18 ديسمبر، 2024 10:44 م

تُشير الأبحاث والتقارير العلمية الى أنّ الجنس البشري تطوّر وراثياً منذ ما يُقارب المائتي ألف عام الى الجنس المعروف علمياً بجنس الـ (هومو هابيلس) وهو الأقرب الى شكل الإنسان المعاصر، حيث تدرّج الإنسان منذ ذلك الوقت في تطّوير صناعة الأدوات الخشبية والحجرية لأغراض صيد الحيوانات، وتمكّن أيضاً مِن التوجّه تدريجياً الى الزراعة وتربية الحيوانات بدلاً مِن الإعتماد الكلي السابق على التنقل وقطف الثمار وصيد الحيوانات، كما تدرّج الإنسان في إبتكار وتطوير وسيلة الـ (لغة) للتحدث والتفاهم مع البشر المحيطين به، وهكذ أستمر التطور التدريجي البطيء في قدرات العقل البشري الى أنْ حصلت فيه خلال الخمسة آلاف سنة الأخيرة قفزة نوّعية مفصليّة كبرى في قدراته حيث تمكّن ذلك العقل البشري مِن التفنُن في إبتكار (الرسم والكتابة) وتطوير أدوات وأساليب المعيشة والسكَن والمَلبس، كما تمكّن مِن إكتشاف (المعادن) وإستخراجها والتمييز بين أنواعها وتصنيعها، وبعدها تمكّن مِن إبتكار وتصنيع العُملة النقدية المعدنية (المال) لأغراض التعامل التجاري بدلاً مِن أسلوب المُقايضة البدائي، الأمر الذي حفّز بالضرورة إبتكار نظام (الدين) ليكون أول نظام (دولة وقانون) في مجتمعات بشرية كانت تخلو حينها تماماً مِن أيّ شكل مِن أشكال القيادة والإدارة والتنظيم، وأستمر الإنسان بعدها في تطوير أنظمة إدارة المجتمعات جنباً الى جنب تطوّره علمياً وحضارياً لغاية يومنا هذا، الا إنّ معرفة مصدر أو أصل الكوّن وكذا أسرار الحياة والموت فما تزال لغاية يومنا هذا غامضة جداً وقد تحتاج الى حصول قفزات وراثية في مستوى قدرات العقل البشري لتجعله قادراً على التعرف على المزيد مِن الحقائق المُبهمة حالياً.

نعم، حالَ تطوّر الجنس البشري منذ ما يقارب المائتي ألف عام بدأ بإدراك حقيقة الموت المحتوم لكل كائن حي، كما إبتدأ عقله وبدافع مصلحته الذاتية بإفتراض حتمية وجود قوة عظيمة صنعَتْ الكوّن وخلقتْ الإنسان والكائنات الحية ليتمكن مِن التوسّل اليها لمساعدته في مقاومة ظروف الحياة، وقام الإنسان منذ ذلك الحين بصنع تماثيل خشبية وحجرية وطينية ليرمز بها الى تلك القوة العظيمة الخالقة لكل الأشياء مِن إنسان وحيوانات ونباتات وأرضٍ وشمس قمر ونجوم وجبال وأنهار وشرّ وخيّر وحياة وموت.

كان تصنيع الإنسان لتلك التماثيل أو الأصنام التي ترمز الى (الله) وبأسماء مختلفة يُمثِل رغبة نفسية أوجدها العقل البشري لضرورة وجودٍ ماديّ ملموس لتلك القوة العظيمة السحرية الخالقة لكل شيء وليتمكن الإنسان مِن خلال هذا الوجود المادي الملموس والمحسوس إيصال توسلاته الى الله لحمايته مِن مخاطر الطبيعة وتمنّي العودة الى حياة أخرى بعد الموت.

كان إفتراض العقل البشري لوجود خالق ذي مواصفات سحرية خارقة لقوانين الطبيعة بسبب مصلحته الذاتية في تمنّي وجود مَن يساعد الإنسان على متاعب الحياة ومَرارة الموت المحتوم، فالإمكانيات العقلية للإنسان كانت وما تزال الى يومنا هي في المستوى الذي يجعلها ترى إستحالة وجود الحياة والكون بلا وجود (خالق)، فلا وجود لـ (شيء) مِن الـ (لا شيء)، مثلما أنّ الـ (لاشيء) هو إشارة للمقارنة مع وجود (شيء) ما!

العقل البشري ووفقاً لمصلحته الذاتية كان مُضّطراً لإفتراض وجود (الله) كخالق للكوّن مُستغِلاً القناعة المنطقية المُمكنة أمامه في عدم وجود إحتمالية لوجود شيء مِن اللاشيء، فالتركيبة العضوية لهذا العقل البشري كانت وربما ما تزال محدودة الإمكانيات بأتجاه توّقعِ إحتمالات أخرى، ولهذا لم يُعِر العقل البشري أهمية للتفكير في إجابة مًنْ يتساءل عن الجهة التي خَلقتْ (الله) وفق نفس القناعة المنطقية السابقة!

العقل البشري كان، وربما ما يزال لغاية يومنا هذا، بصورة إرادية أو لا إرادية، لا يُعير أهمية كبرى للإهتمام بالتساؤل عن مَن خلق (الله) نظراً لأن الإهتمام بهذا التساؤل سيُدخل الإنسان في متاهات لا تصل به الى نتيجة، كما أنّ مثل هكذا متاهاتٍ لا تخدم المصالح الذاتية للعقل البشري والمتمثلة بتمنّي وترجيح إحتمال وجود قوة عظيمة كقوة (الله) ليَعبِدها ويمدحها مُتوسلاً منها المساعدة وأعادة الحياة له بعد الموت.

العبادة الفردية للتماثيل أو الأصنام التي صنعها الإنسان القديم لتُمثِل القوة الألهية في المجتمعات البدائية لمْ يكن يعني وجوداً لـ (دين) في تلك المجتمعات طالما لمْ تَكن هناك أصول وأحكام دينية مفروضة على جميع أفراد تلك المجتمعات، لكنّ قيام فردٍ مِن أفراد المجتمع البدائي بِتَرأس مجتمعه كـ (مَلِك) وقيامه بتنظيم العلاقات الإقتصادية والإجتماعية فيه وفقاً لأصولٍ وأحكامٍ دينية مزعومة هو الذي كان يعني ولادة (الدين) لأول مرّة في تاريخ البشر، مثلما كان يعني ذلك بنفس الوقت قيام أول نظام دولة وقانون في التاريخ الإنساني.

يتبع ..

اعلاه هو الجزء الاول من المقال الاول من الفصل الاول من كتاب ( أحترمُ جداً هذا الدين ! ).