إستراتيجية “إما معنا أو مع بكين” .. كيف ستدمر أميركا حلفاءها في آسيا بسبب صراعها مع الصين ؟

إستراتيجية “إما معنا أو مع بكين” .. كيف ستدمر أميركا حلفاءها في آسيا بسبب صراعها مع الصين ؟

وكالات – كتابات :

تسعى “أميركا” إلى احتواء “الصين” وتعطيل نموها إلى مركز قيادة النظام العالمي، ولا يمكن لـ”واشنطن” أن تُحقق الهدف بمفردها.. فكيف يمكن أن تضّر السياسات الأميركية بحلفائها في “آسيا” أكثر من الإضرار بـ”بكين” ؟

تناولت مجلة (فورين بوليسي) الأميركية هذه المعضلة في تحليلٍ لها بعنوان: “الدول الآسيوية قلقةٌ؛ لأن الولايات المتحدة أصبحت قوة عظمى مشتتة الأفكار”، رصد كيف تسعى “واشنطن” بكل جديةٍ لتطبيق سياسات عدائية تستهدف تأخير إرتقاء “الصين” لسلم التفوق العالمي.

لكنها لا تُريد؛ ولا تستطيع، أن تفعل ذلك بمفردها، لهذا بدأت تتواصل مع الحلفاء في “أوروبا” وغيرها من المناطق كقارة “إفريقيا”. ومع ذلك؛ ستواجه “واشنطن” المهمة الأصعب عندما تُحاول إقناع الدول المجاورة لـ”الصين” بالانضمام إليها في مهمة: “احتواء” بكين.

التجارة مع “الصين” لا غنى عنها..

لا شك أن طلب “واشنطن” يُعتبر محفوفًا بالمخاطر بالنسبة لدول منطقة “الهندي-الهاديء”، لأن الانحياز لأحد الجانبين يعني المخاطرة بتهديد استقرار المنطقة ونموها الاقتصادي. إذ يُريد المسؤولون الأميركيون من الدول الآسيوية مساعدتهم في تعطيل صعود “الصين”، عن طريق حجب الدعم المادي والتعاون، أو عن طريق التصدي للتوسع الصيني بشكلٍ نشط في أفضل السيناريوهات.

لكن غالبية دول “المحيط الهاديء”، من “فيتنام” إلى “الفلبين”، تُريد مواصلة تجارتها مع “الصين”، التي تُعتبر أكبر شركائها الاقتصاديين، مع الاستمرار في تلقي مزايا الحماية الأمنية والتوازن الإقليمي من “الولايات المتحدة”.

وتسمح هذه الإستراتيجية؛ لتلك الدول، بأن تُحافظ على حيادها وتتجنب استعداء أي من القوتين. ولا شك أن التعايش المشترك الهاديء، واستمرار الوضع الراهن يُمثّلان أفضل رهانٍ لتلك الدول.

وإذا كان هذا هو الاتجاه العام الآن، فما مستوى الدعم الذي من المنطقي أن تتوقعه “الولايات المتحدة” لسياستها في التعامل مع “الصين” ؟.. ليست “آسيا” كتلةً واحدة بطبيعتها، ولهذا تتفاوت ردود أفعالها على التحولات السياسية الأميركية.

لكن تظل هناك بعض المخاوف الإستراتيجية التي تتجاوز الحدود. ويُمكن القول إن محّفزات مقاومة القوة الأمنية المُهيمنة في المنطقة ربما تكون أكبر من محّفزات حصار القوة الاقتصادية المهيمنة، وذلك بالنسبة لبعض القوى الرئيسة في “آسيا”.

وهناك 03 عوامل يمكن أن تدفع الدول الآسيوية إلى العزوف عن تفضيل “الولايات المتحدة” لاتخاذ موقف أكثر عداءً تجاه “الصين”. ويكمن العامل الأول في أن “الصين” قويةٌ اقتصاديًا، إذ كانت “الصين” أكبر شريك تجاري لـ”رابطة دول جنوب شرق آسيا”؛ (آسيان)، على مدار: (13 عامًا) متتالية.

حيث استثمرت “بكين” مليارات الدولارات في البُنّية التحتية والتصنيع داخل مختلف دول المنطقة، من خلال “مبادرة الحزام والطريق”. كما يصل حجم واردات “الصين”؛ من سلع ومنتّجات المنطقة إلى مليارات الدولارات.

بينما تفتقر “الولايات المتحدة” إلى الاستجابة الاقتصادية المتماسكة لمواجهة قوة “الصين” التجارية، إذ حاولت “واشنطن” وضع إستراتيجية مماثّلة في عهد؛ “باراك أوباما”، عندما تزعم الدبلوماسيون الأميركيون “مبادرة إنشاء الشراكة العابرة للمحيط الهاديء”.

لكن “دونالد ترامب”؛ انسحب بـ”الولايات المتحدة” من تلك الشراكة، ما أضعف النفوذ الأميركي داخل منطقةٍ تتألف من نوعين من الدول: الدول “النامية” التي تسعى للثراء، والدول “المتقدمة” التي تُحاول البقاء ثرية.

ولم يتحسّن الانفتاح التجاري كثيرًا في عهد؛ “جو بايدن”، الذي لم ينضم حتى اليوم إلى: “الاتفاق الشامل والتقدمي للشراكة العابرة للمحيط الهاديء” أو غيره من اتفاقيات التجارة الحرة الأوروبية.

لكن “بايدن” يميل لتفضّيل الترتيبات الاقتصادية: “غير المُلزمة”، التي لا تؤثر على التعريفات الجمركية، ولا تُوسّع الوصول إلى السوق. ومن المؤكد أن هذا الأمر لن يُشجع الدول المتعطشة للأسواق والمعتمدة على الصادرات.

علاوةً على أن القوى المتوسطة والصغيرة تنظر إلى اتفاقيات التجارة الحرة باعتبارها أداةً لتقنين القواعد، التي ستُنّظم التجارة والاستثمار بدورها في نهاية المطاف. وليست الاستهانة بحافز الأرباح، أو التخلي عن سلطة تحديد جدول الأعمال، بمثابة إستراتيجية جيدة لكسب الأصدقاء والتأثير على الحلفاء.

ماذا عن قوة “الصين” العسكرية ؟

ثانيًا؛ يجب على دول “المحيط الهاديء” أن تُركِّز أنظارها على قوة “الصين” العسكرية المتنامية، حيث أصبحت “الصين” قادرةً بشكلٍ متزايد على حرمان تلك الدول من الوصول البحري والجوي إلى البحار والأراضي المتنازع عليها. ولنتحدث مثلاً عن عدم اليقين الجغرافي الذي يُهيمن على: “اليابان وكوريا الجنوبية”، أبرز حلفاء “الولايات المتحدة”؛ في “آسيا”.

وسنجد أن اتخاذ تلك الدول لموقفٍ أكثر صلابة تجاه “الصين” ربما يُعرضّها للمخاطر الإستراتيجية الآن، بعد أن أصبحت “الصين” أكبر قوةٍ بحرية في العالم، وبعد أن بدأت أفضلية “الولايات المتحدة” العسكرية في التراجع نسبيًا. ويمكن وصف “الولايات المتحدة” بأنها صديقٌ عن بُعد، بينما تُعَدُّ “الصين” واقعًا جغرافيًا.

لكن مخاوف “اليابان” الأمنية لا تقتصر على زاويةٍ واحدة، كما هو حال العديد من دول “المحيط الهاديء”، إذ تتوافق سياسة “الولايات المتحدة” المتشّددة تجاه “الصين” مع مصالح “طوكيو” بدرجةٍ كبيرة، حيث ترغب الأخيرة في كبح جماح تعديات “بكين”.

وتُشير النظرة الإستراتيجية إلى أن التعديات العسكرية الصينية ستدفع القوى الأضعف في “المحيط الهاديء” إلى الانضمام لمبادرة “الولايات المتحدة” الرامية لتحقيق التوازن.

لكن دول “المحيط الهاديء” لديها ما يكفي من الأسباب للقلق بشأن مستوى الإلتزام الأميركي تجاه المنطقة، إذ تُعاني “الولايات المتحدة” أحيانًا من أجل الحفاظ على تركيزها الإستراتيجي في “آسيا”.

ودفع ذلك التقلب؛ “لي كوان يو”، رئيس الوزراء السنغافوري الأسبق، إلى انتقاد صُنّاع السياسة الأميركيين الذين احتفوا بعودة انخراطهم في شؤون “آسيا”. وحذر “لي”؛ “الولايات المتحدة”، من أنها: “لا تستطيع الغياب والحضور”، حسب أهوائها متوقعةً: “أن تترك أثرًا كبيرًا على التطور الإستراتيجي لآسيا”.

حيث وقعت: 15 دولة من منطقة “الهندي-الهاديء” على أكبر اتفاقية تجارة في العالم قبل 03 أشهر من إعلان “بايدن” أن: “أميركا قد عادت”. وجرى توقيع الاتفاقية التي حملت اسم: “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة”؛ دون مشاركةٍ من “الولايات المتحدة”، ما يُمثّل: “انقلابًا لصالح الصين”.

تشتّت “أميركا” وتحوّل أولوياتها..

لا خلاف على أن “الولايات المتحدة” قوة مهيمنة في “آسيا”، لكنها قوة مشتّتة الأفكار أيضًا، حيث أصبحت جدية القيادة وعملية صُّنع السياسة الأميركية معقدةً نتيجة إلتزاماتها المتنافسة ومصالحها الدولية.

إذ نصّبت “الولايات المتحدة” نفسها: “دولةً لا غنى عنها”، ووسعت مهمتها لتشمل السياسات الأجنبية والمحلية لغالبية دول ومناطق العالم، مما أسفر عن اهتزاز وعدم استقرار في السياسات.

كان الرئيس الأسبق؛ “باراك أوباما”، قد ركز على أهمية الانخراط الإستراتيجي مع “آسيا”، وقوبل بالترحاب لأنه جاء بعد سنوات من التجاهل. لكن “ترامب” انتقل بميول “الولايات المتحدة” القومية والانعزالية إلى مستويات متدنية جديدة عام 2016.

ويمكن الجدال بأن “الولايات المتحدة” تحّولت إلى ما هو أسوأ من: “قوة مشتّتة الأفكار” في حقبة “ترامب”، وأصبحت قوةً غير مهتمة من الأساس. لهذا يُراقب العديد من قادة “آسيا” محاولات “بايدن” اليوم بعين الشك، بينما يسعى لإلغاء الأضرار الدبلوماسية وإعادة تأكيد إلتزامات “الولايات المتحدة” الأمنية وإقناع الآخرين بالمساعدة في عرقلة صعود “الصين”.

فانتخاب “ترامب”؛ عام 2016، حطّم العديد من التوقعات المسّبقة عن ثبات الإلتزام الأميركي، كما زرع بذور الشك حول النظام السياسي للبلاد. حيث أدت استجابة “الولايات المتحدة” المختلة؛ لـ (كوفيد-19)، مع مشاهد وحشية الشرطة الصادمة، والفوضى الانتخابية إلى إثارة التساؤلات حول الكفاءة المؤسسية والنوايا الحسّنة للديمقراطية.

ولا تتعلق تلك المخاوف بعزيمة “الولايات المتحدة” وتصميّمها، بل تتعلق بقدرتها، لأن المنزل المنقسم على نفسه لن يتمكن من الوقوف في وجه “الصين”. وفي ظل الظروف الحالية، لن يكون من المنطقي إستراتيجيًا أن تُخاطر الدول الآسيوية بإغضاب جارتها من أجل دعم قوةٍ مشتّتة الأفكار، ولها سجلٌ متفاوت على صعيد الإخلاص للحلفاء. ولا شك أن الهجوم الروسي على “أوكرانيا” ساعد “الولايات المتحدة” في تحسّين صورتها داخل “أوروبا” كثيرًا، وإظهار قوتها العسكرية والاقتصادية. لكن الدول الآسيوية لا تزال تخشى إثارة الاضطرابات في باحتها الخلفية.

ويُحسّب لإدارة “بايدن” اعترافها الظاهري بالحاجة إلى تجنب التعامل بسياسة تكثيرية صفرية المجموع؛ فيما يتعلق بـ”الصين”، ولم تتبنى الإدارة عقلية: “إما معنا أو ضدنا” التي تُنفِّر الحلفاء؛ بحسب مزاعم المجلة الأميركية.

إذ قال أحدث تقرير لإستراتيجية الأمن القومي، إن الإدارة: “تُعطي الأولوية للحفاظ على أفضليتها التنافسية الدائمة على الصين، مع تقييّد روسيا التي لا تزال خطيرةً جوهريًا”.

ويبدو أن الإدارة رفضت الخلط بين مخاطر “الصين” و”روسيا” على الورق. حيث صرحت الإدارة بنيتها تقيّيد الخطر الروسي، مع التفوق على “الصين” في المنافسة ببساطة. لكن تركيز “واشنطن” منصبٌ على “بكين” بقدر “موسكو” في أرض الواقع، حتى لو كان الصراع مع “بكين” أقل حدةً في الوقت الراهن. بينما تستطيع الدول الآسيوية قراءة اللغة الصادرة عن مسؤولي “واشنطن”، بدايةً بأعضاء “مجلس الشيوخ” ووصولاً إلى عملاء “مكتب التحقيقات الفيدرالي”.

ولا مفر أمام الدول الآسيوية من واقع التنافس “الصيني-الأميركي”، لكنها لا تزال تخشى الانحياز الصريح إلى “الولايات المتحدة”، وما سيتبع ذلك من مشكلات. وليست لدى الدول الآسيوية رغبة في اعتلاء خشبة المسرح بدفعةٍ من حليف لا يُعتمد عليه. ويجب على “الولايات المتحدة” أن تبرهن على استعدادها للوفاء بإلتزاماتها ووعودها، ونيتها تركيز اهتمامها على منطقة “الهندي-الهاديء” على المدى البعيد، إذا كانت تُريد الفوز بدعم شعوب “المحيط الهاديء” والحفاظ عليه.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة