خاص: إعداد- سماح عادل
“محمد عناني” مترجم وروائي وكاتب مسرحي وناقد وباحث مصري. حمل لقب “عميد المترجمين “.
حياته..
من مواليد مدينة رشيد بمحافظة البحيرة، حصل على درجة البكالوريوس في اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة القاهرة عام 1959 ودرجة الماجستير من جامعة ردنج عام 1975. وقد أصدر أكثر من 130 كتاباً باللغتين العربية والإنجليزية بين أعمال هامة وإبداعية. قدم له المسرح المصري سبع مسرحيات وله ثلاثة دواوين شعرية وقصتان شعريتان وهو ناقد ومترجم راسخ القدم.
كرّس معرفته العميقة بالأدب الإنجليزي واللغة العربية لتحقيق أهم مبادئ الترجمة: التثاقف والمثاقفة. وهو يعتبر من المترجمين العرب القلائل الذين نشرت لهم أهمّ دور النشر مثل «لونجمان». ومن أبرز إنجازاته التصدي لترجمة نماذج مهمة من الأدب الإنجليزي، مثل ملحمة لورد بيرون «دون جوان»، وملحمة جون ميلتون «الفردوس المفقود». وقد تطلّب إنجاز الترجمة لملحمة «الفردوس المفقود» (1667) منه قرابة عشرين عاماً، إذ بلغ طول الملحمة 10565 سطراً في 12 كتاباً، وقسَّم عناني ترجمتها إلى أجزاء عدة، إلى أن أصدرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب في كتاب واحد عام 2002.
واستطاع من خلال هذه الترجمة أن يقدّم إلى المكتبة العربية إحدى أهم الملاحم الأدبية اللاهوتية التي تقف بجوار «الإلياذة» و«الأوديسة»، و«بيوولف»، و«الكوميديا الإلهية». وهو قدمها على هيئة نص في شكل الشعر الحرّ، وأحياناً الشعر المنثور. وفي مواضع كثيرة حاول أن يترجم بعض الأبيات على شكل شعر موزون ومُقفى، بخاصة في الأماكن التي تحتاج إلى شاعرية، مثل الحوار بين آدم وحواء قبيل السقوط في شَرك المعصية بالأكل من الشجرة المحرمة، وورد ذلك في الكتاب التاسع الذي يعتبر من الكتب المركزية لهذه الملحمة، إذ يصف معاناة إبليس في الجحيم وحسده لآدم.
أما مقدمة الترجمة فهي عبارة عن دراسة أكاديمية يشرح فيها عناني أهمية “جون ميلتون” ومكانته، وخصوصاً في موقفه الفلسفي من موضوع الخطيئة وخلق الإنسان والرحمة والمغفرة وعداء إبليس للإنسان، وأيضاً الخلفية السياسية والدينية لميلتون في ذلك الوقت، إضافة الى عرض أسباب ترجمة هذه الملحمة.
جيل الرواد..
ويعتبر “محمد عناني” الفائز بجائزة رفاعة الطهطاوي من المركز القومي المصري للترجمة عن ترجمته مسرحية شكسبير «دقة بدقة»، من جيل الرواد في الترجمة الحديثة. وهو سبق أن نقل إلى العربية الكثير من الدراسات الأكاديمية الخاصة بعلم الترجمة ونظرياتها. وبعدما كانت الترجمة مقتصرة على بُعدها الوظيفي أي الترجمة التقابلية وإيجاد المعنى المساوي من اللغة الأم الى اللغة الهدف، أكد عناني على الجانب الثقافي للترجمة ومحاولة فهم ثقافة النص المراد الترجمة منه وإليه. ويعتبر كتابه «فن الترجمة»، الذي نشرته دار «لونغمان» وأصبح مرجعاً مهماً لطلبة اللغات والمترجمين، من الكتب الأساسية في فهم علم الترجمة وإتقان فنونها، وهو خلاصة النظريات اللغوية وعلم اللغة التطبيقي في دراسة أساسيات الترجمة. ولا يعني علم الترجمة بالنسبة إلى عناني الترجمة الحرفية للنص، إنما هو محاولة إبداع نص جديد مع الحفاظ على جماليات وثقافة النص المترجم منه.
لم يقتصر دور محمد عناني على ترجمة النصوص الشعرية والملاحم، ولكنه ساهم بقوة في ترجمة المسرح الشعري الإنكليزي والمسرح المعاصر، فترجم مسرحيات وليم شكسبير، بخاصة ذات البعد المأسوي، مثل «الملك لير»، و«هاملت»، وأضاف أبعاداً جمالية مختلفة على هذه النصوص، وهو ما يميز عمله مقارنة بما أنجزه مصطفى بدوي وجبرا إبراهيم جبرا مع أعمال شكسبير.
تكمن مساهمات عناني في معرفته الشاملة والعميقة باللغة الإنجليزية، فهو أستاذ في الأدب الإنجليزي وتتلمذ على أساتذة كبار مثل “رشاد رشدي وفخري قسطنطين”، إضافة إلى الأساتذة الإنجليز الذين كانوا يعملون في جامعة القاهرة في أوائل ستينات القرن العشرين. وقد ترجم أيضاً مسرحيات “هارولد بنتر”، لكنّ ترجمته ملحمة “الفردوس المفقود” تبقى بمثابة عمل عمره الذي أفنى فيه شبابه، وحقق من خلاله مكانة عالمية في مجال ترجمة الأدب الرفيع، وهو ما لم يتيسر سوى لقليل من المترجمين من أمثال سامي الدروبي، مترجم الأدب الروسي إلى العربية. ولم يتوان عناني عن أداء مهامه كمترجم، فكان واحداً من المؤسسين لدراسات الترجمة بعدما كانت طفيلية على علم اللغة والأدب في جامعة القاهرة، فأنشأ قسم أو «دبلومة» للترجمة تدرِّب وتدرّس علوم الترجمة للباحثين والمترجمين الذين يريدون التخصص الدقيق في هذا المجال.
فن الترجمة..
إن فن الترجمة الذي أسسه “محمد عناني” كان يقوم على أن الترجمة مشروع حضاري وثقافي، وأنها أساس نهضة الأمم التي تقوم على تبادل الخبرات والعلوم والمعارف، وأيضاً التبادل الثقافي وحفر قناة إنسانية يتعارف الناس من خلالها على ثقافاتهم المختلفة وعلى إنسانيتهم.
الترجمة بالنسبة إلى عناني ليست رفاهية تسكن في معرفة لغة أجنبية للتعامل اليومي، ولكنها امتزاج حضارتين في بوتقة واحدة بغرض درء «الصدام الحضاري» بحسب تعبير هنتنغتون. وفى هذا السياق ترجم عناني كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد، مؤكداً قيمة الشرق كمنتج فكري استفاد منه الغرب الذي وضعه في صورة نمطية ومارس معه الاستغلال والاستعباد وفرض عليه الجهل ومن ثم نهب ثروته. ترجمة عناني قادرة على تصحيح المفاهيم ومعرفة ما يفكر فيه «الأعداء»، فلعلهم يكونون يوماً شركاء في صنع غد أفضل للإنسان.
يقول “محمد عناني”: “إن الترجمة تُعد فن تطبيقي، فالمترجم يستخدم هنا كلمة فن بالمعنى العام، أي الحرفة التي لا تتأتى إلا بالدربة والمران والممارسة، استنادا إلى موهبة، وربما كانت لها جوانب جمالية وإبداعية، ومعنى ذلك أنه لا يمكن لأستاذ في اللغة أو في الأدب، مهما كان حظه من العلم بالإنجليزية أو العربية، حتى وإن كان ملما بنظريات اللغة، أن يُخرج لنا نصا مقبولا مترجما عن إحدى اللغتين، دون ممارسة طويلة للترجمة، فلا توجد طرق مختصرة للإجادة في الترجمة، فلا كتب المتخصصين ولا الكتب العامة، تستطيع أن تفعل ذلك.”
أصدر عناني ما يقرب من 130 كتاباً باللغتين العربية والإنجليزية، تتنوّع بين الترجمات الهامة والأعمال الإبداعية، منها كتاب “فن الترجمة”، “دراسات في المسرح والشعر”، “مرشد المترجم ”، الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق”، “من قضايا الأدب الحديث” وغيرها .
