22 نوفمبر، 2024 11:00 م
Search
Close this search box.

قراءة في (أصابع المطر) .. تجليات الأزمنة على مرايا الذاكرة

قراءة في (أصابع المطر) .. تجليات الأزمنة على مرايا الذاكرة

يؤسّس الشاعر حبيب السامر في تجربته الشعرية لصياغة مفهوم مغاير في إعادة بعث الماضي ونفث الحياة في تفاصيله ليشكّل وجوداً متخيّلاً  يتفاعل في مجراه وعي القارئ ويتشاكل معه وكأنه يجسّد مقولة جورج إليوت ( لا أريدُ مستقبلاً يفصلني عن الماضي ) وهنا تكمن سطوة الشعر الوجداني السحرية  لأنّه يكون نابعاً من ذاتية الشاعر وتجربته وتفاعلاته الوجودية ليتحوّل بعد ذلك لنتاج جمعي يمثل الكثير ويتطابق مع تجاربهم ومواقفهم الوجودية فيصبح الشعر فاعلاً ويتحوّل من الفعل كونه نتج عن قصديّة الشاعر ليتشكّل المثلث التفاعلي من منشئ ونص ومتلقٍّ هنا تكمن بؤرة التوهج الإبداعي فالقصيدة في ديوان (أصابع المطر) لم تكن أداة لغوية ناقلة لتفاصيل ماضوية بل كان الشكل الشعري للقصيدة بناءً معمارياً يعيد هيكلة الحدث الماضي برؤية عرفانية ذات مسقط عامودي تضيء حوادث الماضي ليكوّن من دوائر الضوء الشعرية قبسات يستلهم منها المتلقي مغازٍ متواشجة مع حاضره وهذا ما نلمسه من أول قصائد الشاعر في ديوانه (عصا الخرنوب ) فقد جعل الشاعر الماضي بؤرة  حثٍّ متشاكلة مع الحاضر في نموٍ هارموني متناغم : 

على سياج مقبرة الإنكليز
تتعانق أغصان الخرنوب
وفي الطريق إلى مدرسة الرباط
يحشر التلاميذ أجسادهم
بين القبور ص 5
من هذه البنية اللغوية التي تجسّد تفاصيل ماض بعيد وتنمو ضمن الزمن الشعري وترتبط مع الآنية يتجلّى لنا دور اللغة الشعرية التي تكون هامسة ومألوفة ومختزلة في ثناياها الكثير من الفضاءات الإيحائية التي تتشكل في وعي القارئ العليم والمتذوق لوهج الشعر :
حين كبرنا
في كلّ صباح نمرُّ
لا ورد في المقبرة
لا حارس في المقبرة
حتى الموتى
لا ورد يؤنسُ وحشتهم (ص8)
نجد أن الشاعر استثمر كلمة مركزية  تكون بمثابة الوشيجة الرابطة بين الماضي والحاضر وشحنها بكم دلالي هائل ألا وهي (المقبرة ) وجعل معها مفردات لغوية متضادّة لكنها متآلفة ضمن النسيج الشعري كـ (الوردة /التلاميذ / المدرسة )  فالمقبرة في الماضي كانت تعج بحياة الأطفال أما في الحاضر فقد أصبحت رمزاً للموت والخوف فلقد أزيحت دلالياً في الماضي وتطابقت مع دلالتها القاموسية في الحاضر .
إنّ أهم ما يسترعي انتباهنا ضمن معمارية النص الشعري في مجمل قصائد الديوان هو تداخل الحدث الزمني بين الماضي والحاضر فالشاعر في قصيدته يجعل لهذا الحدث وجوداً يتلمسه القارئ وفق تسلسل متداخل أو متقاطع وباتجاهات متعدّدة  ينجذب لبؤرة مركزية في النص تجعل من النسيج الشعري متماسكاً ومرتبطاً بوحدة عضوية وموضوعية :

يا أنتِ …
بالأمسِ تركنا بقايانا
ضحكنا طويلاً
على وقت مضى
وتأملات مشحونة بفيض انتباه
أتذكّرُ أني تركت وشماً .. ص 18

فيما مضى ،
وقبل أن تنزلق أقدامنا الحافية
في طين الدروب الضيقة وتعرجاتها .
عمّال المسفن ينتظرون الباصات والسيارات المكشوفة على
أرصفتنا الرطبة ص 58
لقد كانت القصائد في هذا الديوان خلاصة لبسترة أحداث ماضوية وآنية تتضارع فيما بينها بعلائق العلل الفاعلة الناتج عنها علل غائية ضمن نسيج شعري متماسك وفق هندسة شكلية للنص الشعري الذي يعتمد على أسلوبية كالاختزال والشرح فالمفردة أو التركيب في القصيدة تؤدي وظيفة تعبيرية وتخلق نصاً موازياً يوحي به النص المكتوب :
سأشيّد مملكتي على خرائبي المتكرّرة
وعلى حافّة الماضي
أقف
ناظراً للزمن
واللحظات الهاربة
اليوم
يذر الخوف ملحه
وتتزيا أيامنا بالسواد ص95
أو آلية الشرح :
–    الآس انتشر عطره
–    فردوسك على حساب أعمارنا
–    تحسست دواخلي : لا أنثى هنا تليق بي
–    اللهب انتشر مثل بالونات في أجواء نفسي ص15
لهذا نجد أن لغة القصيدة كانت تعتمد على قاموس لغوي حدّده الشاعر من خلال إستشعاره العالي بقدرة المفردة اللغوية  المألوفة إذا وضعت ضمن بنائية النص في مجالها التعبيري المناسب ستكون ناقلة لوهج دلالي تومض تجلياته ضمن الصور التركيبية التي رسمها الشاعر برؤيته العميقة لأنسنة الجامد ونفث الحياة بين في ثناياه مما يجعل تراكيبه الشعرية المركزية ذات مستويات عدّة للقراءة ضمن تفاعلية التضاد أو الترادف مما يجعل مجالات التأويل متعددة ففضاءات النص مترامية لأن لكل قارئ رؤية وتشاكل مع ما يعنيه له النص مما يكسب النص قدرة تمثيلية هائلة لكل قارئ واع مندمج الوعي في معطيات النص الشعري هذا يجعل للنص إنتماءً جمعيّاً مما يحقق الدور الرئيس للقصد فكل منشئٍ للنص الأدبي لا بدّ له من متلقٍ يتفاعل معه:
 الشمسُ تحفظ خطواتنا
كم كانت رحيمة بنا حين نخطو ،
الصباحات الموشاة برفرفة أجنحة العصافير
تذكر جيداً ملامحنا
ونحن نغرق بغزل المدن وحكايات لا ننساها ص11
أو :
على حين صحو
بمقربة رصيفين من آخر نداء
كنت في مهب الجنون
على ضجيج غفوة ص 25
إن التراكيب اللغوية التي ينحتها الشاعر في قصائده ويكثفها تؤدي وظائف مختلفة وتحفيزاً متنوعاً فنجد التشكيل الإبداعي  للصورة الشعرية على مستويات متعددة  فهناك الصورة  التي تعتمد على حاسة السمع أو اللمس أو الصور البصرية فعندما نقرأ التركيب الشعري ونستمع  (على ضجيج غفوة) أو نبصر ( كنت في مهب الجنون ) أو نستشعر لذة الطفولة ونلمس مع الشاعر دفء الأزهار (يسرقهم النهار / وهم يتلذذون بقطف الأزهار) فالشاعر في قصائده قد استطاع من اختزال التراكيب وشحنها لتكون موحية ومتوهجة وابتعد عن تمطيط النص الشعري والاستغناء عن الشرح والتفسير إلا وفق ما تقتضيه الضرورة التعبيرية ضمن بنية النص الشعري فجاءت معظم قصائد الديوان مبنية وفق جدلية التضاد والترادف مما يمنح الحدث الشعري قوة من خلال ما يمنحه الصراع من تماسك للنسيج الشعري وفق معمارية النص الشعري و الذي يولّده عنصر التضاد فنجد مقابلة بين الموت والحياة والمدرسة والمقبرة والنهار والليل مما يعكس في توهجات النص الشعري تناقضات الحياة وصراعاتها ونجد هذا التضاد الهائل من أول قصائد الديوان :
على سياج مقبرة الإنكليز
تتعانق أغصان الخرنوب (تضاد بين المقبرة وتوهج الحياة في أغصان الخرنوب)

التلميذ الهارب من الدرس الأوّل
يسرق زهرته الأولى من المقبرة (التلميذ المفعم بالنشاط مع الزهرة وتضادهما مع المقبرة) ص5

أو في هذه البنية الشعرية  التي تتشكل من المتضادات اللغوية المكثفة والمختزلة والضاجة بهديرها الإيحائي :
خذ بيدي
لا خريف سيهزم زهوي
وأنا العالقة بربيعك
اخترق
الضباب
غايتي
أدنو منك
أرمم بقاياي
بفجر وردة حمراء ص73

لذا مما يسترعي الانتباه في تجربة الشاعر حبيب السامر في ديوانه (أصابع المطر) قدرته في إيصال المعاني العميقة بلغة شعرية مؤثرة لهذا جاءت بعض قصائد الديوان ذات بناء درامي من خلال الاستناد إلى عناصر البناء الدرامي فكانت بعض القصائد نجد فيها توظيفاً لأهم عناصر الدراما ألا وهو الحوار المكثف بين صوت الشاعر وصوت كامن مخاطب من خلال النص مما يجعل القصيدة تعتمد على الحدث والصراع الذي يشد الأحداث بالاعتماد على تقنية الحوار المكثف المختزل :
–    اخلعْ قناعك !!
–    أنتَ ميّتٌ يا هذا !!
–    لا
    صوتٌ يتلاشى مع أبخرةٍ ملوّنة
   رئة اغتراب
–    أنا حرّةٌ إذن !!ص 32
أو :
–    أتعرف ؟
إنّك مثل القابع في مقابر أنكيدو
–    من؟
–    لا أحد يبدو أكثر جرأة منك في تحمّل الرذيلة ص37
وأيضاً يعتمد الشاعر في بعض قصائده على تقنية (السيناريو ) بلغة شعرية تقترب من السرد الذي يصف ويحدد تفاصيل المكان والزمان وباستخدام تقنية (زاوية النظر ) :
غرفةٌ
تحدّها الشمس ذات اليمين
والقمر ذات الشمال
مرآة تتوسطها ص17
وأيضاً رسم تفاصيل الشخصية الظاهرية والداخلية والمكان المحيط بها  كما في قصيدة (بائعة القيمر):
إنّها من سلالة الريف
ورائحة المعدان أحدهم قال وعدل من جلسته هامساً
و :
تجلس الآن قبالة أطباقها
البيوت الخفيضة تفتح أبوابها
عن كسل العيون
تريق الحليب من صحون فاضت
قرب البيت القديم ص 53
وأيضاً في قصيدة (بهجة الماء ) يرسم الشاعر ملامح عمال الميناء وتفاصيل المكان الذي يحيط بالعمال رسماً واقعياً تتجلى فيه بعض بواطن الشخصيات المقهورة المتعبة القانعة في لوحة واقعية يكون دور الشخوص مراكز حث دلالي لأنها ترتبط بحركية حدث القصيدة  ونموّه:
هكذا هي حياتهم …
وهاهم يغادرون نحو اندثار البياض…
ببزّاتهم الزرق وانتظام طابورهم الطويل
ليعبروا يومهم المغموس بالماء
رجال المسفن يؤمنون بلغة الماء… ص57/58
أو :
ي وجوههم لا يتيبس العزم
يتقاسمون الزاد عند انتصاف النهار
في عيونهم تتصاعد بروق الفنارات وهي ترصد المرافئ  ص58

لقد تميزت التجربة الشعرية في ديوان (أصابع المطر) بغنى المضامين وحداثوية الشكل الشعري الذي بني وفق معمارية استندت على عناصر متعددة من حيث اللغة المألوفة المكثفة شعرياً والتي حملت المعاني العميقة ضمن التراكيب الشعرية المتوهجة والمتعددة المستويات وكانت بعض المفردات تؤدي وظيفة سيميائية تجعل القارئ يندمج وعيه مع تيار النص وينجذب إلى فضاءاته الإيحائية فضلاً على قدرة الأسلوب في إستحضار الأحداث الماضية وشحنها بوهج الحياة والبعث من جديد وإعادة ترتيب الماضي المؤثر في واقع الشاعر وحاضره .

ديوان (أصابع المطر ) يقع في 104صفحة ويحوي على 26قصيدة صادر عن دار سراج للطباعة والنشر .

أحدث المقالات