تخليدا لذكرى الشهيد الصحافي عدنان عزيز اللامي..
خطواته الأخيرة كانت مثقلة بكل ما حمله من صور مفزعة لكوابيس الرصاص ودوي المدافع، وكشأن الماضين إلى جنتهم البعيدة هجس أن الطريق له نهاية قريبة غير مرئية، عصيّ على العقل تبرير ذلك التضاد الذي يجتاح لحظات الشعور بأن الحياة والموت يتقابلان وجها لوجه على صفيح ملتهب يعلوه دخان الظنون بأن حدثا ما ليس عاديا في طريقه للوقوع كما لم يحدث مثيل له من قبل. استقبل فتور رغبته في التفاعل مع ما حوله بوهج داخلي شعر أنه يسري في شرايين القلب، وشيئا فشيئا زاد إيقاع ذلك الحضور المزدوج لضفتي الحياة السابقة والآتية.. يقال إن الشهداء يعرفون بشكل ما أنهم في الطريق إلى الله، هكذا كان عدنان اللامي صباح ذلك اليوم من عام 1982، عجن خميرة الصمت مع نبض أفكاره وكأنه يتأمل في صياغة خبر حول حدث رياضي مهم، وعليه أن يفرغه كلماتٍ في تقرير صحافي ربما سينشره في جريدة الملعب أو جريدة الرياضي التي يكتب لها، ثم يتقاسم قراءته مع القراءة وكأنه لم يكتبه على الإطلاق.. فلحظة الإبداع محض سُكر أو غيبوبة تمر بصاحبها ثم توقظه من حلمها الرائق.. لكن عدنان عزيز اللامي قاوم إغواء تلك السكرة منتبها بكل أحاسيسه اليقظة إلى ما يراه واضحا أمامه خلف هالة من الشموس تشرق من وراء مناكب صحراء العمر، العمر الذي بدأ عام 1956، غافيا يحبو على ضفاف مدينته التي عبثت الحرب بذوائبها ومزّقت بكارة هدوئها، يمضي شريط ذاكرة اللحظة الواقفة على مصطبة التأمل فيما هو قادم كالسيل، يتذكر أنه في أجواء كلية الإدارة الاقتصاد كانت الحياة كطفلة غريرة تختلي مع عروسها في زاوية من زقاق قديم، ثم تفرش أغراضها الصغيرة حالها حال الصبايا الحالمات بغدهن، مع أن العبث لم يطرق أبواب اللامي ولم يتعرف إلى حقيقة الطفولة المتأخرة، فالأحلام كانت قد شابت واشتعل الرأس مناديل بيضاء للوداع المبكر، وخطواته تنزلق إلى مهاوي الحروب وجعجعة الحزب الحاكم الذي يبشر برسالة البرابرة القدماء.. بيد أن كل ذلك الأفق الممسوح بسواد عراق البعث لم يخنق مدائن اللامي وهي تزهو بفضائله المتلألئة، خصاله ودماثة خلقه وحبه للحياة مفاتيح لأبواب أزلية عصيّ على أحد أن يخطفها من يده.. كتم عدنان كوابيسه في قرارة قلبه المثقل بهموم وطن يحترق بين يدي عصبة لاهية تسلطت في غفلة من الزمن، وسار ملتحقا تحت قسوة خياره الذي لا يملك له خيارا كضابط مجند، لشهر ونصف كانت عيناه تحملان أسى يشف عما وراء نفسه بهواجسها و قلقها و احتمالاتها المزعجة، وما أن اكتمل الشهران حتى طوّقته يد سوداء، سحبته إلى أحد كهوف التعذيب. هناك حيث ظلام العالم الآخر، وحيث تلعق الوحوش أظلافها و أنيابها، لا مكان للنقاء في وسط تلك المكبات الملوثة، تيبس عدنان كشجرة قطعت جذورها وأعدت للمحرقة.. تهمة الانتماء لأحد الأحزاب الدينية وجدها جاهزة في أوراق تحقيق لم يُجره معه أحد. هكذا كان منطق السلطة، المدان متهم بتهمة لا يعرفها.. وفي يوم ما من ذلك العام الأخير من حياة أول صحفي رياضي يستشهد بين يدي وطنه وكرامته الإنسانية مضى عدنان عزيز اللامي إلى حيث يمضي أتقياء الإنسانية ومبدعوها.. رائدا التحقت من ورائه كوكبة من كواكب الصحافة العراقية، شهداء المقدس الذين اختلطت في صفحات خلودهم دماؤهم بمدادهم، وربما ما زال بعض رفاقهم ينتظرون رحلة مشابهة لمن قبلهم.. فبعد أن نبذت الدكتاتورية إلى مزابل التاريخ احتل الإرهاب الأعمى مكانها و مارس هواية القتل للصحفيين، هؤلاء الذين يحملون مصابيح وعيهم وصدقهم باحثين عن الحقيقة بين ركام من الأضاليل و الأباطيل و الهذيانات.. ذكرى يانعة تزهر في قلوب أحبة اللامي الذين رأوه والذين سمعوا عنه، سيرة هي اختزال لسير مجيدة في طريق مضاءة بشموع المهابة والإجلال لكل صحفي تحول دمه إلى زيت يبقي شعلة الحق والحقيقة متوقدة في يد اخيه نقيب الصحفيين العراقيين مؤيد اللامي الذي ابا الا ان يكمل الرسالة رغم كل ما حدث ويحدث من خطوب الزمان … سلاما على شهداء العراق سلاما على شهداء الصحافة سلاما عليكم يا رسل الحق.
[email protected]