خاص : دراسة بقلم – عمرو إمام عمر :
مدخل
في الحلقة السابقة توقفنا عند بدايات القرن التاسع عشر مع خروج الحملة الفرنسية من مصر وعودة البلاد للحكم التركي، ثم تولى “محمد علي” الحكم بعد ثورة الشعب المصري على الولاة الأتراك المعينين من قبل الباب العالي في الآستانة؛ شهدت البلاد في تلك الفترة الكثير من الفوضى والصراعات الشديدة بين المماليك والأتراك بينهم وبين بعض من جهة، وبينهم وبين المصريين من جهة أخرى، فلقد بدأ ينمو شعورًا وطنيًا خالصًا بعيدًا عن الولاء للباب العالي في الآستانة شعور مختلف اكتسبوه من خلال نضالهم ضد الفرنسيين، فلأول مرة منذ قرون طويلة يشعر المصري أنه صاحب البلد الأصلي، في نفس الوقت كانت قوة العثمانيين والمماليك قد ضعفت؛ فقد أنقسم المماليك إلى ثلاثة فرق، الأول بزعامة “محمد بك الألفي” الذي ارتمى في أحضان الإنكليز، والفريق الآخر بقيادة “عثمان بك البرديسي” الذي أقام علاقات قوية مع الفرنسيين، بينما بقي فريق ثالث بقيادة “عثمان بك حسن” آثر أن يقف على الحياد، والدولة العثمانية لا تستطيع فرض سيطرتها على البلاد خصوصًا وأن المماليك حاولوا استعادة نفوذهم القديم، وتوالى الولاة واحدًا تلوا الآخر، عجزوا جميعًا عن القيام بمهامهم، فمنهم من قُتل قبل أن يصل إلى القاهرة، و من وصل إليها أختبأ خلف أسوار القلعة لا يغادرها خوفًا على حياته، فلقد انتشرت موجات من القتل والعنف نتيجة للصراع بين المماليك وبين الأتراك، ولقد أنعكس ذلك على حياة المصريين.
نتيجة لذلك تراجعت هيبة المماليك والعثمانيين الأتراك التي كانت في عيون المصريين وأخذوا ينظرون لهم نظرة الغريب المحتل، فلقد ظهر خلال الحملة الفرنسية مجموعة من الزعامات الشعبية ارتبط بها المصريين وحظوا باحترامهم، ومنهم على سبيل المثال الشيخ “عمر مكرم”، الشيخ “السادات”، الشيخ “الشرقاوي”، الشيخ “محمد الأمير” وغيرهم، في نفس الوقت بدأت أيادي الغرب تتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، وبدأ يظهر على السطح اسم “محمد علي” خلال قيادته للجنود الأرناؤوط والألبان في مواجهتهم مع المماليك اللذين ضعفت شوكتهم بعد معاركهم التي نشبت بينهم وبين الفرنسيين ولم يبقى منهم سوى أربعة آلاف مملوك، وبضعة مئات من الأرقاء اللذين استجلبوهم، وكان أنضم لهم بعد خروج الحملة الفرنسية بضعة مئات من الجنود الفرنسيين قد يصل عددهم إلى ثلاثمائة اللذين لم يرحلوا مع الحملة وآثروا البقاء في مصر وانضموا إلى صفوف المماليك، هذا فضلاً عن التنافس والصراع بينهم وبين بعض، كل هذا أدى إلى تنامي الروح القومية لدى المصريين والرغبة في أن يكون لهم رأي في من يحكمهم، فهم لم ينسوا مظالمهم القديمة سواء مع الترك أو المماليك، فالشعب هو الذي قاد الثورات ضد المحتل الفرنسي والزعامات الشعبية أصبح لها تواجد ملحوظ كونتها الظروف السياسية المتقلبة، وأصبح لهؤلاء الزعماء صوت مسموع لتتطور الأحداث ليفرض الشعب المصري وزعماءه على الباب العالي اسم “محمد علي” ليكون واليًا على مصر.
منذ بدايات القرن التاسع عشر شهد تغيرات كبيرة فقد أطيح بملوك وجاء آخرون؛ تغيرات كثيرة بدأت تحدث في الخريطة السياسية للعالم، فإذا كان نابليون الضابط الفرنسي الكورسيكي قد استطاع اعتلاء عرش فرنسا ليُصبح إمبراطور برغبة الشعب، ففي المقابل جاء “محمد علي” الضابط الألباني ليتولى حكم مصر برغبة الشعب أيضًا، استطاع “محمد علي” أن يكسب ثقة الزعماء الشعبيين إذ أجتمع كافة رؤساء الطوائف وذهبوا في شكل مظاهرة وطنية أنضم لها الكثيرين منادين بسقوط الوالي التركي ومعلنين تولية “محمد علي” زمام الأمور، وبالفعل يتولى “محمد علي” المنصب وأستطاع التخلص من المماليك منافسيه الأساسيين بعد معارك متتالية في القاهرة والجيزة والصعيد وأخيرًا أستطاع الإجهاز عليهم بشكلٍ كامل بعد مذبحة القلعة الشهيرة.
الاقتصاد المصري والشامي من عهد من المماليك إلى “محمد علي”
لن أدخل كثيرًا في السرد التاريخي لـ”محمد علي”، ولكني سأركز على الناحية الاقتصادية، فمن المعروف تاريخيًا أنه يُعتبر مؤسس مصر الحديثة، وتلك حقيقة لا أنكرها ولكن يجب أولاً أن نعرج سريعًا على شكل الاقتصاد المصري في تلك الفترة ونمط توزيع الملكية والإنتاج والتجارة، خلال فترة المماليك وحتى بعد استيلاء الدولة العثمانية على حكم مصر؛ كان الاقتصاد خاصة فترة حكم العثمانيين تحت سيطرة تحالف تم بين التجار والمماليك، وكان المصدر الرئيس لهؤلاء هو التجارة الناتجة بينهم وبين باقي ولايات الدولة العثمانية، هذا بخلاف الأراضي الزراعية والتي لها وقفة أخرى، ويمكننا أن نوصف أنه كان هناك سوقًا عثمانيًا تتأثر بالتقلبات والتغيرات الداخلية إلا أنها كانت ضعيفة التأثر بالتقلبات الخارجية، ومع انتصاف القرن الثامن عشر حدثت تغيرات كبيرة فقد كانت أوروبا في حاجة للمواد الخام التي تُنتجها مصر والبلدان العربية ومن أجل تحويل تلك السلع إلى الأسواق الأوروبية كانت الدول الأوروبية تقدم حوافز مالية كبيرة تفوق ما تقدمه السوق العثمانية، وفي نفس الوقت كانت أوروبا في حاجة إلى سوق لصرف السلع المصنعة فكانت تُصّدر إلى باقي دول العالم، في المقابل كان المماليك يشترون الأسلحة من أوروبا ولكي يتم دفع ثمنها كان يتم مبادلتها بمنتجات زراعية، ومع مرور الوقت حدث عجز في الميزان التجاري لصالح أوروبا وإن كان مع مرور الوقت أمكن تعويض جزء من هذا العجز من خلال سوق التجارة الداخلية العثمانية، إلا إن التجارة مع أوروبا ازدادت ومع حلول عام 1840 أصبحت أوروبا الشريك التجاري الرئيس لمصر وباتت جزء من النظام العالمي الأوروبي الجديد، أي أصبحت عرضة لتقلبات السوق العالمية أكثر من استجابتها للسوق الداخلية.
شهد سوق التجارة في مصر ما عرف بتعدد العُملات، فقد كان هناك العُملات الأجنبية أو الغربية، وتلك كان لها مكانتها في المعاملات التجارية الكبيرة، أما التداولات اليومية فكانت من خلال العُملات المضروبة محليًا، وبسبب واقع الحياة الاقتصادية بسبب سوء أوضاع وإدارة الدولة العثمانية انخفضت قيمة العُملة المحلية بشكلٍ كبير بدأ من القرن السابع عشر، وكان من أشهر العُملات الغربية تداولاً هو الريال الهولندي الذي أنتشر في الشام وفي أراضي الحجاز، وكان مضروبًا من الفضة وقد نُقّش عليه رسمًا لأسد لذا عُرف باسم “القرش الأسدي” وأحيانًا باسم “أبو كلب”، أما العُملة الغربية التي كانت تحظى بالاحترام الشديد هو “الدوق البندقي”، وكان يُضرب من الذهب وكان ذو قيمة ثابتة، فوزنه 3.494 غرامًا ظل ثابتًا من عام 1516، وكان يُطلق عليه “الشريف البندقي”، وكان يُعادله من العُملة المحلية “الشريف المحمدي” الذي كان عُملة ذهبية محلية تُعادل البندقي في الوزن.
أما العُملات المحلية للأسف الشديد كان هناك ثمة اختلافات كبيرة تحدث بين الحين والآخر بين القيمة الفعلية وقيمتها الاعتبارية، وذلك بسبب التلاعب الدائم في قيمة النقود الفضية التي كانت تصّك بالقاهرة، لذا أتجه المسؤولين إلى تثبّيت قيمتها الاعتبارية التي كانت أعلى من قيمة الفضة التي تشملها، كما انتشر لفترات طويلة ظاهرة تزييف العُملة مما زاد من اضطراب الأسواق التجارية، وهناك أيضًا “القرش الإسباني” أو “قرش إشبيلية” الذي لعب دورًا كبيرًا في التجارة العربية خاصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وعُرف في الوثائق العربية بـ”الريال المشط” كما ذكر في وثائق المحاكم في تلك الفترة.
تأثرت التجارة الخارجية بعد أكتشاف البرتغال لطريق رأس الرجاء الصالح لم تُعد لها الثقل الكبير في العملية الاقتصادية والتي اقتصرت على التبادل التجاري مع البلدان المجاورة من ولايات السلطنة العثمانية، حتى جاءت الحملة الفرنسية على مصر، ثم تولى “محمد علي” الولاية حيث شهدت البلاد انفتاحًا كبيرًا.
الملكية الزراعية في مصر والشام خلال الحكم التركي
تُعتبر الزراعة هي حجر الأساس الذي تأسّست عليه الحضارة المصرية، فقد كانت السيطرة على الأراضي الزراعية تعني السيطرة شبه الكاملة على ثروات البلاد، فهي أيضًا تنشأ حولها مجموعة من الأنشطة المكملة لها مثل بعض الصناعات التي تعتمد على المنتجات الزراعية؛ كذلك عمليات النقل والملاحة الداخلية لنقل المنتج الزراعي، لذا فقد عملت الحكومات المركزية خلال فترات طويلة من حكم مصر على تنظيم علميات الري والتحكم في المياه وتطوير إنشاء الترع والمصارف والقناطر، وذلك لحتمية جغرافية، فمصر تتألف من ثلاثة عناصر أساسية هم النهر والصحراء والبحر، وإن يُشكل النهر والصحراء الجانب الأكبر تأثيرًا في تلك العناصر الثلاثة، ولطبيعة نهر النيل فهو في مستوى منخفض من الأرض وللاستفادة من جريانه يجب العمل دائمًا على شق الترع والمصارف وأي إهمال في تلك النقطة يؤثر بشكلٍ كبير على الناتج الزراعي، لذا فلا يمكن دراسة تاريخ مصر بدون دراسة تطور الملكية الزراعية ودورها الاقتصادي والاجتماعي.
لم تعرف مصر الملكية الفردية للأرض الزراعية حتى بدايات القرن التاسع عشر، فقبل ذلك كانت الأرض ملكًا للدولة وكان يتم توزيعها على الفلاحين كحق انتفاع فقط منذ عهد الفراعنة وهذا الحق عادة ما يكون لمدة عام أو أكثر، ويقوم بتوزيع الأراضي مشايخ القرية على الفلاحين القادرين على زراعة الأرض سنويًا وحق الانتفاع هذا قد يكون لمدة عام أو أكثر وفي أحيان كان يتم توريث حق الانتفاع، وقد أقتصر نظام حق الانتفاع فقط على الأراضي الزراعية، بينما الأراضي غير الزراعية فقد اعتبرت حق مشاع، ولقد أعطت دولة المماليك ثم العثمانية بعد ذلك لقبائل البدو حق الاستيطان في الأراضي غير المزروعة؛ ولكن لا يتملكونها، وفي نواحي الشام وسوريا، سنجد أن السلطان أعطى قبائل البدو التُركمان حق المراعي في الغابات دون أن تكون ملكية الأرض حق لهم، وفي خلال حكم المماليك تم توزيع بعض الأراضي على المماليك كإقطاعيات ينتفعون بها ولكن ليس لهم حق التوريث، وكان الأمير من المماليك يملك حق ما بين قرية واحدة إلى عشرة قرى، بينما المملوك العادي عادة ما يستحوذ على ضيعة، وفي بعض الأحيان نصف ضيعة، أما الفرسان منهم فكان لهم جزء من قرية، وفي أحيان كان الحاكم يعطي بعض الأراضي التي هي في الأصل بور لكبار رجال الدولة من الموظفين لاستصلاحها وزراعتها، وخلال فترة الحكم التركي باتت الأراضي أرضًا سلطانية خاصة التي كانت في حوزة سلاطين المماليك والإقطاعات العسكرية وأي أرض لم يتمكن واضعو اليد عليها من أثبات ملكيتهم لها، خلال فترة حكم الأتراك كان في أحيان الوالي الباشا عندما يُريد أن يكسب ولاء قواد العسكر يوزع عليهم أملاكًا ومزارع لتُصبح ملكًا خاصًا بهم، أما في الشام فلم تذكر الوثائق أي مخطوطات تتعلق بالممتلكات السلطانية، وهناك ما عرف باسم الأراضي الخراجية وهي تُمثل أراضي الالتزام وقد عرفت تلك الأراضي باسم الوسية فكانت تُمنح للملتزم على أن يقوم بدفع الضرائب المقررة عليها مقدمًا – Tax Farming – على أن ينتفع بما تُنتجه، في بداية هذا النظام كان يتم تجديد الالتزام سنويًا ولكن مع مرور الوقت أصبح للملتزم حق توريث الأرض لأولادهم، أو ببيع حق الالتزام، والمُلتزم كان إما من أفراد الحاميات العسكرية أو أمراء المماليك أو التجار والأفندية من موظفي الدولة، وبعضهم من رجال دين، وأحيانًا بعض شيوخ القبائل البدوية، وفي أوقات أخرى يكون أحد كبار بطن من بطون العشائر التي تقطن القرية، مما كان له أثر كبير في تشكيل سلطة زعامات العشائر والقبائل.
أما المدن المعطاة كإقطاعيات؛ وأذكر هنا بعض المدن كمثال: سرمين، معرة النعمان، وسلمية فى شمال سوريا، نابلس في فلسطين، أشمون ودمنهور وأطفيح وعيذاب في مصر، فكانت من نصيب كبار الأمراء، أما المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية ودمياط ورشيد ودمشق وحلب فكانت تؤول للسلطان في إسطنبول ويُديرها مندوب عنه حتى عام 1812، ثم تم إلحاقها بكيخية الوالي وكان عليه أن يدفع من مداخيلها السنوية نفقات الحامية والإدارة بالإضافة إلى ضريبة سنوية للسلطان، أما في الشام فإننا لا نجد خلال القرن السادس عشر وما قبله، وفي خلال فترة حكم العثمانيين الذي أستمر أكثر من قرنين كان الصراع بين ما بقي من المماليك والدولة العثمانية متأرجحًا، فإذا كان الوالي قويًا استطاع أن يُفرض سيطرته، وإذا كان ضعيفًا، استطاع المماليك أن يُفرضوا سيطرتهم وفي الحالتين كان الشعب يُعاني بينهم أقسى ألوان الظلم والتعسف، في المقابل كانت ملكية الأرض – أو حق الانتفاع بها في الحقيقة – أحد العناصر الأساسية في الصراع الدائم بين المماليك من جهة وبين و الدولة العثمانية في الجانب الآخر.
وبهذا يُمكننا تقسّيم حيازة الأراضي في مصر إبان الحكم العثماني إلى خمسة أنواع: –
(1) أراضي الالتزام، وهي كما شرحنا من قبل؛ التي كان يلتزم بها شخص لدفع الضرائب المقررة عليها مقدما للدولة وكانت تُعتبر من أهم سمات حيازة الأراضي.
(2) الإقطاعيات العثمانية؛ وهي أراضي المماليك التي صادرها الأتراك، بالإضافة إلى أراضي الإقطاعيات العسكرية، وكلها كانت تحت سيطرة السلطان العثماني بشكلٍ مباشر.
(3) أراضي المسموح؛ وهي الأراضي التي كان يتم منحها لبعض المشايخ أو لرؤساء القبائل البدوية.
(4) أراضي الرزقة؛ وهي أراضي كان يمنحها السلطان لبعض المقربين من كبار موظفي الدولة، وكان لأصحابها حق توريثها وكانت معفاة من الضرائب ما عدا ضريبة رمزية كانت تُدفع للسلطات المحلية نظير حمايتها وكان يُطلق عليها أراضي “الرزقة بلا مال” أو “الوسية”، وكانت عادة تؤجر للفلاحين نظير إما جزء من المحصول أو مبالغ نقدية.
(5) أراضي الأوقاف؛ وهي أراضي كان يتم وقفها للمساجد والأضرحة ولأعمال البر وكانت تُعفى من الضرائب عدا ضريبة الحماية، وعادة كان يستأجرها الوجهاء والأمراء ثم يقوموا بإعادة تأجيرها إلى الفلاحين بعد أن يقوموا بتقسّيمها إلى قطع صغيرة.
حياة الفلاحون والقرية المصرية في العهدين المملوكي والعثماني
لم يُحبذ الأمراء من المماليك أو الأتراك المعيشة في القرى التي كانت تُمثل إقطاعاتهم، وإن سّكنها المماليك من الفرسان فكانوا في أوقات السّلم يقيمون في إقطاعياتهم يشرفون على إدارتها وكان يتم استدعائهم عند الحاجة إليهم للخروج في حملات عسكرية لإخماد إحدى الفتن الداخلية أو لصد عدو خارجي، وإن قل عددهم بعد ذلك خصوصًا مع بدايات الدولة المملوكية الثانية – 1416م -، الفئة الثانية التي كانت تسّكن القرى هم العبيد والجواري الذين ملكهم التجار والفقهاء والقضاة، أخيرًا “الفلاحين” وهم السّكان الأصليين للقرى وهم القوى المنتجة الحقيقية بها، وللأسف الشديد كانوا يعيشون في حالة من القحط والفقر والجهل، ملابسهم رثة متسّخة نتيجة للعمل الشاق في الحقل، بالكاد تُخفي عوراتهم، أما عن الأطفال يقول المؤرخ الفرنسي “بريس دافن”: “عن الأطفال لن يرى الناظر شيئًا أقبح من هؤلاء الأطفال العراة، اللذين لم يغسلوا وجوههم في حياتهم قط وقد حاصر الذباب جفونهم…”، فالغذاء في غالبه من ناتج المزروعات لا يزيد عن بعض الفول المسّلوق، والكوسة، اللفت، التمر، وقليلاً من السمك خاصة في فترة انحسّار الفيضان، وأحيانًا بعض الطيور التي يربونها ولا يعرفون اللحم الأحمر إلا فيما ندر عادة في الأعياد والمواسم، فالفلاح يعيش في عذاب متصل ما بين جشع الجباة وأسياده من الأمراء سواء من المماليك أو الأتراك، كذلك فساد رجال الإدارة من السلطة المركزية، ومهما أنتج الفلاح من محصول فلن يستطيع تدبير ما يضمن له المستقبل، فكلما إزداد هو فقرًا، عظمت ثروة الأسياد، ولا ملاذ له سوى الإذعان للقضاء والقدر، هذا ما تعلمه من أرباب الدين من المشايخ وتغلغل هذا الفكر في عقله؛ أما الفلاحين العاملون في الأرض التي كانت تحت إمرة الملتزمين، فكانوا يعاملوا معاملة العبيد يأتمر بمشيئة أسيادهم ملاك الأرض، فلا يحق له الخروج من القرية إلا بإذن من سيده ولمدة يُحدّدها هو، وإذا حاول الهرب كانت السلطات تلزمه بالعودة بالقوة إلى إقطاعية سيده، وكان السيد عادة يأمر بجلده أو بوضعه في السجن وأحيانًا يأمر بقلته، ومن المرويات قام فلاحوا “قرية رزقة” في وسط الدلتا يشكون أمر سيدهم إلى الحاكم العام ويطلبون منه التدخل لإصدار أوامره على السيد الإقطاعي بتخفيض الضرائب والإيجارات فرد الحاكم طلبهم بالإيجاب، أما الإقطاعي فأجاب بكل صراحة ونفور: “لا يحق لأى إنسان أن يتدخل بين السيد وعبيده، ولن أفعل كذا…”.
الضرائب على الأطيان
الفلاحون مقابل حراثة الأرض وزرعها كان الإقطاعي يفرض عليهم ضريبة الخراج، أما الإقطاعيات السلطانية فكانت توضع في عهدة ملتزم يقوم بدفع قيمة الضرائب المفروضة على القرية المخصصة له مقدمًا، ثم يقوم هو بجمع المال من الفلاحين، ونظام الالتزام بدأ بالأراضي الواقعة على الشاطيء السوري والفلسطيني، ثم عرفت مصر هذا النظام في القرن الخامس عشر، ونظام الالتزام يُعتبر انعكاسًا لضعف السلطة المركزية، وبسبب تعدد الضرائب على الفلاح والنسّبة التي يفرضها عليه سيده الإقطاعي لا يبقى له شيئًا تقريبًا.
………………………………………………………………..
هوامش
( 1 ) ولد “محمد علي” في مدينة قوله الألبانية في سنة 1769، والطريف أنه ولد في نفس العام “نابليون بونابرت”، جاء إلى مصر كضابط ضمن الفرقة الألبانية المُرسلة لمحاربة الفرنسيين، ثم رقي إلى رتبة قائد طابور وبقي بمصر بعد خروج الحملة الفرنسية؛ وترقى إلى رتبة رئيس حرس السرى.
( 2 ) شهدت أوروبا خلال القرن الثامن عشر ثورة صناعية؛ حيث أنتشر إحلال الآلة محل العمل اليدوي، فكانت نهضة علمية تنوعت فيها الأبحاث والتجارب لتشمل كافة فروع العلوم أدت إلى اختراعات واكتشافات نعيش أثرها حتى اليوم، من استخدام الطاقة البخارية إلى التصنيع الكيميائي وتطوير الآلات وظهور أنظمة المصانع الميكانيكية، هذا أدى إلى أثر بالغ على الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الأوروبية وساعد على نمو معدل السكان بشكلٍ غير مسّبوق، وكانت المنسّوجات هي الصناعة المهيمنة خلال الفترة الأولى من الثورة الصناعية من حيث رأس المال والعمالة والإنتاج.
( 3 ) أندريه ريمون – الحرفيون والتجار في القاهرة في القرن الثامن عشر (الجزء الأول)، الفصل الأول العملات.
( 4 ) خلال فترات التاريخ ظهرت بعض الملكيات الخاصة على بعض المساحات؛ إلا أنها لم تُشكل ثقلاً مؤثرًا على نظام الملكية العام؛ وبقيت الدولة ممثلة في الحاكم هي المُسّيطر على الجانب الأعظم من الأراضي.
( 5 ) لم تكن هناك قاعدة ثابتة لترقية الفرسان أو الأمراء من المماليك؛ وبالتالي زيادة إقطاعاتيهم، ففي بداية دولة المماليك كانت الإقطاعيات وراثة، كما كانت تنعم الدولة على أبناء الأمراء بالمنح المالية والعينية وإذا ما أصبحوا شبانًا أقوياء مدربين على الفروسية والحرب خلع السلطان عليهم لقب فرسان الحلقة، وفي فترة الحكم العثماني كان هناك صراع بين الإرستقراطية القوقازية الشراكسة وولاة السلطان للاستيلاء على إقطاعيات كانت تحت إمرة المماليك أو كانت تحت إشراف السلطان أو الوالي، ويذكر المؤرخون أن كثير من الإقطاعيات كانت تُهب مقابل المال ويكون الواهب هنا إما الإقطاعي السابق أو السلطان نفسه، كذلك كثيرًا ما باع فرسان الحلقة الإقطاعيات التي خصصت لهم إلى بعض المواطنين من كبار التجار أو رجال الدين وأحيانًا كان بعضها تباع للمماليك الخصوصيين اللذين ظلوا في خدمة سيدهم ولم يصبحوا فرسان، وكانت الإقطاعيات تُجرد من آمرها في حالة مرضه أو إصابته بعاهة مثل العمى أو أمراض الشيخوخة أو الشلل.
( 6 ) الضيعة هي الأرض ذات الغلة أو الأرض المُغلة، وفى مصر كانت تطلق على مساحات من الأرض إلى تضم من ثلاثة إلى خمسة قرى زراعية.
( 7 ) بعض زعماء القبائل والعشائر ملكوا معًا إقطاعية واحدة، وفي أحيان يملكها إثنين مناصفة، وإذا كانوا أكثر تملكوها شركة يأخذ كُل قسمته حسب قوة وسطوة العشيرة وعددها.
( 8 ) كانت نابلس عادة تقسم ما بين أميرين تركيين في عهد الأيوبيين، واستمر الحال إلى عهدي المماليك والأتراك.
( 9 ) الكيخية هو مجلس مختص بإدارة الإقطاعيات وكان مقره القاهرة.
( 10 ) ابن إياس “بدائع الزهور في وقائع الدهور”، الجزء الثاني.
( 11 ) آشيل كونستان تيودور إيميل پريس داڤن؛ عالم آثار ومصريات ومعماري ومؤرخ ومستشرق فرنسي، ولد عام 1807م وتوفي في عام 1879م، وقد أشتهر باسم “إدريس أفندي”.
( 12 ) من كتاب بريس دافن “إدريس أفندي في مصر”.
( 13 ) خلال فترة الحملة الفرنسية على مصر حاول نابليون إعادة النظر في قوانين الملكية والمواريث والضرائب، خاصة وأن عدد كبير من القرى قتل ملتزميها من المماليك في المعارك الحربية وبعضهم فر خارج البلاد، وكان هناك رأيين الأول أن الفرصة سانحة لإدخال إصلاحات عامة في ملكية الأراضي الزراعية وجعل الفلاحين هم ملاك للأرض وبهذا يضمن ولائهم، والرأي الآخر الإبقاء على النظام القديم على أساس إن الملتزمين هم الأقدر على إدارة دفة الأمور المالية في الريف، إلا إن نابليون صرف النظر عن الأمر بأكمله.
( 14 ) إبن إياس “بدائع الزهور فى وقائع الدهور”؛ الجزء الخامس.
( 15 ) المصدر السابق نفسه.
( 16 ) شهاب الدين أحمد النويري “نهاية الأرب في فنون الأدب” المجلد الثامن.
__________________________________
المصادر
- د. أمين مصطفى عفيفي عبدالله، تاريخ مصر الاقتصادي والمالي في العصر الحديث، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثالثة 1956.
- الأمير على الحسني، تاريخ سوريا الاقتصادي، مطبعة بدائع البنون دمشق الطبعة الأولى 1923.
- أنور زقلمة، المماليك في مصر، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى 1995.
- أندريه ريمون، الحرفيون والتجار في القاهرة في القرن الثامن عشر (الجزء الأول)، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2005.
- أندريه ريمون، الحرفيون والتجار في القاهرة في القرن الثامن عشر (الجزء الثاني)، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2005.
- تقي الدين أبي العباس أحمد بن علي بمن عبدالقادر العبيد المقريزي، السلوك لمعرفة الملوك (الجزء السادس)، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1997.
- دكتور جورج نسيم يوسف، تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى، مؤسسة شباب الجامعة، الطبعة الأولى 1988.
- دكتور سعيد عبدالفتاح عاشور، المجتمع المصري في عصر سلاطين المماليك، الطبعة الثانية 1992.
- ڤ. هايد، تاريخ التجارة في الشرق الأدنى في العصور الوسطى (الجزء الثالث والرابع)، ترجمة أحمد رضا محمد رضا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى 1994.
- دكتور نبيل السيد الطوخي، طوائف الحرف في مدينة القاهرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (1841 – 1890)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى 2009.
- الأب هنري عيروط اليسوعي، الفلاحون، ترجمة دكتور محمد غلاب، شركة الإعلانات الشرقية، الطبعة الثانية غير مذكور السنة.
- جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري برري الأتابكي، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، دار الكتب المصرية، الطبعة الأولى 1929.
- الناصري محمد بن أحمد بن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور، وزارة الأبحاث العلمية والتكنولوجية لألمانيا الاتحادية، طبعة 1975.
- عبدالرحمن بن حسن الجبرتي، مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس، دار الكتب المصرية، الطبعة الأولى 1998.
- عبدالرحمن بن حسن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، طبعة إلكترونية 2012.
- دكتور رؤوف عباس حامد، تطور المجتمع المصري في القرن التاسع عشر، طبعة إلكترونية غير مذكور السنة.
- دكتور رؤوف عباس حامد، الملكيات الزراعية ودورها في المجتمع المصري (1837 – 1914)، طبعة إلكترونية غير مذكور السنة.
- شهاب الدين أحمد بن عبدالوهاب النويري، نهاية الآرب في فنون الأدب (المجلد الثامن)، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2004.
- دكتور علي بركات، تطور الملكية الزراعية في مصر وأثره على الحركة السياسية (1813 – 1914)، دار الثقافة الجديدة غير مذكور السنة أو رقم الطبعة.
- دكتور محمد مدحت مصطفى، نشأة وإقرار الملكية الفردية للأراضي الزراعية في مصر، رؤية للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2013.
- د. نللي حنا، تجار القاهرة في العصر العثماني (سيرة أبو طاقية شاهبندر التجار)، ترجمة دكتور رؤوف عباس، طبعة إلكترونية.
- دكتور محمد عبدالغني الأشقر، أتابك العسكر في القاهرة عصر المماليك الجراكسة (784 – 1517)، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى 2003.
- أندريه ريمن، القاهرة تاريخ وحضارة، ترجمة لطيف فرج، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1994.
- نسمة سيف الإسلام سعد إمام – المجتمع وفقراء القاهرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (مجلة المؤرخ المصري المجلد 60 العدد 1 يناير 2022).
- بريس دافين، إدريس أفندي في مصر، سلسلة كتاب اليوم العدد 323 يوليو 1991 غير مذكور المترجم
- دكتور أحمد أحمد الحتة، تاريخ الزراعة المصرية في عهد محمد علي الكبير، دار المعارف المصرية 1950.
- إبراهيم عامر، الأرض والفلاح المسألة الزراعية في مصر، الدار المصرية للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1958.