17 نوفمبر، 2024 1:53 م
Search
Close this search box.

قراءة في (فلسفة التاريخ عند فيكو) للمؤلفة عطيات أبو السعود 1/ 3

قراءة في (فلسفة التاريخ عند فيكو) للمؤلفة عطيات أبو السعود 1/ 3

مقدمة
التاريخ هو السّجل المدوّن لحقب طويلة من تاريخ الانسانية. يهتم التاريخ هذا بالحضارات حيث تطورها ومبانيها، والحقب الطويلة التي مرّت بها، وللخوض في تلك المراحل بهدف خدمة البشرية، وكذلك للاطلاع على حياة ومسيرة تلك الشعوب والأمم، كي نستفيد من تلك المراحل التطورية، وكيف نهضت تلك الأمم من سباتها الفكري والتطوري والحضاري، بل وحتى الإنساني على اعتبار إنّ البشرية مرّت في مراحل متعددة حتى وصلت إلى ما نحن عليه من تطور، حضاري وعمراني وعلمي، فهي – أي الأمم – لا سيما القديمة منها كانت تعيش عيشة هي أشبه ببقية الحيوانات، منها إلى الإنسان الحالي.
والتاريخ، كما يرى الدكتور صلاح قنصوة، في كتابة “فلسفة العلم”، “التاريخ ليس قاصرا على احداث بل هو تاريخ الأحداث والأفكار والأشخاص في نطاق وحدة متفاعلة”.
شيء من حياة فيكو
جامبا تيستا فيكو مؤرخٌ وفيلسوفٌ إيطاليٌّ وُلد في نابولي في ٢٣ يونيو عام ١٦٦٨م في حجرةٍ متواضعةٍ فوق مكتبةٍ يملكها والده، نشأ في أسرةٍ رقيقة الحال؛ فكان والده ابنًا لفلاحٍ نزح إلى نابولي عام ١٦٥٦م، وكانت أمُّه ابنة صانع عربات كما كانت هي الزوجة الثانية لأبيه. كان جامبا تيستا هو الطفل السادس لأسرةٍ مكونةٍ من ثمانية أطفال، التحق في سنٍّ مبكرةٍ بمدرسة الآباء اليسوعيين وفيها درس اللغات القديمة، وخاصةً اللاتينية وبعض اليونانية، كما درس الآداب والبلاغة والفلسفة والمنطق واللاهوت والتشريع، وخاصَّةً التشريع الروماني، بالإضافة إلى ما حصَّله من فترات اعتكافِه في مكتبة والده.
عانى فيكو كثيرًا من الفقر والأزمات المادية، وكان أجره زهيدًا متواضعًا فظل يأمل في تحسين أحواله المادية، وتقدَّم عام ١٧١٧م لمسابقة أكاديمية للفوز بمنصب كرسي القانون المدني الذي كان شاغرًا ولكنه أخفق، ولم يكن إخفاقه في الفوز بهذا الكرسي لسببٍ يتصل بكفاءته العلمية، بل كان راجعًا لعدم معرفته بلعبة السياسة الأكاديمية التي لم يفكِّر في خوضها؛ ولهذا عكف على بحث في القانون ليتقدَّم به في المسابقة التالية.
في عام ١٧٢٥م وبعد نشر الطبعة الأولى من “العلم الجديد” كتب فيكو الجزء الثاني من سيرته الذاتية، وهي سيرةٌ طريفةٌ يروي فيها تفاصيل مشوقةً عن مراحل تطوره العقلي والجهود المضنية التي بذلها لإخراج كتابه العظيم “العلم الجديد”. غير أن هذا العمل المبدع لم يلقَ من أبناء عصره إلا التجاهل والجحود، وقد عبَّر فيكو عن ذلك في رسالةٍ له لأحد أصدقائه الرهبان شرح له فيها كيف أن كتابه لم يجد صدًى في مدينته ومسقط رأسه التي وصفها بالتبلُّد، وأن من أهدى إليهم كتابه لم يترك لديهم أثرًا ولا أدنى استحسان، وكأن الكتاب قد سقط في صحراء قاحلة. ويذكر فيكو في رسالته أن كل أعمالِه السابقة كان لها غاياتٌ محددة؛ وهي شغل أحد الكراسي بالجامعة، ولكن هذه الأخيرة اعتبرَته غير كفءٍ مما جعله يعكف على عمله الجديد وهو الكتاب الوحيد الذي تمنَّى أن يبقى بعد موته. وقد أثبت التاريخ صدق حدسه، وعبَّر في رسالته أيضًا عمَّا لقيَه في حياته من سوء الحظ وطعنات الحقد وفساد الحياة الثقافية في عصره، ولكنه بعد أن أتمَّ كتابه شعر أن العناية الإلهية كانت رحيمةً به، وأنها قد توَّجت آلامه بتاج العلم الجديد مما جعله ينسى كل ما صادفه من عذابٍ وبؤسٍ وفقرٍ وشقاء، فكتب يقول: “أمدَّني هذا الكتاب بروح بطولية حتى إنني لم أخشَ المنافسين بل لم أعُد أخشى الموت نفسه”.
توفر فيكو في آخر سنوات عمره على كتابة إضافات لسيرته الذاتية وأيضًا إضافات وتعديلات لكتابه الأساسي “العلم الجديد” وانتهى منها عام ١٧٤٣م وأرسلها للمطبعة فكانت الطبعة الثالثة عام ١٧٤٤م، ولكنه تُوفِّي في يناير ١٧٤٤م قبل أن يشهد الطبعة الثالثة لعلمه الجديد الذي كان الهدف الأوحد لحياة مؤلِّفه فلم تكن السيرة الذاتية مجرد تتبُّع الخطوات التي أدَّتْ به للوصول إلى العلم الجديد وإنما كانت أيضًا، كما لاحظ كروتشه، تطبيقًا للعلم الجديد على حياة مؤلِّفه.
ولقد لاحقه سوء الحظ الذي لازمه في حياته حتى بعد وفاته؛ فقد كانت تقاليد الجامعة الملكية تقضي بأن يصطحب الأساتذة رفات زميلهم الراحل لمثواه الأخير، وعندما حانت ساعة الجنازة حضر زملاؤه الأساتذة وزملاؤه في الأكاديمية وتم نقل الرفات إلى فناء الدار ووُضعت عليه علامة الجامعة الملكية، ولكن ما لبث أن دبَّ الخلاف بين زملاء الجامعة وزملاء الأكاديمية؛ إذ رفض أعضاء الأكاديمية أن يحمل أساتذة الجامعة الجثمان وانتهى الخلاف بانسحاب أعضاء الأكاديمية تاركين الجثمان، ولم يستطع أساتذة الجامعة الملكية أن يقوموا بالطقوس الجنائزية بمفردهم فأُعيد الجثمان إلى مكانه، وحزن ابنه جينارو حزنًا شديدًا فقام في اليوم التالي بالاتفاق مع الكاتدرائية على نقل الجثمان إلى مثواه الأخير وتحمل النفقات الزائدة، ودُفن فيكو في ركنٍ منزوٍ من الكنيسة وظلَّت رفاته مجهولة وغير معروفة حتى عام ١٦٨٩م حين قام ابنه بعمل نقشٍ على قبر والده وسجَّل في هذا النقش اسم جامبا تيستا فيكو أستاذ البلاغة الملكي والمؤرِّخ الملكي، كم كان رقيقًا في حياته عظيمًا في كتاباته، توفي في ٢٠ يناير عام ١٧٤٤م عن ستة وسبعين عامًا.
راجع: ص 13-14 (الدكتورة عطيات ابو السعود، فلسفة التاريخ عند جامبا تيستا فيكو، منشورات التنوير، الطبعة الثانية، سنة الطبع 2010 بيروت لبنان).
أصول ومبادئ العلم الجديد
أولاً: الأصول
بحسب المؤلفة فأن فلسفة فيكو تتركز في أهم مؤلَّفاته “العلم الجديد”، ويتناول القسم الأول منه الجانب النظري من العلم الجديد ويتضمَّن ثلاثة موضوعات رئيسية: الأصول والمبادئ ثم المنهج، وقد يخلط المرءُ بين الأصول والمبادئ لاقتراب اللفظَيْن في المعنى، ولكن الواقع أن الأصول تحوي مجموعةً من المسلَّمات أو البديهيات يلتزم بها الباحث أو يفترضها عند دراسته تاريخ تطور الشعوب بصفةٍ عامة والقديمة منها بصفةٍ خاصة؛ فهي القواعد التي يجب أن يقومَ عليها هيكل البناء التاريخي.
وترى أبو السعود أنّ فيكو حاول وَضْع أصولٍ للعلم الجديد، متشبهًا من الناحية الشكلية بطريقة إقليدس في وضع أصول علم الهندسة، وقدَّم مجموعة من المسلَّمات الفلسفية واللغوية يبلغ عددها مائة وأربع عشرة مسلَّمةً تنطوي على مجموعةٍ من المصادرات والتعريفات، وتتعدَّد موضوعاتُ هذه المسلَّمات وتتشعَّب وتتسم بالتكرار وتتداخل وتتشابك أحيانًا ويشوبها الغموضُ أحيانًا أخرى، وربما كان هذا الغموض سببًا من أسباب عدم فَهْم فيكو في عصره وإغفاله فترةً زمنيةً طويلةً بعد ذلك. وإذا كان قد تم اكتشافه في القرن التاسع عشر، فإن الاهتمام الحقيقي به لم يبدأ بصورةٍ علميةٍ جادَّةٍ إلا في القرن العشرين.
ثانيا: أوهام الشعوب والباحثين
فقد تأثر فيكو ببيكون فيما ذكره في الجزء الأول من كتابه “الأورجانون الجديد” عن أوهام الفكر، كما تعتقد ابو السعود، فاعتبر أن المؤرخين عُرضة لأوهام مماثلة حصرها في أربعة وانتقد فيها الآراء القديمة عن مبادئ التاريخ البشري، وهذه الأوهام أو الأخطاء وقعت فيها أمم كاملة كما وقع فيها العلماء والباحثون؛ إذ تصوروا البدايات الأولى للبشرية على ضوء حياتهم وثقافتهم وعصرهم المستنير، وكان من الطبيعي أن يقعَ كلاهما في الخطأ والوهم، وفي هذا المعنى قدَّم المسلَّمات التالية في خصائص العقل البشري وهي المسلَّمات التي ترتب عليها وقوع كلٍّ من الشعوب والباحثين في الخطأ: “العقل الإنساني يجعل من نفسه مقياسًا للحكم على الأشياء جميعًا كلما ضل في الجهل” (مسلَّمة ١).
“حكم العقل البشري على الأمور المجهولة والبعيدة على أساس الأمور المألوفة له والقريبة منه” (مسلَّمة ٢).
ثالثا: الفلسفة وفقه اللغة
يضع فيكو التشريع في مقابل الفلسفة. كما ترى المؤلفة، فإذا كانت الفلسفة، فيما تقول، تنظر إلى الإنسان كما ينبغي أن يكون، فإن التشريع ينظر إلى الإنسان كما هو كائنٌ في الواقع ويحول رذائله إلى فضائل. إن التشريع يصنع السعادة المدنية من الرذائل التي كان يمكن أن تدمر الجنس البشري؛ فالإنسان قادرٌ على أن يُحوِّل غرائزه وانفعالاته الطبيعية إلى فضائل اجتماعية لأنه يملك حرية الاختيار، كما يتَّضح من المسلَّمة الآتية: “ينظر التشريع للإنسان في واقعه بحيث يصبح نافعًا للمجتمع البشري، وهو يحول القسوة والبخل والجشع، وهي الرذائل الثلاث التي تدفع الجنس البشري بأسره، إلى فضائل تقوم عليها الطبقات العسكرية والتجارية والحاكمة، وبهذا يدعم قوة المجتمعات وثرواتها وحكمتها” (مسلَّمة ٧).
ويميز فيكو بين الوعي أو الضمير وبين العلم أو المعرفة؛ فالأول يطلب اليقين المؤكد ووسيلته في البحث عنه هي فقه اللغة، والثاني يطلب الحق ووسيلته الفلسفة، والعلم الجديد يجمع بين الفلسفة وفقه اللغة ويطلب تضامن علماء اللغة والفلاسفة لتحقيقه. ومفهوم علم اللغة لا يقتصر على مفهوم علماء اللغة والنحو وإنما يتسع للمؤرخين والنقاد الذين عكفوا على دراسة لغات الناس وأعمالهم سواءٌ في ملاحظة عاداتهم وشرائعهم التي يتبعونها في بلادهم، أو في حروبهم وسلامهم وأحلافهم وتجارتهم وأسفارهم إلى الخارج.
رابعا: القانون الطبيعي للشعوب
يؤكد فيكو نشأة الحس المشترك للجنس البشري كمعيار علمته العناية الإلهية للشعوب ليحدد اليقين في قانونها الطبيعي، وتصل الشعوب لهذا اليقين بالتعرُّف على وجوه الاتفاق الأساسية التي تتضمَّن فيما بينها احترام هذا القانون، ويحسم فيكو الجدل القديم بين أصحاب القانون الطبيعي والقائلين بأن القانون اجتماعيٌّ؛ فالقانون الطبيعي للشعوب نشأ عن العرف أو العادة ولم يُفرض بالقانون، ومحافظة الشعوب على عاداتها أعطى هذه العادات شكل القوانين؛ لأنه ليس هناك شيءٌ أحب إلى البشر من الاعتزاز بعاداتهم. وفي هذا الشأن يستشهد فيكو بعبارة “لديو كاسيوس” تقول: “إن العادة تشبه الملك، والقانون يشبه الطاغية” (مسلَّمة ١٠٤)؛ فالشعوب بطبيعتها ترفض القانون الذي يفرضه الطاغية أو أية قوة خارجية، ولكنها بطبيعة الحال تحتفظ بالقانون الذي فرضَتْه على نفسها؛ لذا كان القانون الطبيعي للشعوب هو قانون فرضَتْه الشعوب على نفسها من خلال عاداتها وتقاليدها وأعرافها.
وتوضح بأن فيكو يستبعد كل الأفكار القديمة المتعلقة بالقانون الطبيعي، والتي جعلت أصحابها يعتقدون أنه انطلق من إحدى الأمم الأولى ثم انتقل إلى الأمم الأخرى، هذا الخطأ وقع فيه المصريون القدماء والإغريق في ادِّعائهم أنهم نشروا الحضارة في العالم، وكان نتيجة هذا الخطأ أن أطلق الخيال عنانه بالقول إن قانون الألواح الاثني عشر انتقل إلى روما من اليونان، ولو كان الأمر كذلك لَكان هذا القانون مدنيًّا ووصل للشعوب الأخرى عن طريق الاتفاقيات البشرية.
خامسا: أصل الجنس البشري
بحسب الكاتبة أنّ فيكو في “العلم الجديد” يقدِّم مجموعةً من المسلَّمات التي تتناول أصل الجنس البشري والتي اعتمد فيها اعتمادًا كبيرًا على التاريخ المقدس؛ ولذلك نجده يفرِّق بين دين العبرانيين الذي أسَّسه الله ودين الوثنيين القائم على الكهانة، كما نراه يقيم الدليل على أن أصل الجنس البشري ينقسم إلى قسمين؛ أولهما: قسم قائم على الكائنات الخرافية وهي الأمم الأممية؛ وثانيهما: قسم قائم على منزلةٍ إنسانيةٍ أرفع قدرًا يمثِّلها العبرانيون. وهذه التفرقة تأتي في رأيه نتيجة التعليم البوهيمي للجانب الأول والتعليم الإنساني للجانب الثاني؛ لذلك رفض التفسير الخرافي الذي قدَّمه الفلاسفة للعمالقة ذوي الأجسام الضخمة وأخذ بتفسير تاسيتوس وقيصر للعمالقة الجرمان بأنها ترجع للتربية البربرية لأولادهم، وهذه مسلَّمات فيكو عن أقدم أنواع التاريخ.
سادسا: قانون المراحل الثلاث لتطوُّر الأمم
تؤكد المؤلمة أنّ فيكو أخذ فكرة قانون تطور الأمم من المصريين القدماء في تصورهم لتطوُّر التاريخ عبر مراحل ثلاث: المرحلة الإلهية، المرحلة البطولية، المرحلة البشرية. وتصاحب كل مرحلةٍ لغة خاصة بها؛ فاللغة الهيروغليفية أو السرية المقدسة، كما عند المصريين القدماء، هي لغة المرحلة الإلهية، واللغة الرمزية، كما في أشعار هوميروس، هي لغة المرحلة البطولية، واللغة الشعبية، كما في لغة الرسائل، هي لغة المرحلة البشرية، وبعد دراسة فيكو لحضارات الشعوب القديمة أكَّد أن قانون المراحل الثلاث يمكن اعتباره مسلَّمة من مسلَّمات العقل البشري، فهو حقيقة تاريخية أكدها استقراؤه للتاريخ.
وتوضح المؤلفة في كتابها هذا القيّم يتتبع فيكو نشأة المرحلة الدينية عند البشر الأولين، إذ بيّن فيكو أن الخوف هو المسئول الأول عن إيجاد الآلهة على الأرض، ويربط هذه النشأة بضعف القدرة على التفكير في طفولة البشرية؛ فالدين، وهو أول مبادئ العلم الجديد، يُلقي الضوء على نشأة التاريخ البشري والتنظيمات الاجتماعية. فعندما تتوحَّش الشعوب ولا تقوم لقوانينها قائمة تلجأ إلى قوةٍ أعلى منها وليس هناك ما هو أسمى من الله؛ ومعنى هذا أنه كلما توحش البشر نتيجةً للحروب المشتعلة بينهم بحيث لا تقوم لقوانينهم قائمة فإن الوسيلة الوحيدة لترويضهم هي الدين، والعناية الإلهية هي التي هدَتْ هؤلاء المتوحشين إلى إنسانيتهم وتكوين دولهم، وذلك بأن أيقظت فيهم تصورًا غامضًا للألوهية، وقد كان جهل هؤلاء المتوحشين هو المسئول عن نسبة الألوهية لكائنات أخرى، والجهل خاصية مشتركة بين الشعوب الأولى، فأسقط الإنسان الأول طبيعته الخاصة على طبيعة الأشياء التي يجهلها، ونشأت الميتافيزيقا الشعبية من جهل الإنسان الأول بالطبيعة، ونتج الجهل من ضعف القدرة على التفكير فأطلق الخيال عنانه ونشأ الشعر الديني الذي أضفى العاطفة على الأشياء الجامدة، ومن الجهل تنشأ الدهشة وحب الاستطلاع وهما أصل المعرفة.
نظرية المعرفة التاريخية
أولاً: مبدأ المعرفة
تؤكد الكاتبة إنّه مع مجيء القرن الثامن عشر جاءت دلالة محاولة فيكو في علمه الجديد عن الطبيعة المشتركة للأمم؛ فهو في جوهره محاولة لوضع مذهب تاريخي شامخ، لا هو مجرد تصنيف تأريخي، ولا هو مجرد إدراج للمعرفة التاريخية تحت التاريخ الديني المقدس، وإنما يريد أن يقدم صورة تاريخ مثالي خالد تسير طبقًا له تواريخ كل الأمم في الزمان، ومهمة هذا المسار أن يعرف الشعوب في أصولها وتقدمها وازدهارها وسقوطها، وأن يتتبع المسار التاريخي من البربرية إلى الحضارة، والمهم أنه ينظر إلى التاريخ على أنه هو تاريخ الإنسان وتاريخ عقلنا البشري، وبهذا يعرف الضرورة التاريخية التي بمقتضاها كان من المحتم أن يحدث شيء في الماضي ومن المحتم أن يحدث شيء في الحاضر والمستقبل، وقبل أن نتحدث عن طبيعة المعرفة التاريخية عند فيكو نود أن نقف أولًا عند تصوره للمعرفة بوجه عام.
وتضيف أن فيكو وضع مبدأ جديدًا للمعرفة لمعارضة النزعة العقلية الديكارتية وأتباعها الذين نظروا إلى التاريخ كمجموعة من الحقائق المضطربة وسلسلة من الحكايات السخيفة، وهاجم الأسس الثلاثة التي استند إليها ديكارت؛ فقد عارض الكوجيتو – تعني الكاتبة، أنا أفكر إذن أنا موجود – الشهير كمبدأ لليقين، ورأى أن الفعل الإنساني لا الوعي الذاتي هو مبدأ اليقين في علم التاريخ، ونقد أدلة وجود الله التي تستند إلى معرفةٍ أوليةٍ سابقةٍ على التجربة وعدَّ هذا تطاولًا على الذات الإلهية، كما عارض اليقين الرياضي كمعيارٍ للوضوح والبداهة وبالتالي كمعيارٍ للحقيقة.
وخلاصة نظرية المعرفة عند فيكو، بحسب أبو السعود، أن العقل يعرف نفسه من خلال دراسة الأشكال التي يظهر فيها، فيظهر مثلًا في التنظيمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفن والقانون واللغة … إلخ، أي يتجلَّى في كل مظاهر الحضارة، وبهذا يُعد فيكو أول من قدَّم نظرية تاريخية عن حقيقة التغير من خلال تفسيره للتاريخ باعتباره عملية عقلية منظمة خلَّاقة، فمن خلال التاريخ الذي يتألَّف من أحداث ووقائع ومؤسسات اجتماعية تعبِّر عن أحوال العقل يصبح هذا العقل نفسه موضوعًا للمعرفة، وهنا تكمن المشكلة الرئيسية في الدراسات التاريخية؛ إذ كيف تكون الذات العارفة هي نفسها موضوعًا للمعرفة؟ أو بمعنًى آخر كيف يمكن لصانع العلم أن يكون هو نفسه موضوعًا للعلم؟ للإجابة على هذا لا بد أن نطرق مشكلةً أخرى شغلَت المفكرين والفلاسفة وتبلورَتْ في السؤال الآتي: هل التاريخ علم؟.
ثانيا: هل التاريخ علم؟
هل التاريخ علم؟. تقول الكاتبة: سؤال أثار الكثير من الجدل واختلفت حوله آراء الفلاسفة على مر العصور بين مؤيِّدٍ ومعارض، والبعض يرى أنه ليس بعلمٍ بل هو دربٌ من دروب الفن. فهناك علاقة جَدلية بين الفن والتاريخ باعتبار الأول مصدرًا هامًّا من مصادر المعرفة التاريخية، ويُساعد المؤرِّخَ على كشف الحالة الوجدانية للعصور التاريخية المختلفة، فمِمَّا لا شك فيه أن الأشكال التعبيرية المتنوعة للإبداع الفني تُعين المؤرخ على إعادة تصوير الماضي وبَعْث روحه من جديد، خاصة بعد أن اتسع مفهوم التاريخ فلم يعد مقصورًا على سِيَر الأبطال والمعارك الحربية، بل يشمل الجوانب الحضارية المختلفة والمتعددة للإنجازات البشرية؛ وبالتالي تعدَّدَت مصادر المعرفة التاريخية فلجأ المؤرخ إلى أشكال الإبداع الفني المتنوعة ليجد مادة تاريخية خصبة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن الإنسان هو الموضوع المشترك بين الفن والتاريخ باعتباره مبدعًا للفن وأيضًا صانعًا لأحداث التاريخ، مما جعل رجال الأدب يذهبون إلى أن التاريخ سواء أكان علمًا أو غير علم فهو بلا ريب فنٌّ من الفنون، وأن العلم بالغًا ما بلغ لا يُعطينا من التاريخ سوى العظام اليابسة، وأنه لا مندوحة من خيال الشاعر إذا أُريد نشر تلك العظام وبعث الحياة فيها.
وتواصل الكاتبة الايضاح بقولها: وعلى العكس من هذا الرأي يرى بيري أن التاريخ قد عانى من كونه جزءًا من الأدب بينما التاريخ علم لا أكثر ولا أقل، وأن وقائعه يمكن أن تدرس موضوعيًّا كوقائع الجيولوجيا والفلك، أي أن تدرس على أنها أشياء خارج الذات؛ إذ لا يتسنَّى قيام علمٍ على أساس ذاتي، والوقائع التاريخية يمكن أن تُجمع وتُصنَّف وتُفسَّر كما هو الحال في أي علم.
مضيفة والسؤال الآن: إذا كان التاريخ علمًا فمن أي أنواع العلوم يعتبر التاريخ؟ إنه ليس كالفلك علم معاينة مباشرة، ولا الكيمياء علم تجربة واختبار، ولكنه علم نقد وتحقيق وأقرب العلوم الطبيعية شبهًا به الجيولوجيا؛ فكما أن الجيولوجي يدرس الأرض كما هي الآن ليعرف كيف صارت إلى حالتها الحاضرة، فكذلك المؤرِّخ يدرس الآثار المتخلفة عن الماضي ليفسِّر بواسطتها وبقدر إمكانه ظاهرة الحاضر. وكما أن الجيولوجي يجد مادته الأساسية في نفايات الطبيعة ليُثبت التطوُّرات الجيولوجية، فكذلك المؤرِّخ يعتمد في معرفة الوقائع الماضية على آثار ماديةٍ أو سجلاتٍ أو تقاليد سلمت مصادفة أو اتفاقًا من عوادي الزمن. هذه الآثار والسجلات والتقاليد هي الحقائق المحسوسة الحاضرة التي ينصبُّ عليها عمل المؤرخ، وهي مادة علمه وليست قيِّمةً وهامَّةً لذاتها ولكن لمجرد دلالتها على الوقائع الماضية.
وتختتم الكاتبة في النهاية بقولها: و في النهاية يعرف القوانين الضرورية التي كان لا بد أن يمر بها تطور الطبيعة البشرية، أي أنه في النهاية يعرف ما سمَّاه فيكو بالتاريخ المثالي الأبدي الذي يعبر عن مبادئ تطور الأمم في نشأتها وتطورها ونضجها ثم تدهورها وسقوطها. وتوضّح: وهذا التاريخ هو بمثابة نسق نظري أو نظرية للمعرفة التاريخية، ولكن ما ماهية هذه النظرية؟ هل هي نظرية استقرائية على طريقة بيكون؟ أم هي نظرية استنباطية على طريقة ديكارت؟ وما هو مضمون هذه النظرية من الناحية الاجتماعية والتاريخية؟ هذا هو الذي سنعرض له الآن.
ثالثا: التاريخ المثالي الأبدي
تعتقد المؤلفة بأن التاريخ المثالي الأبدي أثار العديد من المشكلات وفُسر تفسيرات مختلفة. فما المقصود به على وجه التحديد؟ هل يقصد به الطابع النظري للتاريخ والأساس الفلسفي الذي يرتكز عليه؟ وهل يعني هذا أنه استنبطه من الواقع التاريخي بجوانبه المختلفة؟ أم أنه قد بدأ ببناء هذا التاريخ المثالي بناءً نظريًّا أو قبليًّا.
وترى إنه لابد أن تبدأ مناقشتها لهذه المسائل فتبين أن فيكو أكد الطابع النظري لعلمه الجديد، وأنه أراد أن يجعل التاريخ المثالي الأبدي جزءًا لا يتجزأ من هذا العلم. ويتضح الجانب النظري في “العلم الجديد” عندما نلقي نظرةً على مسلَّماته وخاصة مسلَّمة رقم ٢٢ التي قسمت فيها المسلَّمات العامة إلى مجموعتَيْن؛ فالمجموعة الأولى من ٥ إلى ١٥ تتناول النظريات الفلسفية. وأنه راجعنا هذه المسلَّمات لوجدنا أنها تنظر لعالم الأمم نظرةً فكريةً مثالية تعتمد على مفهوم العلم كما أخذه فيكو عن أرسطو، وهو أنه علمٌ يتعلق بما هو كلي وأبدي؛ والمجموعة الثانية تضم المسلَّمات من ١٦ إلى ٢٢ وهي مسلَّمات تمدنا بأسس الحق واليقين على حد تعبير فيكو، وتساعدنا على أن نرى هذا العالم في الواقع بعد أن درسناه بالفكر. وفي هذا محاولة لتطبيق المنهج الاستقرائي الذي استخدمه بيكون ونقله من الظواهر الطبيعية إلى التنظيمات البشرية.
تقول وهذا ما يقوله فيكو نفسه عند مناقشته للعلاقة بين قضايا الفلسفة وقضايا فقه اللغة؛ فالقضايا الأخيرة تُساعدنا على أن نرى في الواقع المنظمات التي تأملناها من قبل تأملًا فكريًّا وفقًا لمنهج بيكون في التفلسف وهو الذي يعبر عنه في هذه العبارة “فكِّر وانظر”. وإشارة فيكو إلى هذه العبارة تدل على أنه يؤكد الجانب النظري من منهج بيكون الاستقرائي، بجانب أنها لا تُنكر الطابع النظري الاستنباطي للتاريخ المثالي الأبدي.
وتواصل إنّ نظرية التاريخ المثالي على تنطوي التأكيد بأن الإنسان محدد من الناحيتين؛ الاجتماعية والتاريخية، فلا بد أن يكون هذا التاريخ الأبدي ذا بعدَيْن؛ البعد التجريبي الذي يتضمن نظام العلاقات الاجتماعية التي يشترط وجودها في أي عصر تاريخي؛ والبعد النظري الذي يتضمن نظرية القوانين التاريخية التي يقوم عليها تطور ذلك المضمون التجريبي.
رابعا: فيكو وفكرة التقدم
يظهر الاعتزاز بالتقدم والتطوُّر، ويصبح الشك الذي مارسه ديكارت من قبل كتمرين على العودة لليقين والإيمان مرانًا مستمرًّا وعملًا دائبًا يفضح كل ما هو عرضة للشك. وتتعدَّد طرق البحث الدائب، فبجانب الشكاك والنقاد نجد المؤمنين بالعلم وبالتقدم إيمانًا ربما بلغ حد الجنون، فقد بدأت فكرة التقدم في الازدهار من نهاية القرن السابع عشر عندما أعلن فونتنل (١٦٥٧–١٧٥٧م) أنه لا نهاية للتطوُّر البشري.
وكان الإيمان بالنزعة العقلية، كما توضح الكاتبة، من أهم ما يميز عصر التنوير، ولعل تمجيد العقل لم يبلغ عند أيِّ مفكرٍ من مفكِّري هذا العصر مثل ما بلغه عند الفيلسوف الألماني كرستيان فولف (١٦٧٩–١٧٥٤م) الذي يرى أن الإنسان لم يتلقَّ من الله شيئًا أروع من العقل، ويستحق الإنسان أن يُسمى إنسانًا بقدر ما تزداد قدرته على استخدام قواه العقلية. ويتفوَّق “عقل العصر” ونقصد به فولتير على معاصره الألماني في تمجيد العقل وتحرير الوعي، ويتغنَّى في كتبه بتقدُّم العلم والفن.
وعلى الرغم من إيمان فولتير بالتقدم اللامحدود لمستقبل البشرية، إلا أننا نجد عنده أيضًا ما يشير إلى انحراف مسار التقدم عندما اعتقد أن المصادفة تتحكَّم في الأحداث حين لا تكون خاضعة بوعي للعقل الإنساني، وعنصر المصادفة واضح في التشريع “إن كل القوانين تقريبًا قد وُضعت لمواجهة حاجات عابرة، كالأدوية التي تستعمل عشوائيًّا فتشفي أحد المرضى وتقتل آخرين”. وتبعًا لهذه النظرية، كان من المستطاع انحراف تقدم الإنسانية في أي لحظة واتباعها طريقًا مختلفًا، ولكن بغض النظر عن أي طريقٍ ستتبعه فإن طبيعة العقل الإنساني كفيلةٌ بأن تحقق تقدمًا في الحضارة.
راجع: (الدكتورة عطيات ابو السعود، فلسفة التاريخ عند جامبا تيستا فيكو، منشورات التنوير، الطبعة الثانية، سنة الطبع 2010 بيروت لبنان).

أحدث المقالات