع المثاقفة وحوار الثقافات وتفاعل الأفكار وتكامل الحضارات، وأنه بات من أحاديث الماضي، بعد أن عملت وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلوماتية والاقتصاد العابر للحدود، على تحويل العالم الى بيت واحد، وليس مجرد قرية واحدة.

   وهنا أقول؛ إن التفاعل الموضوعي بين الأفكار المتنوعة، والحوار الندي والمتوازن بين الثقافات، والمثاقفة الطبيعية وغير القسرية والتي لاتحمل أهدافاً استعمارية، هي مفاهيم وأمور مقبولة، بل ضرورية، لأنها هدف إسلامي أصيل بالأساس، لأن الإسلام حضّ على الاستفادة من نتاجات الآخر الفكرية والعلمية والثقافية التي لاتتعارض مع التص المقدس ((الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه))، أو كما يقول رسول الله: ((أطلبوا العلم ولو كان في الصين)). كما حض على التعارف مع الشعوب والأقوام والتحاور معها ((يا أيّها الناس إِنّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرَمكم عند اللَّه أتقاكم))، وجعل التعارف علّة التنوع القومي والعرقي والديني، بهدف التوصل الى كلمة سواء (( قُل يا أَهل الكتاب تعالَوا إِلى كلمة سَواءٍ بيننا وبينكم ألّا نعبد إلّا اللَّه ولا نشرك به شيئاً وَلا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه)).

   كما لايعني الحديث عن خطاب التغريب والغزو الثقافي الغربي؛ أن الغرب شر مطلق في أفكاره ومناهجه وسلوكياته ونتاجاته، بل إن القصد هو الجانب العدواني المتمثل بالغرب المستكبر، الذي يعمل منذ ثلاثة قرون على اغتيال هوية المسلمين واستبدالها بهوية مشوهة، واحتلال البلدان المسلمة والمستضعفة، ونهب ثرواتها، واستعباد شعوبها، وليس الغرب بالمطلق، وليست الشعوب الغربية. وهنا ينبغي الفرز بين السلبي والإيجابي والمقبول والمرفوض والسيء والحسن والمفيد والضار من الفكر الغربي والسلوك الغربي، وهو المراد من مفردة ((أحسنه)) في النص القرآني ((((الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه)). وبالتالي؛ فإن قواعد الحوار الحضاري والمثاقفة والتفاعل الفكري تتعارض كلياً مع ما يقوم به الغرب من عمل ميداني هجومي عدواني في الجانب الثقافي والفكري والسلوكي، ينطوي على أهداف استعمارية وهيمنة سياسية واقتصادية وثقافية ومخابراتية، بهدف اغتيال الهوية الإسلامية وتغريب مجتمعات المسلمين.

   ولعل الفرز بين نتاجات الغرب وسلوكياته، وفق قواعد الوعي العميق المذكورة، هو أحد أهم عناصر القدرة على مواجهة الغزو الثقافي والرد على خطاب التغريب. وبرغم سطوة أدوات الغرب في غزوه وفاعليتها وتطورها؛ أن مواجهة الغزو وصده، وتحصين الفرد والمجتمع، وحماية الهوية الإسلامية، أمور مستحيلة أو غير ممكنة، بل على العكس، هي ممكنة جداً، فيما لو توافرت الإرادة والخبرة والتخطيط والأدوات الفاعلة والعمل المتواصل، عند الأفراد والجماعات والمؤسسات ذات العلاقة، لأن مجتمعات المسلمين تؤمن أساساً بهويتها وتعتز بها، وتتقبل فكرة التحصين الذاتي والتمسك بالهوية، وهذه عوامل داعمة مهمة تسهل عملية المواجهة، بينما لايحظى الغازي الغربي وعملاؤه السياسيون والثقافيون بهذه الميزة الأساسية المهمة، لكنهم يمتلكون ــ في المقابل ــ الأدوات الفاعلة والصوت العالي والسلطة والمال.  

أحدث المقالات