نال العديد من الجوائز منها، “جائزة الدولة التشجيعية” 1983،”وسام العلوم والفنون” 1983، “جائزة التفوق في الآداب” عام 1999″،”جائزة الدولة التقديرية”2002، “جائزة الملك عبد الله الدولية في الترجمة” 2011 و”جائزة رفاعة الطهطاوي” 2014.
عن ترجمة الأسلوب..
في حوار معه أجراه “محمود القيعي” يقول “د. محمد عناني” عن كتابه الأخير “عن ترجمة الأسلوب”: ” هو اتجاه دارسي علم اللغة منذ الثورة والتمرد على النحو التقليدي، يقوم على فكرة أن جميع اللغات تفترق في بناء فكري واحد، وأدى هذا الى اعتبار أي كلام “مكتوب” أو “منطوق” نصا، وقد أعجب النقاد العرب أيما إعجاب للأسف بفكرة النص .
لأن هذا أدى إلى مساواة النص الأدبي بالنص العلمي وبالنص التعبيري وبالنص الإنشائي، هم لا يهتمون باللغة إلا من حيث إنها لغة فقط، وهذا أدى بالمترجمين الى اتباع أسلوب واحد في ترجمتهم لجميع النصوص .أحيانا بعضهم انتبه الى إدراك الفرق بين الشعر والنثر، لكن كل هذه المحاولات كانت مستبعدة من جانب علماء اللغة المحدثين .علماء اللغة المحدثون أرادوا أن يطبقوا القواعد على أي نص دون مراعاة خصائص كل نوع .
جاء أستاذان ألمانيان في القرن العشرين في أواخر الثمانينيات وتحديدا 1987، وأكدا أن علم اللغة لا يكفي وأن الأساليب أنواع، منها النص الإخباري والنص التعبيري والنص الإنشائي، ونص إقامة العلاقة “كلام لا يُقصد منه إنشاء فكرة بل محاولة إقامة جسور مع السامع حتى لا يفقده . ”
تطور هذا المبدأ في نهاية القرن العشرين وخرج منه ما يعرف بالترجمة الوظيفية، وتم طرح السؤال: ما الغرض من الترجمة؟ وهل الغرض منها هو إيصال المعنى فقط؟ وهي بذلك ترجمة توصيلية ولا أهمية فيها للأسلوب، أما إن كانت ترجمة كاملة دلالية، فلابد من إظهار خصائص الاسلوب الأصلي للترجمة .وهذا ما كان واقعا بالفعل في اللغات الأوروبية، لم يحاول أحد في أوروبا ترجمة الشعر نثرا، حتى قبل تكوين النظرية الحديثة في القرن الحادي والعشرين، حافظوا على نوع الأسلوب المستخدم الآن يندر أن تجد من يترجم الشعر نظما، وأنا عندما أرى الدواوين التي تصدرها الهيئة العامة للكتاب وهي الهيئة الرسمية للدولة ، أجد أنه من بين 18 إصدارا، لا يوجد إلا ديوانان بالفصحى المعاصرة ، والباقي إما بالعامية أو بالنثر!”.
وعن ما الجديد الذي قدمه في كتاب “ترجمة الأساليب” وهل هو باب جديد فتحه يقول: “نعم، هو باب جديد فتحته في دراسات الترجمة غير مسبوق، وإن كان بعض الدارسين في الغرب يتناولونه ولكن لا يولونه ما يستحقه من أهمية، لأن لغاتهم متشابهة. البناء الفكري للغة في أوروبا يكاد يكون واحدا، أما البناء الفكري للعربية، فمختلف تماما بسبب اختلاف ثقافتنا وتنوعها. لهذا السبب أعتبر هذا الكتاب الذي يتناول المضاهاة بين الأساليب العربية والإنجليزية جديد في بابه ولم يسبقه – حسب علمي- أحد”.
مكانة اللغة العربية..
في حوار آخر معه أجرته “اعتماد عبده” يقول “د. محمد عناني” عن مكانة اللغة العربية والترجمة: ” عندما يبدأ المرء حب الشعر، يشعر بأن حياته كلها أصبحت قصيدة تتشكل مع الأيام، والشعراء العظماء مهما اجتهدوا في إخفاء طباعهم الشخصية في شعرهم، يفصحون عن جوانب منها تتطلب الدرس والتحليل، وقل هذا نفسه عن المترجم الصادق، أي المترجم الذى يهب حياته للترجمة بنوعيها: الترجمة العامة، وعادة ما يقصد بها لغة الإعلام، أي لغة الصحف ووسائل الإعلام، وهى لغة غير متخصصة في فرع معين من العلوم الطبيعية أو من العلوم الإنسانية، ولكنها تتضمن شتى المصطلحات الشائعة، ويسيرة الفهم في السياسة والاقتصاد والطب والفنون، ومن يعمل في هذا المجال يهتم بمعرفة ما يسمى أكثر الألفاظ تواترًا في اللغة، وهى تتضمن ما يسمى الألفاظ الأساسية أي التي لا غنى عنها للإنسان العادي ويكتسبها منذ الطفولة من اللغة الأم، إلى جانب ما يسمى بألفاظ الحرفة أو المهنة (jargon) أي العمل الذى يمارسه بصورة منتظمة في سنوات نضجه.
والمترجم الذي يمارس الترجمة العامة قد يتخصص في فرع من فروع ألفاظ الحرفة أو المهنة، وقد يقتصر عليه، فقد نجد مترجمًا ملحقًا بسلك قضائي، ملمًّا بشتى الفروق اللغوية معنى ومبنى ما بين لغتين أو أكثر، في الشئون القضائية، وقس على ذلك سائر الحرف والمهن.
وأما النوع الثاني فهو الترجمة المتخصصة، وهى التي قد يمارسها بعض النبهاء من مترجمي لغة الحرفة أو المهنة، لكن المصطلح ينصرف أساسًا إلى الترجمة الأدبية، وهى التي انضم إليها أخيرًا فرع عسير المأخذ يسمى الترجمة الفكرية وهى التي تتضمن ترجمة العلوم الإنسانية البازغة، والفلسفة ما لف لفها، وقد عملت في مطلع الصبا بالترجمة من النوعين، ثم انتهى بي حب الأدب إلى الترجمة الأدبية والترجمة الفكرية معًا”.
إظهار الأصل..
وعن ضرورة إظهار الأصل في الترجمة وعدم اتباع أسلوب واحد في ترجمة الأعمال يبين: “الترجمة الأدبية نوعان، أولاهما الترجمة التي تلتزم بالأصل التزامًا مبالغًا فيه من زاوية الصياغة اللغوية، وهذه نسميها ترجمة تغريبية وأنا أعارضها، وأدعو إلى ما يسمى الترجمة التدجينية، أي التي تقرب النص المترجم من القارئ (مثل الطيور الداجنة)، لكنه مهما اقترب لغويًّا ظل بطابعه أجنبيًّا، أما ما يقال عن محاكاتي لشغل النص الأجنبي، فلا يعدو أن يكون التزامًا بنوعه الأدبي، فإذا كان الأصل شعرًا موزونا مقفى وجدت أن أمانة النقل تقتضى التزام المترجم بما التزم الشاعر به، وهنا تتجلى درجة من درجات الإبداع.
وعن رفضه المنهج التوصيلي في الترجمة وتحيزه للأسلوب التعبيري والأدبي يقول: “كانت هذه وصية شكري عياد لي في الأدب والترجمة جميعًا، أما إن قيل إن ترجمة الشعر نظمًا أمر عسير، فلا يردده إلا من لا يستطيع النظم ولا أقول قول الشعر، فليقتصر هؤلاء على ترجمة النثر فللنثر صعوبات تضاهى صعوبات الشعر، ومن بينها ما يسمى الصراع بين المنهج التوصيلي والمنهج الأدبي، فالأول يعتمد على توصيل الأفكار من دون التفات إلى براعة الصوغ، والثاني يعمد إلى نقل المعاني في مبانيها إذا كانت اللغة المستهدفة تسمح بذلك، فعندها يكون النص المنقول أوضح وأجمل”.