لم يَكد العراقيون ليَهنؤا بالتخلص مِن قائدِهم المُناضِل الضَرورة في2003، حتى أخرَجَت لهُم جُعبة ما كانت تُسَمّى بالمُعارضة العراقية عَشَرات القادة المُجاهدون الضَروريون، الذين بدأوا يتنافسون على حكم العراق وشعبه، وبانت أولى بشائرهم في ما سُمِّيَ حينَها بمَجلس الحُكم، وشيئاً فشيئاً باتوا الآمر الناهي في أمور البلاد والعِباد. ففي العراق الجديد ليسَ البَرلمان الذي ينتخبه الشَعب مَن يُقررالأمور ويَحسم المَسائل الشائكة والمَشاكل العالقة، بل يَجتمع قادة الكتل في غُرَف مُغلقة ليُقرروا، وكأن البَرلمانيون قاصِرون، وهم فعلاً كذلك، ولا يَستطيع فعل ذلك سوى القادة الضَروريون الذين وهَبَتهم لنا السَماء بهذا الزمن! مُعيدين لأذهاننا الشِعار الذي كان مَرفوعاً أيام الرئيس السابق بأنه (هِبة السماء في الزمن الصَعب) .
لقد بات واضِحاً إن أغلب هؤلاء الساسة لم يُعارضوا صَدام لأنه ديكتاتور،بل لأنهم كانوا يُريدون أن يَحلوا مَحَله، ولسان حال كل مِنهُم يقول لماذا صَدام وليسَ أنا؟ لم لا أكون في مَكانه وأحل مَحَله؟ لذا وجَدناهُم بَعد زوال نِظامه يَنهش بَعضَهم بَعضاً ويَكيدون لبَعضهم المُؤامَرات ليَبقى كل مِنهُم وحدَه القائد الأوحَد، على الأقل بالنسبة لأبناء طائفته وقوميته كما هو حال المالكي اليوم. كانوا يُعيبون على صَدام حَكَمه للعراق35 سَنة فيما يَحكم بَعضُهم حِزبه ويَترأسه منذ 40 سَنة، وإن أرادَ يَوماً التغيير يأتي بأبنه أو بأخيه مَحَله، وكأن أحزابهم ضِيَعاً أقتُطِعت لهُم ولعَوائلهم. كما كانوا يُعيبون على صَدام إنتخابات مُؤتمَرات حِزبه القطرية والقومية الصُوَرية المُزيّفة فيما إنتخابات أحزابهم ليسَت بأقل تزييفاً وصُوَريةً مِنها.
لقد ظهر بأن قادتنا الأشاوس لايَثِقون حتى بأقرب الناس لهم مِن أعضاء أحزابهم وكتلهم في البرلمان، وإلا ماالذي يَمنع أن يَكون التصويت في البرلمان ألكترونياً عَن طريق أجهزة مُبَرمَجة قرب مَقاعد النواب، وإن كانت الحكومة تشكو ضُعف الحال وشِحّة المال الذي تعدّى مِئات المليارات، فليُصار إذاً لنظام التصويت السرّي، ليتسَنّى لعُضو البرلمان الذي يُفترض أنه مُنتخب مِن الشَعب ويُدين بفضل إنتخابه له أن يُعبّر عَن رأيه ووجهة نظره بالشكل الذي يَراه مناسباً،لا أن يتم التصويت كما يجري مُنذ زمن بطريقة بدائية حَجَرية برَفع الأيدي ثم إحتسابها، وكأننا بمَدرسة لمَحو الأمية وليسَ برلمان! إن سَبَب الإصرار على هذه الطَريقة بات مَكشوفاً كي يتسَنّى لزَعيم الكتلة التي يَنتمي لها العضو مُراقبة تصويته وإمتثاله لأوامِره بأن يصوت مَع أو ضِد هذه الفقرة أو تلك، كونه صاحِب الفضل بترشيحه وجَعلِهِ نائب. وهذه مِن سيّئات نظام الإنتِخاب الحالي الذي ساعَد بإدخال نَماذِج غير كفوءة يَعلم زُعَماء الكتل لأنها ليسَت ذات شَعبية، لكنّهم أدخلوهُم في قوائمِهم وجَعَلوهم أعضاء بَرلمان ليَبقوا تحت رَحمَتِهم، وليُذكرّوهُم دائِماً بفضلِهم عَليهم ويقوموا بتنفيذ كل ما يطلبونه مِنهم ولإستِعمالهم كدُمى يَضغطون بها هنا ويُساومون بها هُناك.
لقد إستبدَل العراق دكتاتورية القائد المُناضِل بدكتاتورية القادة المُجاهدين كما يُسَمّون أنفسهم، الذين يُهَيّأون الطَبخة فيما بَينُهُم ثم يَتركونَها لتستوي على نار هادِئة، كطبخة رواتِبهم التقاعدية التي مَرّروها مَع قانون التقاعُد، والتي يُريدونها أجراً على (جِهادِهِم في سَبيل الله!) فبأس الجِهاد جِهاد مَدفوع الثمَن، وطبعاً مَطبخ البَرلمان جاهِز دائِماً لتمرير هذه الطبخات بفضل وجود أحزابهم، والتي لا عَمَل لأعضائها بالبَرلمان سوى رفع أياديهم كالروبوتات على طَبَخَات رؤساء كتلهم وأحزابهم بالرَفض أو الإيجاب،مُستغلين الدستور الذي طُبخ على عَجَل بظروف إستثنائية شاذة. لذا إن أراد البَعض أن يَتلاعَب بالألفاظ ليَضحَك بها على ذقون الناس ويقول أن هناك ديمقراطية في العراق، فليَكن دقيقاً ويُسَمّيها ديمقراطية أمراء الطوائف، وهي نوع متأخ مِن الديمقراطية تليق بأحزاب2003. أمّا الديمقراطية الحَقيقية فقد عَرفها العراق لمَرّة واحِدة في بداية تأسيس دَولته الحديثة قبل قرن مِن الزمن، ولو تركت لتتجَذر فِكراً ومُمارسة بالوَعي العراقي وفق التطور الطبيعي للأشياء دون عَمَلية القطع التي حدثت عام1958 لما وصَل حال العراق وشعبه لما هو عليه اليوم، ولشَهدنا الآن ديمقراطية عراقية حقيقية أصيلة وليسَ مُستوردة ومُفتعلة كالتي نعيشها اليوم،التي تم تفصيلها مِن اللحظة الأولى لتُطابق مُواصفات أحزاب المُحاصَصَة الطائفية والعرقية التي تحكم اليوم.
وهاهُم القادة الضَروريون يُختزلون اليوم تدريجياً الى قائِد ضَرورة أوحَد على شاكِلة مَن سَبَقه، والذي بَدأ اليوم بخُطة مُحكمة مُصاغة أقليمياً ومَدعومة دولياً لأزاحة بقيّة القادة الضَروريون وتصفيَتهم بشَتّى الطرق والأساليب. أنه القائد الفذ والبَطل المِغوار ومُختار الزمان حَجّي نوري المالكي رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المُسَلحة(رغم أنه لم يَكن يوماً عَسكرياً اللهم بإستثناء عمَله بالميليشيات) فهو وزير الدفاع والداخلية وكالة، ومُدير الأمن والأستخبارات والمُخابرات وكالة، ومُدير البنك المَركزي وكالة، ووو الى آخره مِن المَناصِب التي يبدوا أن لا أحَد يَستطيع أحَد شَغلها سوى الحَجّي بعَبقريته الفذة التي لا يُضاهيه بها أحَد، ما حدا بأحَد إمّعاته المَدعو عباس البياتي للتصريح عَلناً وفي شاشات التلفاز بأننا سَنستنسِخ المالكي!
عِندَما نرى حال العراق اليوم تحضَرُنا الكثير مِن الأمثال العراقية القديمة الجَميلة، والتي أختار مِنها هنا إثنين ينطبقان بشَكل كبير ورائِع مَع الفكرة التي طُرحَت في هذا المَقال وهُما (يا أم حسين كُنا بواحد صِرنا بمِيتين) و (حَسَن كجا وكجا حَسَن).
[email protected]