من كتاب القوة السيبرانية
يُعَّدُ الفضاءُ السيبراني بمثابة “المكان” المجازي الذي تحدث فيه الإتصالات و تتم بوساطة الآلة منذ أكثر من قرن من الزمان، والفضاء الإلكتروني أو ما أسميناه بالأرض المرتفعة، إنه مدينة اسطورية عظيمة وإنّ كل جزء من اجزاء هذه المدينة، يختلف عن الآخر في تضاريسه وطراز سكانه، وأحوالهم فجزء يغطيه نيران الحروب وآخر يغشاه الظلام وتسكنه الشياطين، وجزء مبتهج جميل، وجزء مقبض حزين، نحن نعيش الأن مرحلة فريدة من تاريخ البشرية، لأنّ فيها سيلاً هائلاً من المعلومات يتدفق بسرعة كبيرة، وفي الوقت نفسه نشهد تحولات كثيرة تشوش أفكارنا، وربما لم يشهد الناس مثيلاً لها، تحولات كأنها الزلزال في نمط العيش والتفكير، بسبب الانتشار السريع للتقنيات الجديدة وهيمنتها على حياتنا اليومية، كل تلك الأشياء غيرت علاقاتنا مع الاخرين، وأساليب عملنا، وطرق تسوقنا وتجمعاتنا، وكل شيء تقريباً ، هذه اللحظة من الزمن تكاد تشبه حقبة التنوير حيث حصلت تحولات جذرية في الوعي ،والمعرفة، والتكنولوجيا ،ورافقتها تغيرات اجتماعية كبرى .
بعض التغيرات كانت مغرية للبشر على نحو متزايد ، مما أدى إلى ظهور معايير سيكولوجية شملت مجالات جديدة ، نحن بالكاد نلاحظ مثل هذا التغيير ، ذات يوم ترى طفلاً في عربة يمسك هاتفاً ذكياً باهظ الثمن يلعب به أو صبياً يمسح شاشة لمس بأصابعه الناعمة. وربما دخلت إلى مجمعٍ للتسوق ولاحظت مجموعة أطفال ينظرون بأجهزتهم ،لا ينظر بعضهم إلى بعض أحدهم قريب من الآخر ومع ذلك بعيدون فهم في مكان آخر ، وربما لاحظت تغيراً يطرأ على حياتك العائلية مع الحاسوب أو الموبايل ، مثلاً تحس بالانزعاج من ابتعاد زوجتك أو أولادك في انشغالهم لساعات طويلة في الموبايل أو الحاسوب، منشغلون بالدردشة على الهواء مع أصدقاء في مناطق متفرقة من العالم، أو يقضون الوقت في تبدد المال في التسوق على الهواء ، فان الإنترنت وسيلة حاضرة في كل مكان وزمان تحمل لنا دائما المزيد من المفاجآت والإثارة التي لا تتوقف ليلاً أو نهاراً . بين سنتي (2000و2015) تضاعف عدد المشتركين بالإنترنت سبع مرات تقريباً . اي بنسبة (6,5) إلى( 43% ) من سكان الأرض .في قمة دافوس التي عقدت في كانون الثاني (2016 ), أعلن أن أكثر من( 3,2 ) بليون من البشر يمكن أن يكونوا في ذلك الوقت على الهواء، في غضون اقل من عشر سنوات تضاعفت اشتراكات الهاتف الخلوي من عدد يتجاوز 2 بليون اشتراك في عام( 2005) إلى اكثر من 7 بليون في عام (2015) .ويتصاعد عدد الساعات التي يقضيها الناس في استعمال هواتفهم المحمولة كل سنة , وتجاوز معدل 65% خلال سنتين. ووجد في الدراسة نفسها أن مستخدمي الهاتف المحمول يستعملون أجهزتهم أكثر من (1500) مرة في الاسبوع ، وتنور الان عدة تطبيقات تحصي عدد مرات الاستعمال بدلاً عنك، اذا أردت مراقبة عاداتك .
حتماً لا يمكن اعتبار الدقائق التي تقضيها يومياً في استعمال هاتفك وتصفح مواقع التواصل الاجتماعي شيئاً عابراً. وحين تمضي الوقت في تصفح المواقع الإلكترونية، فأنت في الواقع تنتقل إلى بيئة أخرى . ترحل إلى مكان آخر . لن تكون موجوداً في عالم الواقع .
سوف نطرح هذا السؤال الذي لابد أنْ يثير جدلاً بين المختصين بالتكنولوجيا هل الفضاء السيبراني شيء حقيقي ؟ سوف تكون الإجابة على هذا السؤال هو: نعم, هو كذلك. الفضاء السيبراني مكان واضح وقابل للتميز .ربما وصلت إليه من بيئة مألوفة , مثل منزلك المريح, ولكن حالما تكون على الهواء, فأنت ترحل إلى مكان اخر من حيث الوعي, والإدراك , والعواطف, والتفاعل مع الموجودين قربك, وتصرفاتك, وهذه الأمور تتباين اعتماداً على عمرك , وحالتك البدنية والذهنية وميولك الشخصية اجمالاً، نحن نعرف أن هذا يحصل غريزياً، أغلبنا يحسون بالضياع في الفضاء السيبراني ويكتشف البعض كأنهم يستيقظون من حلم ,أن الطعام قد احترق في الفرن ,أو أنهم تأخروا عن موعد , أو نسوا أغلاق حنفية المياه .هذا يحدث بسبب حقيقة أن معظم الناس في عالم الواقع اعتادوا مراقبة الوقت جيداً. أما حين يكونون على الهواء, فيحصل تأثير “وتشويش الزمن ” (حاول تجربة هذا في المرة القادمة التي تفتح فيها الإنترنت: أوقف العلامة التي تشير إلى الوقت , واختبر نفسك بين فترة وأخرى لترى كيف يمر الوقت) ولأننا كائنات بشرية معقدة وقابلة للتكيف ,يعرف علماء النفس من خلال دراسات وبحوث كثرة أن الفرد عندما ينتقل إلى مكان جديد منزل ,مدرسة ,مدينة, أو بلد أجنبي فإنّ سلوكه يتغير ويتكيف مع الحالة الجديدة. يكون للبيئة التي يعيش فيها الإنسان تأثير عميق على خصائصه المادية.
ومع ذلك ينكر كثير من الناس أنهم دخلوا بيئة جديدة عندما يكونون على الهواء ,ويبقون في حالة جهل , وتخدعهم حواسهم بأن لا شيء تغير، الناس يجلسون في منازلهم , تحيط بهم أشياؤهم المألوفة , وأجسامهم تسترخي على الارائك والوسائد أو الكراسي المريحة. يتصورون أنهم (لم ينتقلوا) إلى اي مكان.
أن السيبرانية ليست مجرد وسط تفاعلي عادي, مثل بعض الأشياء الأخرى من قبيل مشاهدة التلفزيون أو أجراء مكالمة هاتفية . إنها وسيلة تفاعل ذات كفاءة عالية وتأثيرات شديدة تشغل تفكير المرء وهي بيئة ينغمس فيها المرء ذهنياً إلى درجة كبيرة, وتستحوذ علينا بطريقة فريدة وتجذب البشر إليها، بحيث تجعلهم ينسون الواقع , وربما تشكل تحدياً أيضاً. أنظر إلى أبنك وقد استبدت به نوبة الغضب وهو يطلب منك إرجاع (التابلت ) الذي أخذته منه, أو المراهق الذي يصرخ لأن الوايفاي يشتغل بشكل بطيء, أو عمتك أو خالك وهما يتذمران باستمرار لان ( الالحاسوب في حالة مزرية ) الفضاء السيبراني مليء بأسماء أماكن شبكات التواصل الاجتماعي, والمنتديات, والمواقع الإلكترونية وحين يكون هناك , ننضم إلى مجموعة من الأشخاص أكثر من الذين نعرفهم سابقاً, وهذا ما يجعل هذه البيئة فريدة في خصائصها, الآن لابد أن يكون هناك الملايين من البشر على الهواء، ومع أن هذا التحول ليس هو الأول الذي تحدثه التطورات التكنلوجية عبر التاريخ، إلاّ أنه سوف يكون التحول الأهم والأقوى، لأنه سوف يغير من طرق التواصل بين الأفراد، ويتضح ذلك في تأثير الاختراعات التكنلوجية، على طرق التواصل بينهم، بداية من اختراع الطابعة الخشبية على يد الصينيين، إلى اختراع التلغراف من قبل “صمويل مورس”، ومن ثم اختراع الهاتف من قبل “جراهام بل”، ومن ثم اختراع شبكة الويب من قبل “تيم بيرنرزلي”، ومن ثم الأهم هو التطور الأبرز المتمثلة في الشبكات الاجتماعية وتطبيقات الهواتف الذكية، وإنترنت الاشياء التي سهلت عملية التواصل بشكل كبير بين الأفراد