17 نوفمبر، 2024 5:56 ص
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (64): أفول نجم الإمبراطورية المغولية بسبب فساد الملوك

قصة الحضارة (64): أفول نجم الإمبراطورية المغولية بسبب فساد الملوك

 

خاص: قراءة- سماح عادل

يحكي الكتاب عن أفول نجم الإمبراطورية المغولية بسبب تنوع فساد ملوكها ما بين اسراف وتبذير وما بين قسوة مفرطة وما بين تعصب ديني. وذلك في الحلقة الرابعة والستين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

تدهور المغول..

انتقل الكتاب للحكي عن أفول نجم المغول: ” الملك “جهان كير” لم يكن متوسط القدرات والمواهب بقدر ما كان منحلاً قادراً؛ فقد ولد لأب تركي وأميرة هندية، وانفتحت أمامه الفرص كلها التي تسنح لولي العهد، فانغمس في الخمر والدعارة، وأطلق لنفسه العنان في التمتع السادي بالقسوة على الآخرين، وقد كان هذا الميل مجبولاً في فطرة أسلافه “بابور” و”هميون” و”أكبر” لكنهم دسوه دساً في دمائهم التترية، فكان يمتعه أن يرى الناس يسلخون أحياء، أو تنفذ فيهم “الخوازيق” أو يقذفون إلى الفيلة تمزقهم تمزيقاً: وهو يروي لنا في “مذكراته” أن سائسه وطائفة من الخدم قدموا ذات يوم إلى ساحة صيده، وكانوا من عدم الحذر بحيث أدى ظهورهم هناك إلى فزع الطرائد التي كان يتربص لها في صيده، حتى أفلتت منه تلك الطرائد، فأمر بالسائس أن يقتل، وبخدم السائس أن تخلخل ركبهم فيعيشوا أعمارهم كساحاً؛ وهو يقول إنه بعد أن أشرف على تنفيذ أمره هذا “مضى في صيده”.

ولما تآمر عليه ابنه “خسرو” جاء بسبعمائة من أنصار الثائر وأنفذ فيهم “الخوازيق” وصفهم صفاً على امتداد الشوارع في لاهور، وهو يذكر لنا في نشوة من السرور كم انقضى على هؤلاء الرجال من زمن حتى فاضت أرواحهم، وكان له حريم من ستة آلاف امرأة يرعين له حياته الجنسية لكنه فيما بعد انصرف إلى زوجة مفضلة، هي “نورجهان ، التي ظفر بها بقتل زوجها؛ وكان يسود حكومته عدل محايد لكنه قاسٍ؛ غير أنه إلى جانب ذلك قد أسرف في نفقاته إسرافاً أبهظ أمة كانت قد أصبحت أغنى أمم الأرض طرا بفضل ما أبداه “أكبر” في سياسته لها من حكمة، وما أسداه عليها أمْنٌ طال أمده أعواماً كثيرة”.

ويواصل عن المؤامرات التي حيكت ضده: “ولما دنا عهد “جهان كير” من ختامه، زاد الرجل انغماساً في خمره، وأهمل واجباته الرسمية في الحكومة، فكان من الطبيعي أن تنشأ المؤامرات لملء مكانه، وحدث فعلاً سنة 1622م أن حاول ابنه “جهان” أن يعتلي العرش، ثم لما فاضت روح “جهان كير” جاء “جهان” هذا مسرعاً من الدكن حيث كان مختفيا، وأعلن نفسه إمبراطورا، وقتل كل إخوته ليضمن لنفسه راحة البال؛ وقد ورث عن أبيه صفات الإسراف وضيق الصدر والقسوة؛ فأخذت نفقات قصره والرواتب العالية التي كان يتقاضاها موظفوه الكثيرون، تزداد نسبتها بالقياس إلى دخل الأمة الذي كانت تنتجه لها صناعة مزدهرة وتجارة نافقة؛ وبعد التسامح الديني الذي أبداه “أكبر” وعدم المبالاة التي أظهرها “جهان كير” جاء “جهان” فعاد إلى العقيدة الإسلامية، واضطهد المسيحيين، وراح يحطم أضرحة الهندوس تحطيماً واسع النطاق لا يعرف إلى الرحمة سبيلاً”.

ممتاز محل..

وعن الملكة الشهيرة ممتاز محل يحكي الكتاب: “وعوَّض شاه جهان بعض نقائصه بسخائه لأصدقائه، وكرمه للفقراء، وبذوقه وتحمسه للفن مما حفزه إلى تزيين الهند بأجمل فن معماري شهدته في تاريخها السابق كله، ثم بإخلاصه لزوجته “ممتاز محل”- ومعناها “زينة القصر”- ولقد تزوج منها وهو في سن الحادية والعشرين، بعد أن أنجب طفلين من خليلة أخرى، وأنجبت “ممتاز” لزوجها الذي لم يعرف الكلل، أربعة عشر طفلاً في ثمانية عشر عاماً، ثم قضت نحبها في سن التاسعة والثلاثين، وهي تلد آخر هؤلاء الأبناء، فأقام “شاه جهان” “تاج محل” وهو آية بلغت حد الكمال، أقامه تخليداً لذكراها وذكرى خصوبتها، ثم انتكس بعدئذ إلى دعارة مخجلة، وهذا القبر الذي هو أجمل قبور الدنيا جميعاً، إن هو إلا واحد من مائة آية فنية شيدها “جهان”، خصوصاً ما شيده منها في “أجرا” وفي “دلهي الجديدة” التي نمت تحت إشرافه؛ وأن ما كلفته هذه القصور من مال، وما غرقت فيه حاشية القصر من بذخ، وما استنفذه “عرش الطاووس” من أحجار كريمة ليدل بعض الدلالة على ما فرض على الناس في سبيل ذلك من ضريبة جاءت على الهند خراباً”.

مجاعة..

ويحكي عن مجاعة حدثت: “ومع ذلك كله، ورغم ما شهدته الهند إبان عهد “شاه جهان” من مجاعة هي من أسوأ ما مر بها في تاريخها من مجاعات، فقد كانت أعوامه الثلاثون التي قضاها في الحكم بمثابة الأوج في ازدهار الهند وعلو مكانتها؛ لقد كان هذا الملك الشامخ بأنفه حاكماً قديراً، ولئن أهلك أنفساً كثيرة في حروبه الخارجية، فقد هيأ لبلاده جيلاً كاملاً من السلام؛ كتب حاكم بريطاني عظيم لبمباي، هو “مونت ستيوارت إلْفِنْستون” يقول:

إن من ينظر إلى الهند في حالتها الراهنة قد يميل إلى الظن بأن الكتاب الوطنيين إنما يسرفون في وصف ثراء البلاد قديماً؛ لكن المدن المهجورة والقصور الحاوية والقنوات المسدودة التي لا نزال نراها، بما هناك من خزانات كبرى وجسور في وسط الغابات، والطرق المتهدمة والآبار ومحطات القوافل التي كانت على امتداد الطرق الملكية، كل ذلك يؤيد شهادة الرحالة المعاصرين بحيث يميل بنا إلى العقيدة بأن هؤلاء المؤرخين كانوا يقيمون أقوالهم على سند صحيح””.

أورنجزيب..

وعن الملك الذي يليه يذكر الكتاب: “كان “جهان” قد بدأ حكمه بقتل إخوته، لكن فاته أن يقتل أبناءه كذلك فَكُتِب لأحد هؤلاء الأبناء أن يخلعه عن العرش، وذلك هو “أورنجزيب” الذي أثار ثورة سنة 1657م وجاء زاحفاً من الدكن؛ فأمر الشاه- شأنه في هذا شأن داود- أمر قواده أن يهزموا الجيش الثائر، على ألا يقتلوا ابنه إن وجدوا إلى إنقاذ حياته من سبيل؛ لكن “أورنجزيب” غلب جميع الجيوش التي أرسلت لمحاربته، وألقى القبض على أبيه وسجنه في “حصن أجرا” حيث لبث الملك المخلوع تسعة أعوام يعاني مُرَّ العذاب، لم يزره ابنه في سجنه قط، ولم يكن إلى جواره من يرعاه سوى ابنته المخلصة “جهانارا”؛ وكان ينفق أيامه جالساً في “برج الياسمين” مرسلاً بصره عبر “جمنة” إلى حيث ترقد زوجته الحبيبة “ممتاز” في قبرها المزدان بالجواهر.

على أن هذا الابن الذي خلع أباه على هذا النحو القاسي، كان من أعظم القديسين في تاريخ الإسلام، بل ربما كان أميز الأباطرة المغول جميعاً بما كاد يتفرد به من صفات؛ فشيوخ الدين الذين تولوا تنشئته صبغوه بالدين صبغاً حتى لقد فكر هذا الأمير الشاب يوماً في أن ينفض يده من الإمبراطورية بل من العالم كله، ليعتزل الدنيا راهباً متعبداً؛ ولبث حياته كلها- رغم طغيانه ودهاء سياسته وتوهمه بأن أخلاق لا تكون إلا في مذهبه الديني- لبث حياته كلها رغم ذلك مسلماً ورعاً، يقيم الصلاة وينفق فيها وقتاً طويلاً، ويحفظ القرآن كله، ويجاهد في قتال الكفار؛ وما أكثر ما قضى من ساعات يومه في عبادته، وما قضى من أيام حياته صائماً.

وكان في معظم الأحيان يخلص في أداء شعائر دينه إخلاصه في الدعوة إليها؛ نعم لقد كان في السياسة بارداً يقدر عواقب الأمور تقديراً دقيقاً، وله قدرة على الكذب الماهر في سبيل بلاده وربه؛ لكنه مع ذلك كله كان أقل المغول قسوة وألطفهم مزاجاً؛ قل القتل في عهده، وكاد يستغني عن اصطناع العقاب في محاكمة المجرمين؛ وكانت شخصيته متسقة الجوانب فتواضع في عزة، وصبر في وجه المعتدي، وهدوء نفس في أوقات المحنة؛ وامتنع عن كل ما يحرمه دينه من ألوان الطعام والشراب وأسباب الترف امتناعاً كان يرقبه فيه ضميره؛ وعلى الرغم من براعته في عزف الموسيقى، أقلع عنها لأنها ضرب من اللذة الحسية والظاهر أنه نفذ ما صمم عليه وهو ألا ينفق على نفسه إلا ما كسبت يداه بالعمل فكأنه كان بمثابة القديس أوغسطين أجلس على العرش”.

تعصب ديني..

واتصف “أورنجزيب”  بالتعصب الديني: “كان “شاه جهان” قد خصص نصف دخله لترقية العمارة وغيرها من الفنون، أما “أورنجزيب” فلم يعبأ بالفنون، وهدم ما فيها من آثار “الكفر” مدفوعاً بتعصب ديني ساذج، وظل خلال نصف القرن الذي حكم البلاد فيه، يحارب في سبيل محو الديانات كلها من الهند إلا ديانته؛ وأمر عماله في الأقاليم وغيرهم من أتباعه أن يقوضوا كل المعابد التي تتبع الهندوس أو المسيحيين، وأن يحطموا الأصنام جميعاً، وأن يغلقوا مدارس الهندوس بغير استثناء؛ فكان من جرّاء ذلك أنه في عام واحد (1679- 1680م) هدم ستة وستين معبداً في “عنبر” وحدها، وثلاثة وستين معبداً في “شيتور”، ومائة وثلاثة وعشرين معبداً في “أودايبور”، وأقام مسجداً إسلامياً في مكان معبد كان قائماً بنارس وكان موضع قدسية خاصة عند الهندوس، بغية الإساءة المتعمدة إليهم؛ وحرم إقامة الشعائر الهندوسية علناً، وفرض ضريبة فادحة على كل هندي لم يعتنق الإسلام.

فكان من نتيجة هذا التعصب الديني أن خربت ألوف المعابد التي كان يتمثل في بنائها؛ أو تحتوي داخل جدرانها فنون الهند مدى ألف عام، فيستحيل علينا اليوم إذا ما أرسلنا الأبصار في جنبات الهند، أن نعلم شيئاً مما كان لها من جلال وجمال.

استطاع “أورنجزيب” أن يحول حفنة من جبناء الهندوسيين إلى الإسلام لكنه حطم أسرته وبلاده معاً، ولئن عده بعض المسلمين على أنه من القديسين، فقد عده ملايين الشعب الهندي الذين أخرست ألسنتهم وأرعبت قلوبهم، شيطاناً رجيماً، وفروا من جباة ضرائبه وتضرعوا إلى الله داعين له بالموت؛ نعم بلغت الإمبراطورية المغولية في الهند أثناء حكمه أوج رفعتها، إذ امتدت رقعتها إلى بطاح الدكن، لكنها كانت قوة لا تقيم أساسها على حب الشعب، وكان لا بد لها أن تنهار عند أول لمسة معادية قوية، حتى لقد بدأ الإمبراطور نفسه في أواخر سنيه يتبين أنه قد جلب الدمار إلى تراث آبائه بورعه الضيق الأفق، وأن ما كتبه في فراش موته من خطابات، ليعد وثائق تساق لمأساتها، يقول فيها:

“لست أدري من أنا، ولا إلى أين يكون مصيري ولا أعلم ماذا عساه أن يصيب هذا الآثم المليء بالذنوب. لقد انقضت أعوامي بغير غناء؛ كان الله ماثلاً في قلبي، لكن عيني المظلمتين لم يشهدا نوره. ليس لي في المستقبل رجاء؛ لقد ذهبت عني الحمى، لكن لم يعد لي من الجسد إلا إهابه، لقد كنت كبير الإثم ولست أدري أي عذاب أنا ملاقيه…وعليك سلام الله””.

تحطيم إمبراطورية المغول..

ويضيف الكتاب عن موت أخر ملوك الإمبراطورية “أورنجزيب” وبدء انهيارها: “وأمر قبل موته أن تكون جنازته بسيطة إلى حد الزهد، وألا ينفق في كفنه إلا الروبيات الأربع التي كسبها بحياكة الطواقي؛ وأن يغطى نعشه بقطعة من “الخيش” الساذج؛ وترك للفقراء ثلاثمائة روبية كسبها بنسخة صورة من القرآن، ومات وعمره تسعة وثمانون عاما، بعد أن عمر على الأرض أمدا أكثر جدا مما أراد له أهل الأرض أن يعيش.

ولم تمض بعد موته سبعة عشر عاما حتى تحطمت إمبراطوريته إربا إربا؛ وكان ما كسبه “أكبر” بحكمته من مناصرة الناس للحكومة، قد أضاعه “جهان كير” بقسوته، و”جهان” بإسرافه، و”أورنجزيب” بتعصبه؛ وكانت الأقلية المسلمة قد انهدمت قواها بحرارة الهند، وفقدت النخوة العسكرية والقوة الجسدية التي كانت لها أيام شبابها، ولم تأت إليها حملات جديدة من الشمال تشد أزر قواها المنهارة؛ ثم حدث في الوقت نفسه أن بعثت جزيرة صغيرة نائية في الغرب بطائفة من تجارها لتحصد في الهند من كنوز، ولم تلبث بعدئذ أن أرسلت مدافعها لتستولي على هذه الإمبراطورية الفسيحة الأرجاء، التي تعاون فيها الهندوس والمسلمون على بنيان حضارة من حضارات التاريخ الكبرى”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة