17 نوفمبر، 2024 9:52 ص
Search
Close this search box.

قصة الحضارة (57): دولة “تشاندرا جوبتا” الهندية كانت ذات نظام دقيق

قصة الحضارة (57): دولة “تشاندرا جوبتا” الهندية كانت ذات نظام دقيق

 

خاص: قراءة- سماح عادل

وعن دولة “تشاندرا جوبتا” التي أنشأت بعد احتلال الإسكندر للهند، والتي كانت محكمة التنظيم، وشديدة الدقة، وقوة ذلك الملك وعظمه حكمه يحكي الكتاب. وذلك في الحلقة السابعة والخمسين من قراءة “قصة الحضارة” الكتاب الموسوعي الضخم وهو من تأليف المؤرخ الأمريكي “ويل ديورانت” وزوجته “أريل ديورانت”، ويتكون من أحد عشر جزء.

تشاندرا جوبتا..

انتقل الكتاب إلى الحكي عن لإسكندر في الهند و”تشاندرا جوبتا” محرر بلاده: “في سنة 327 ق.م، عبر اسكندر الأكبر جبال هندوكوش آتياً في طريقه من فارس، وهبط على بلاد الهند؛ ولبث عاماً يجول بحملته بين دول الشمال الغربي من الهند، التي كانت جزءا من أغنى أجزاء الإمبراطورية الفارسية وأخذ يجمع منها المؤن لجنوده والذهب لخزائنه؛ وعبر نهر السند في الجزء الأول من سنة 326 ق.م.

وشق طريقه بالقتال بطيئاً، متخللا “تاكْسِلا” و”روالبندي” متجهاً نحو الجنوب والشرق، والتقى بجيش الملك بورس حيث هزم من جيش المشاة ثلاثين ألفاً، ومن الفرسان أربعة آلاف، ومن العربات الحربية ثلاثمائة، ومن الفيلة مائتين، وقتل اثني عشر ألف رجل، فلما أن أسلم “بورس” بعد أن قاتل حتى استنفذ جهده، أمره الإسكندر أن يقول على أي نحو يريده أن يعامله، ذلك لأنه أعجب بشجاعته وقوامه وجمال قسماته؛ فأجابه “بورس”: “عاملني يا اسكندر معاملة تليق بالملوك” فقال الإسكندر: “سأعاملك معاملة الملوك بالنسبة إلى نفسي، وأما بالنسبة إليك أنت، فمر بما تريد”.

لكن “بورس” أجاب بأن كل شئ يريده متضمن فيما طلب أولاً؛ وأعجب الإسكندر بهذا الجواب إعجاباً شديداً، ونصب “بورس” ملكاً على الهند المفتوحة كلها، باعتباره تابعاً خاضعاً لمقدونيا، ولقد وجده بعدئذ حليفاً نشيطاً أميناً؛ وأراد الإسكندر أن يتقدم بجيوشه حتى يبلغ البحر من ناحية الشرق، لكن جنوده احتجوا على ما أراد؛ وكثر في ذلك بينهم القول وازداد التجهم، فخضع الإسكندر لمشيئتهم وقادهم- خلال قبائل معادية له إشفاقا على أوطانهم من اعتدائه، مما اضطر جنود الإسكندر أن يحاربوا في سيرهم عند كل قدم من الطريق، أو كادوا- قادهم حذاء “هِداسب” وإلى جوار الساحل؛ حتى اخترق بهم “جدروسيا” إلى بلوخستان؛ فلما وصل “سوزا” بعد عشرين شهراً من عودته بعد فتوحه لم يعد جيشه أكثر من فلول منهوكة من الجيش الذي كان قد دخل به الهند قبل ذلك بثلاثة أعوام”.

زوال أثر الإسكندر..

وعن زوال أثر الإسكندر يواصل: “وبعد ذلك بسبعة أعوام كان كل أثر للسلطان المقدوني قد زال عن الهند زوالاً تاماً، وكان العامل الأول في زوال ذلك السلطان، رجل هو من أروع من يثير الخيال في تاريخ الهند من رجال؛ فهو وإن يكن أقل منزلة في صفاته العسكرية من الإسكندر، إلا أنه أعظم منه حاكماً؛ ذلك هو “تشاندرا جوبتا” الشريف الشاب الذي ينتمي إلى طبقة الكشاترية المقاتلة، وقد نفته من “مجاذا” أسرة “ناندا” الحاكمة التي كان هو من أبنائها؛ وكان إلى جانبه ناصح مكيافلي ماكر، هو “كوتيلا تشاناكيا” الذي أعانه على تنظيم جيش صغير اكتسح به الحاميات المقدونية، وأعلن الهند حرة من الغازي.

ثم تقدم إلى “باتاليبوترا” عاصمة مملكة “مجاذا” التي حكمت الهندستان وأفغانستان مدى مائة وسبعة ثلاثين عاماً؛ ولما استلم “تشاندرا جوبتا” بشجاعته لحكمه “كوتيلا” التي لم يكبح جماحها ضمير، سرعان ما أصبحت حكومته أقوى حكومة كان يعرفها العالم عندئذ؛ حتى إنه لما جاء المجسطي سفيراً في “باتاليبوترا” عن “سلوكس نكتار” ملك سوريا، أدهشه أن يرى هناك مدنية وصفها اليونان المدققين المتشككين الذي كانوا عندئذ لم يزالوا في موضع قريب من أوج حضارتهم، فقال إنها مدنية مساوية للمدنية اليونانية مساواة تامة.

وصف لنا هذا الإغريقي الحياة الهندية في عصره وصفاً ممتعاً، ربما مال فيه نحو التهاون في الدقة ليكون في صالح الهنود؛ وأول ما استوقف نظره هناك هو ألاّ ِرَّق في الهند على خلاف ما عهده في أمته، وهو اختلاف يجعل الأولى أعلى من الثانية منزلة في هذه الناحية، وإنه على الرغم من انقسام السكان إلى طبقات حسب ما يؤدونه من أعمال، فقد قبل الناس هذه الأقسام على أنها طبيعة ومقبولة؛ يقول السفير عنهم في تقريره أنهم كانوا “يعيشون عيشاً سعيداً” لأنهم:

“في سلوكهم يتصفون بالبساطة، وهم كذلك مقتصدون فهم لا يشربون الخمر قط إلا في الاحتفال بتقديم القرابين. والدليل على بساطة قوانينهم ومواثيقهم هو أنهم قلما يلجئون إلي القانون؛ فهم لا يتقدمون إلى محاكمهم بقضايا عن خرق العهود أو نهب الودائع، بل هم لا يحتاجون إلى أختام أو شهود، لكنهم يودعون أشياءهم على ثقة بعضهم ببعض. إنهم يقدرون الحق والفضيلة قدراً عظيماً. والجزء الأعظم من أرضهم يزرع بالري، ولذلك ينتج محصولين في العام. ولهذا كان من الثابت أن الهند لم تعرف المجاعة قط، ولم يكن بها قحط عام في موارد الطعام اللازم للتغذية”. “.

مدينة “تاكسيلا”..

وعن المدن في عهد القائد العظيم يضيف: “وأقدم المدائن الألفين التي كانت في الهند الشمالية في عهد “تشاندرا جوبتا” هي مدينة “تاكسيلا” التي تبعد عشرين ميلاً- جهة الشمال الغربي- عن مدينة “روالبندي” الحديثة؛ ويصفها “أريان” بأنها: “مدينة عظيمة مزدهرة” ؛ ويقول “سترابو”: “إنها كبيرة وبها أرقى القوانين”، فقد كانت مدينة عسكرية ومدينة جامعية في آن معاً، إذ تقع من الوجهة العسكرية على الطريق الرئيسية المؤدية إلى آسيا الغربية، وكان بها أشهر الجامعات الكثيرة التي كانت في الهند إذ ذاك، فكان يحج إليها الطلاب زرافات، كما كانوا يحجون زرافات إلى باريس في العصور الوسطى؛ ففي وسع الطلاب أن يدرسوا بها ما شاءوا من فنون وعلوم على أيدي أساتذة أعلام، وخصوصاً مدرستها للطب، فقد ذاع اسمها في العالم الشرقي كله مقروناً بالتقدير العظيم”.

ويصف المجسطى مدينة “باتاليبوترا” عاصمة الملك “تشاندرا جوبتا” فيقول أنها تسعة أميال في طولها وميلان تقريباً في عرضها وكان القصر الملكي بها من خشب، لكن السفير الإغريقي وضعه في منزلة أعلى من منزلة المساكن الملكية في “سوزا” و”إكياتانا” ولا يفوقه إلا قصور “برسوبوليس” (أي مدينة الفرس)؛ فأعمدته مطلية بالذهب ومزخرفة بنقوش من حياة الطير ومن ورق الشجر، وهو من الداخل مؤثث تأثيثاً فاخراً ومزدان بالأحجار الكريمة والمعادن النفسية.

وقد كان في هذه الثقافة قسط من حب الشرقيين للتظاهر، فمثلاً ترى ذلك واضحاً في استخدامهم لآنية من الذهب قطر الواحدة منها ست أقدام؛ لكن مؤرخاً إنجليزياً يبحث الآثار المادية والأدبية والتصويرية لتلك المدينة فيصل إلى نتيجة، هي أنه “في القرنين الرابع والثالث قبل المسيح لم يكن ما يتمتع به ملك موريا من أسباب الترف بكل ضروبها، والصناعات اليدوية الماهرة بكل أنواعها، أقل مما كان يتمتع به أباطرة المغول بعد ذلك بثمانية عشر قرناً”.

تشاندرا جوبتا..

ويحكي الكتاب بتفصيل أكثر عن ذلك الملك: “أقام “تشاندرا جوبتا” في هذا القصر، بعد أن استولى على العرش بالقوة، مدى أربعة وعشرين عاماً، فكان كأنما يعيش منه في سجن مطلي بالذهب؛ وكان يظهر للشعب حيناً بعد حين، مرتدياً ثوباً من الموصلي الموشى بالأرجوان والذهب، محمولاً في محفة ذهبية، أو على فيل مطهم بأفخر الطهم؛ وكان وقته مليئاً بأعمال مملكته المتزايدة، إلا ساعات كان يقضيها في الصيد أو في غيره من أنواع التسلي.

فيومه ينقسم ستة عشر جزءاً طول الجزء منها تسعون دقيقة، فكان يستيقظ في الجزء الأول من يومه فيعد نفسه بشيء من التأمل؛ وفي الثاني يقرأ التقارير التي يرفعها إليه موظفوه، ويصدر فيها تعليمات سرية؛ وفي الثالث يجتمع بمستشاريه في قاعة المقابلات الخاصة؛ وفي الرابع يبحث في أمور المالية والدفاع القومي؛ وفي الخامس يصغي إلى شكاوي رعيته وقضاياها؛ وفي السادس يستحم ويتناول غداؤه ويقرأ شيئاً من كتب الدين.

وفي السابع يتقبل الضرائب والجزية ويضرب المواعيد الرسمية؛ وفي الثامن يلتقي بمستشاريه مرة ثانية ويستمع إلى ما يقرره له الجواسيس الذين كان يرصدهم، وبين هؤلاء عاهرات استخدمن لهذه الغاية؛ وخصص الجزء التاسع من يومه للاستحمام والصلاة، والعاشر والحادي عشر للشئون العسكرية؛ والثاني عشر للتقارير السرية مرة أخرى؛ والثالث لحمام المساء ووجبته؛ والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر للنوم؛ ويجوز أن يكون المؤرخ قد صور لنا بهذه الصورة ما كان يمكن أن تجري عليه حياة “تشاندرا جوبتا” من نظام؛ أو هو يصور لنا بها ما أراد “كوتيلا” أن يتصوره الناس عن مليكه، أكثر مما يصور لنا حقيقة ذلك الملك في حياته، فالحقيقة قلما تفلت من أجواق القصور.

كان زمام الحكم الحقيقي في يد وزيره الماكر “كوتيلا” و”كوتيلا” برهمي عرف القيمة السياسية للدين، لكنه لم يتخذ من الدين هداية خلقية؛ فهو شبيه بدكتاتوريي هذا العصر، في إيمانه بأن كل الوسائل لها مبررات ما دامت تنتهي إلى صالح الدولة؛ وكان غادراً لا يزجره من نفسه ضمير، إلا إزاء مليكه؛ فقد خدم “تشاندرا جوبتا” في منفاه وفي هزيمته وفي مغامراته وفي دسائسه وفي اغتياله للناس وفي نصره؛ واستطاع بفضل حكمته ودهائه أن يجعل ُملك سيده أعظم ما عرفته الهند في تاريخها كله.

كتاب “أرذاشاسترا”..

وعن كتاب يحوي الحيل العسكرية والسياسية يوضح: “ولقد رأى “كوتيلا”، كما رأى الأمير من بعده مؤلف “الأمير”، أنه من المفيد أن يدون للأجيال القادمة آراءه التي عالج بها الأمور العسكرية والسياسية؛ وأن الرواية لتنسب إليه كتاب “أرذاشاسترا” وهو أقدم كتاب مما بقي لنا من الأدب السنسكريتي؛ ولكي نسوق لك مثلاً من واقعيته الدقيقة، نذكر لك ما ذكره من الوسائل التي تتبع في الاستيلاء على أحد الحصون، وهي: “الدسائس والجواسيس واستمالة شعب الأعداء، والحصار والهجوم”، وفي هذه الدسائس اقتصاد حكيم للمجهود البدني.

لم تزعم الحكومة لنفسها اصطناع الأساليب الديمقراطية؛ والأرجح أنها كانت حكومة لم تشهد الهند طوال تاريخها حكومة أكفأ منها؛ فلم يكن لدى “أكبر”، وهو أعظم المغول، “ما يماثلها كفاءة، ومما يدعوا إلى الشك أن يكون بين المدن اليونانية القديمة ما يفوقها نظاماً”؛ كانت تقوم صراحة على القوة العسكرية؛ فكان “لشاندرا جوبتا” جيش قوامه، إذا أخذنا برأي المجسطي (الذي يجب أن يكون موضع ريبه كأي مراسل أجنبي آخر)، ستمائة ألف من المشاة، وثلاثون ألفا من الركبان، وتسعة آلاف من الفيلة، وعدد لم يحدد من العربات الحربية”. وكان البراهمة والفلاحون يعفون من الخدمة العسكرية، فيصف لنا “سترابو” هؤلاء الفلاحين وهم يحرثون الأرض في هدوء وآمن وسط حومات تضطرب بالقتال”.

سلطة الملك..

وعن حدود سلطة الملك يتابع الكتاب: “وكانت سلطة الملك مطلقة من الوجهة النظرية، أما من الوجهة العملية فكان يحدها مجلس للشورى كان من شأنه التشريع، أحيانا في حضور الملك وأحيانا في غيابه، وتنظيم المالية القومية والشئون الخارجية، وهو الذي كان يعين لكل المناصب الهامة في الدولة رجالها؛ ويشهد المجسطي بما كان لأعضاء ذلك المجلس من “خلق سام وحكمة عالية” كما يذكر ما كان لهم من نفوذ فعال.

كانت الحكومة مقسمة أقساماً لكل منها واجبات واضحة الحدود، وموظفون يتدرجون في درجاتهم تدرجاً أحسن تدبيره؛ فتقوم هذه الأقسام بالإشراف على الدخل، والجمارك، والحدود، وجوازات السفر، والمواصلات، والضرائب، والمناجم، والزراعة، والماشية، والتجارة، والمخازن، والملاحة، والغابات، والألعاب العامة، والدعارة، وسك النقود، لكل من هذه قسم خاص.

وكان للمشرف على قسم ضريبة الإنتاج حق رقابة بيع العقاقير والمسكرات، وكان يقيد عدد الخانات ومواضعها، وكمية الخمور التي يجوز لها أن تبيعها؛ وللمشرف على المناجم أن يؤجر مواقع الاستنجام لأفراد يدفعون للحكومة أجراً معلوماً وجزءا معيناً من الربح؛ وللإشراف على الزراعة نظام كهذا، لأن الأرض كلها كانت ملكاً للدولة؛ وللمشرف على الألعاب العامة الرقابة على قاعات القمار، وأن يقدم الزهر (زهر اللعب) للاعبين ويتقاضاهم رسماً على استخدامه، كما كان يقتطع لخزانة الدولة خمسة في كل مائة مما يدفعه اللاعبون.

وأما المشرف على الدعارة، فكان من شأنه أن يراقب العاهرات، ويضبط أجورهن ومصروفهن، وكان يحدد لأعمالهن يومين من كل شهر، ويأخذ منهن اثنتين للقصر الملكي، تقومان هناك للمتعة من جهة وللجاسوسية من جهة أخرى”.

الضرائب والقانون..

وعن الضرائب والقانون في هذه الدولة المحكمة: “وفرضت الضرائب على كل مهنة وكل عمل وكل صناعة؛ أضف إلى ذلك ما كان الأغنياء يحملون على دفعه من “تبرعات” للملك؛ وكانت الحكومة تراقب الأسعار، وتراجع الموازين والمقاييس حيناً بعد حين؛ ثم كان للدولة مصانع خاصة بها تقوم فيها الحكومة بصناعة بعض الأشياء، كما كانت تبيع الخضر وتحتكر المناجم والملح والخشب والمنسوجات الدقيقة والجياد والفيلة.

وكان يقوم على القانون في الريف رؤساء محليون في القرى، أو مجالس قروية قوام الواحد منها خمسة رجال؛ وأما في المدن والأقاليم والمناطق فيعهد بأمره إلى محاكم دنيا ومحاكم عليا، وفي العاصمة يتولاه المجلس الملكي باعتباره محكمة عليا، ويتولاه الملك نفسه على أنه محكمة استئناف، لا نقض ولا إبرام لحكمها.

وكانت العقوبات صارمة، منها بتر الأعضاء والتعذيب والموت، وهي تقوم عادة على مبدأ “العين بالعين والسن بالسن” أي مبدأ القصاص المتعادل؛ لكن الحكومة لم تكن مجرد أداة للضغط على الشعب، بل كانت كذلك تعني بالصحة العامة، فأقامت المستشفيات وملاجئ الفقراء، وكانت توزع في السنين العجاف ما قد يكون في مخازن الدولة استعداداً لأمثال هذه الطوارئ ؛ وتضطر الأغنياء إلى المشاركة في معاونة المعوزين، وتنظم مشروعات عامة كبرى للعناية بالمتعطلين في سني الأزمات”.

الملاحة..

وينتقل للحديث عن الملاحة “وأما قسم الملاحة فكان اختصاصه تنظيم النقل المائي ووقاية المسافرين في الأنهار والبحار؛ وكانت كذلك ترعى الجسور والمواني، وتهيئ “معدّيات” حكومية تعمل جنباً إلى جنب مع “المعدّيات” الخاصة التي يملكها ويديرها أفراد. وهو نظام جميل يمكن الحكومة بدخولها في المنافسة من الحد من إسراف الأفراد في استغلال الجمهور، كما تمكن المنافسة الحرة من الحد من إسراف الحكومة بذبحها؛ وكان من واجب قسم المواصلات أن يشق الطرق ويعبدها ثم يقوم على صيانتها في أرجاء الإمبراطورية، من المدقات الضيقة التي تعد للعربات في الريف، إلى الطرق التجارية التي يبلغ عرض الواحد منها اثنين وثلاثين قدماً، ثم إلى الطرق الملكية التي يبلغ عرضها أربعاً وستين قدماً.

وكان طريق من هذه الطرق الملكية يمتد ألفاً ومائتين من الأميال، من “باتاليبترا” إلى الحدود الشمالية الغربية، وهي مسافة تساوي نصف الطريق من هاتيك الطرق الرئيسية التي تعبر الولايات المتحدة من شرقها إلى غربها؛ وعند كل ميل تقريباً من هذه الطرق- فيما يقول المجسطي- كانت تقوم أعمدة تشير إلي الاتجاهات وتبين المسافات إلى مختلف البلدان، وكنت تجد على طول الطريق أشجاراً ظليلة وآباراً ومراكز للشرطة وفنادق، أعدوها على مسافات دورية من الطريق.

وكانت وسائل النقل هي العربات والمحفات والعربات تجرها الثيران، ثم الجياد والجمال والفيلة والحمير والناس؛ وكانت الفيلة من ألوان الترف التي تقتصر عادة على الملك وكبار رجال الدولة، وكانت من غلو القيمة عندهم بحيث عدُّوا عفة المرأة ثمناً متواضعاً للواحد منها”.

الإدارة..

وعن تقسيمات الإدارة يكمل: “وكان يتبع في حكومات المدن مثل هذا النظام بعينه من حيث تقسيم الإدارة إلى أقسام، فالعاصمة “باتاليبترا” كان يحكمها مجلس مؤلف من ثلاثين عضواً، ينقسمون ستة أقسام، يقوم قسم منها على تنظيم الصناعة، وآخر يراقب الأجانب فيعد لهم المساكن ويعين لهم من يقوم بخدمتهم ويراقب حركاتهم، وقسم ثالث يسجل المواليد والوفيات، ورابع يرخص للتجار مباشرة تجارتهم، وينظم بيع المحصول، ويراجع المقاييس والموازين، وخامس يراقب بيع المصنوعات، وقسم سادس يجمع ضريبة قدرها عشرة في كل مائة عن المبيعات كلها.

وفي ذلك يقول “هافِلْ”: “وصفوة القول أن باتاليبترا في القرن الرابع قبل الميلاد، فيما يظهر، قد كانت مدينة على أتم ما تكون المدن نظاماً، وتقوم عليها إدارة تتمشى مع أحسن المبادئ في علم الاجتماع”؛ وكذلك يقول “فنست سْمِث”: “إن الكمال الذي بلغته هذه النظم التي أشرنا إليها، ليثير العجب حتى إن اقتصرت في ذكره على موجز مقتضب؛ ثم تزداد عجباً، إذا ألممت بتفصيلات الإدارة، كيف أمكن لمثل هذا النظام أن تدبَّر قواعده، وأن ينفذ تنفيذاً دقيقاً في الهند في سنة 300 ق.م””.

استبداد الحكومة..

وعن الاستبداد الذي اتصفت به الحكومة: “والنقص الوحيد في هذه الحكومة هو استبدادها، وبالتالي اعتمادها اعتماداً متصلاً على القوة وعلى الجواسيس؛ فحاكمها “تشاندرا جوبتا” شأنه شأن كل حاكم مستبد آخر، كان قلقاً على عرشه، لا ينقطع خوفه من الثورة والاغتيال؛ فكان ينام كل ليلة في مخدع يختلف عن مخدع الليلة السابقة، ولم يخل قط من حراسة الحراس.

وتروي الراوية الهندية، ويؤيدها المؤرخون الأوربيون، أنه لما أطبقت مجاعة طويلة على مملكة “تشاندرا جوبتا” (راجع المجسطي) حمله اليأس على النزول عن عرشه؛ وعاش بعدئذ اثني عشر عاماً زاهداً جانتياً، ثم انتهى به الأمر أن فرض على نفسه الجوع حتى مات به؛ يقول فولتير: “إنك لو وضعت كل الظروف موضع الاعتبار، ألفيت حياة النوتي في “جندوله” خيراً من حياة حاكم المدينة، لكني أعتقد أن الفرق بين حياتيهما أتفه من أن يستحق منا التدقيق في أمره””.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة