خاص: قراءة- سماح عادل
رواية “10دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب” للكاتبة التركية “أليف شفق” رواية حزينة تحكي عن العوالم السرية لاسطنبول، عن بيع الجسد والمتحولين والمهشمين سواء من أبناء البلد أو المهاجرين، عن مقبرة الغرباء، وعن السلطة القامعة، وعن اسطنبول العاصمة التركية الخادعة التي يظنها البعض رمزا لتقدم تركيا لكنها في الواقع مدينة منهكة من وطأة الفساد والظلم والتناقض ما بين الفقر والثراء.
الشخصيات..
ليلى: البطلة، سيدة تجبر على امتهان مهنة بيع الجسد، بعد أن تتعرض لاغتصاب وانتهاك حرمة جسدها من قبل عمها، وتتعرض لتخلي الأسرة عنها. تقتل وترمى في مكب القمامة وهي في عمر الأربعين بعد أن عاشت سنوات طويلة في قهر واستغلال.
نالان: امرأة متحولة جنسيا، كانت رجلا لكنها كانت تشعر طوال الوقت بوجود الأنثى داخلها، هي واحدة من خمس أصدقاء للبطلة تتناولهم الرواية. اضطرت أن تصبح قوية لكي تعيش في عالم لا يعترف بشرعية وجود المتحولين جنسيا، واضطرت أيضا إلى بيع جسدها لأنها لم تجد مهنة أخرى تستطيع العمل بها دون مضايقات أو صعوبات.
وحميرة: شابة هاربة مهاجرة، هربت من جحيم زواج فاشل، تحب الغناء وسعت إلى امتهانه لكنها أيضا سحقت مثل باقي المهشمين في اسطنبول.
وجميلة: فتاة صومالية أتت إلى تركيا بعد موت أمها وقسوة زوجة أبيها، لتعمل كخادمة منزل ظنا منها أنه عمل مربح، لكنها علقت في قبضة عصابة تعمل في الاتجار بالبشر وأجبروها على بيع جسدها وأصبحت ضعيفة مريضة.
وزينب: تعاني من مشكل القزامة. جاءت من لبنان لأنها تريد أن تسافر وتتعرف على الدنيا وكانت تقوم بأعمال هامشية تتعلق بأعمال النظافة.
سنان: الرجل الوحيد من الأصدقاء الخمس، رجل منطوي، كان صديق الطفولة للبطلة، لم يكن قادرا على إنقاذها في الماضي، وفي الحاضر اضطر إلى الزواج وعمل أسرة تقليدية مع الاحتفاظ بصداقة بعض المهمشين والمسحوقين.
هناك شخصيات ثانوية داخل الرواية مثل عائلة ليلي الأب والأم وزوجة الأب والعم الذي اغتصبها، والزوج.
الراوي..
الراوي عليم، يحكي عن الشخصيات بعمق ويرسمها بتفاصيل دقيقة حيث يستعرض ماضيها ويحكي عن حاضرها، ويتناول صراعاتها الداخلية وأفكارها ومخاوفها وأحاسيسها.
السرد..
الرواية تقع في حوالي 848 صفحة من القطع المتوسط أي رواية طويلة، تنقسم إلى ثلاثة أقسام بعناوين (العقل- الجسد- الروح) وتقصد بذلك عقل وجسد وروح “ليلى”. القسم الأول يتناول ما يدور في عقل “ليلي” بعد وفاتها مباشرة ولمدة 10 دقائق و38 ثانية، كما يشاع علميا من أن العقل يظل يعمل بعد وفاة الجسد لهذه المدة. والقسم الثاني “الجسد” يحكي عن دفن الجسد في مقبرة الغرباء والمنبوذين، وكيف يحاول أصدقاءها تحرير هذا الجسد من تلك المقبرة اللعينة، ودفن جسدها في المقبرة التي دفن فيها حبيبها وزوجها. لكن تشاء الظروف أن يتم إلقاءها في الماء لتتحرر روحها، وذلك ما يحكي عنه القسم الثالث الذي تناول تحرر روح “ليلى”، بعد أن سقطت في الماء.
العوالم السرية لاسطنبول..
يتضح من الرواية أنها تنوي الحديث عن العوالم السرية المخفية في اسطنبول عاصمة تركيا، حيث تحكي عن عالم بيع الجسد من خلال شخصية تعد نموذج لبائعة الجسد وهي “ليلى”. فتاة تم الاعتداء عليها من قبل أحد أفراد أسرتها المقربين، عمها، ورغم أنها اعترفت لأهلها بالأمر ورغم أنها الطفلة الوحيدة للأسرة، إلا أن والدها لم يدعمها وكذبها رغم ميله لتصديق روايتها. كما تخاذلت أمها الحقيقية التي أخذوها منها وهي طفلة وزوجة الأب التي ربتها كابنتها، تخاذلت الاثنتين وقرر الأب تزويجها وكان ذلك سببا في إرعابها، حيث هربت إلى اسطنبول بعد أن كانت تعيش بإحدى القرى.
وكان هربها إلى اسطنبول بداية كارثة حياتها حيث استغلها أحد الرجال وقوادة معه وباعاها إلى بيت من بيوت بيع الجسد، وبدأت حياتها كبائعة جسد حيث أجبرت جبرا على المضي في هذه المهنة الخالية من الإنسانية، ورغم استنجادها بأسرتها أكثر من مرة إلا أنهم قد تخلوا عنها زاعمين أنها لطخت سمعتهم، وخاصة والدها الذي بدا كشخصية مضطربة منذ زمن طويل.
تنجر “ليلى” لعالم بيع الجسد ولا تستطيع الفكاك منه إلى أن تأتي لحظة إنقاذها من قبل رجل يساري مثقف ومتنور، هو “دكتور علي” الذي يتزوجها ويدفع أموالا كثيرة للسيدة التي تعمل لديها.
لكن أهم ما يميز الرواية أنها نقلت تفاصيل دقيقة عن عالم بيع الجسد في اسطنبول، حيث يدار الأمر في بيوت تحتجز النساء أو تجبرهن بشكل أو بآخر على المهنة، وهناك فئة تعمل بإرادتها لأنها فقيرة ولا حيلة لها، وتستحصل القوادة أو صاحبة المنزل على معظم الأموال في حين تعطي للعاملة أجر ضئيل بالكاد يكفيها للعيش لتظل تدور في دائرة الفقر والتبعية. مما يجعلنا نتسائل عن مهنة بيع الجسد وهل هي مباحة ومشرعة في تركيا.
تلك النساء يفقدن صلاتهن بأسرهن لأنهن موصومات اجتماعيا ويفقدن الدعم بكافة أشكاله، ليصبحن تحت رحمة القوادين والزبائن الذين يستغلونهن ويعتدون عليهم ويؤذونهن جسديا ونفسيا .
كما رصدت الرواية نماذج للمهمشات من متحولات جنسيا ومغنيات في بارات فقيرة ومهاجرات إفريقيات إجبرن على الاتجار بجسدهن،
لتكشف مدى فساد اسطنبول التي تبدو من الخارج براقة ولامعة، لكن بالدخول إلى أزقتها وشوارعها الفقيرة وأحياءها المهشمة نكتشف الكثير من تناقضات المجتمع الرأسمالي، الذي يسمح بالاتجار بالبشر واستغلالهم وبيعهم.
مقبرة الغرباء..
تحكي الرواية أيضا عن تلك المقبرة التي يدفن فيها الغرباء أو الذين لا يريدهم أحد ولا تبحث عنهم أسرهم، المنبوذين من الأتراك والفقراء والمهاجرين الذي تقطعت بهم السبل، لكن أصدقاء “ليلى” لا يرضون بأن تدفن كغريبة ومهملة، فيفكرون في دفنها بجوار حبيبها “د. علي” الذي مات في أحداث ثورية، لكن تشاء الصدف أن تلقى في البحر كما تمنت وعبرت عن ذلك من قبل.
اسطنبول..
تهتم الكاتبة كعادتها بالأماكن ويتمحور اهتمامها بالعاصمة اسطنبول، كما حدث في روايات سابقة لها، فيتضح لدى القارئ كيف تحتل اسطنبول مكانة ما داخل نفس وقلب الكاتبة، فهي تكتب عن تناقضاتها بإحساس عال كمن ينتمي لمكان روحيا لكنه لا يقبله على مستوى العقل، وتكشف الكاتبة عن تلك التناقضات التي تعاني منها العاصمة حيث يتجاور الفقر والغنى، يعيش المهمشون والمسحوقون جنبا إلى جنب مع الأغنياء وأصحاب النفوذ . تنتقد القضاء وإجراءات التقاضي البطيئة، وازدحام الشوارع وقمع السلطات التي تقتل بدماء باردة المتظاهرين وتتعامى عن أحوال الفقراء، وتحتفي بمقدم الجنود الأمريكيين وتسعى إلى الانضمام إلى أوربا. اسطنبول التي تعج بالفساد والفقر والاستغلال هي التي تكتب عنها “أليف شفق”.
قهر النساء..
يتضح من الرواية مدى القهر الذي يقع على النساء في تركيا، ليس فقط ما يحدث لبائعات الجنس والمتحولات جنسيا والفقيرات من المغنيات والخادمات، وإنما حتى ربات البيوت والمتزوجات بشكل شرعي وقانوني. هن أيضا عرضة للقهر والسحق من قبل المجتمع، فأم “ليلى” قهرت لأنها تنتمي لعائلة فقيرة، زوجها والدها لفقره وكأنه باعها لزوجها الذي بدوره أمعن في قهرها، حتى أنه أخذ رضيعتها منها ليعطيها لزوجته الأكبر سنا وشاهدها وهي تعاني من المرض العقلي دون أن يفعل شيئا، وكانت “أم ليلى” نموذج لسيدات كثيرات يقهرن في إطار الزواج الشرعي والمعترف به اجتماعيا.
حتى المرأة التي تعيش وتعمل دون إطار الزواج بسبب موت زوجها، مثل “أم سنان” يتم التعامل معها بشكل سيء أيضا. في كل الأحوال تعامل المرأة بشكل سيئ خاصة داخل الطبقات الفقيرة التي اهتمت الكاتبة في هذه الرواية برصد حياتهم.
المساندة..
كما صورت الكاتبة كيف يساند المهمشون بعضهم البعض، حيث “ليلى” وأصدقاءها الخمسة يشكلون دائرة قوة في مواجهة سلطة القهر التي تسحقهم، يقوون ويدعمون بعضهم البعض ليستطيعوا أن يعيشوا هذه الحياة البائسة.
اليسار.
من خلال “د.علي” حكت الرواية عن اليسار والمتظاهرين والمتمردين منهم، وكيف أن السلطة تواجههم بقمع شديد، رغم ادعائها تمسكها بالديمقراطية لتكون جزء من أوربا. ومن الداخل تحكي عن انقسامهم لفرق بحسب ايدلويات غربية مستوردة تقسم صفوفهم، كما حكت عن القوى الأخرى التي تدعي مناهضة السلطة لكنها تتمتع برجعي وتخلف وتحارب التيارات الأخرى بقسوة وضراوة.