24 ديسمبر، 2024 2:13 ص

قصة قصيرة
كنت وحدي جالساً أمام الطاولة التي تطل على النهر ، تحت ضوء سلسلة من المصابيح الملونة وقد أعدّت لمناسبة وطنية  . كان المكان يتحول بين الفينة والأخرى إلى بؤرة لألوان الطيف . هكذا أمضيت الجلوسً بانتظارها مصوبا نظري تارة الى صاحب المكان وقد استولى على قسمات وجهه المستدير شيء قريب من الحزن أو نفاد الصبر وتارة أخرى الى المكان المكون من غرفة من الطابوق تطل على باحة مستطيلة موازية لمجرى النهر تنتشر عليها كراس ٍومناضد متفرقة, ثم أجيل نظرى محدقآ في سطح النهر والسماء  وقد امتلأت بالسحب الخفيفة تارة وأعود إلى وجه صاحب المكان الذي بدا لي أكثر حزناً تارة أخرى دون أن أدرك  السبب في ذلك أوالوقت الذي أمضيته ، بل ودون أن أفكر بالفتاة التي انتظرها وأسباب تأخرها عن  الموعد . لكني أحسست أن شيئا اعتصرني أو أنني جاهدت للخروج من شيء لم أدركه .
    مرت عشرون دقيقة على شفق المغرب وأنا في غمرة الالتياع بينما راحت نسائم الريح الباردة تدخل عبر نوافذ الكازينو مع رائحة شجيرات الآس ، فشعرت للمرة الأولى بالغبطة . تناولت ماء بارداً غارزا ً عيني ثانية في وجه الرجل , وبقيت في صمت مطبق بينما راح الرجل يفرك عينيه ووجهه متجهآً نحوي كأنه يريد أن يقول لي شيئاً . سحب احد الكراسي وجلس منهكاً من دون أن يأتي بأي حركة . بعد هنيهة قلت له عافاك الله.. ما بك يا أبا جمال ؟! رفع الرجل رأسه الذي تعلوه عينان شاحبتان خاليتان من أي بريق على الرغم من الأضواء المتألقة داخل الكازينو  و قال : أبدآ.. لاشيء  , ثم راح يلاطف الوافدين بتحيات المجاملة.
      بدأ التوتر يخف، فبدت يداه هادئتين وهو يتمتم بشيء كأنه يريد أن يشرع بالكلام وعيناه تحملقان بقدح الشاي البارد . مضت لحظات وكأن الوقت لم يحن بعد , ثم أستدار نحوي وهو  يضحك قائلآ :  نعم .. نعم  . ثم صّفق بيديه وفجأة صاح بصوت عال : آه.. آه  وكأنه لا يملك ايّ وسيلة ليعبّر بها عن خلجات نفسه ثم نظر حوله ، لا شيء يبدو له مثيراً للانتباه ، بعد ذلك هزّ رأسه ربما لفكرة كانت تشغله ، ثم اسند رأسه براحة يده اليمنى ، ثم عاد ليصفق بيديه ، ثم كوّر قبضته وضرب الطاولة بها صارخآً بصوت يشوبه التعب : أستاذ ؟! هل لك أن تخبرني ما الذي يطوف بخيالك ؟! وهل جئت هنا لتنام  ؟ أم لشيء آخر ؟ ! . ثم راح ينظر اليّ بطريقة مضحكة .
      تصاعد في وجهي الدم فشعرت وكأنه قريب من النار . قلت له بشيء من الذهول :  يبدو أن جنونا ً ينتابك ،  واحذر هذا الهذيان فأنا لا أطلق رصاصاً فارغاً . فأن عدت لمثل ما تقول فسأبرح المكان ولن أرتاده ما حييت ، فنهض كالمسمار أمامي  وقال بخجل : يؤسفني أنك لم تكن مثل ذلك الشاب الذي شد قوسه وأطلق سهمه في الحلقات ألاثنتي عشرة ليفوز بفتاتك .
        أحسست بموجة من التشنجات وتقلصات بغيضة في وجهي وأنا اسمع حديث هذا الماجن الفوضوي على الرغم من وقع أقدام الموج المتهادي على الساحل الصخري الذي بدا يجذبني نحو النافذة وكأن امرأة عجوزآ تمد يدها نحوي , فجف فمي وكأن شفتّي التوتا بشكل شوّه سحنتي وأنا أحاول تحاشيها ثم  راحت تسحب  من جنبها شيئاً ما يشبه السكين .  استعرضت عيناها هيأتي من دون ان تتفوه بكلمة ثم عادت تخطوا خارج الممر . آه أنها السيدة ” حلوه ” ثانية , جذور اضطرابي  التي اعتادت أمي أن تخيفني بحقنتها فصارت تطأ ذهني كلما أفكر بفتاة . فلم أصرخ خشية ان يعتبرني الجالسون أنني مجنون .  بينما راح ابو جمال يراقبني من دون أي تأثير إلا من زفرة حبيسة أطلقها وهو يقول : أجبني ؟ ! ثم أشاح بوجهه عني , ثم عاد ليقول : أى باب فتحته في ذهنك ومتى تبلغ نهايتك !ولكن لا فائدة منك  , أما  فتاتك , فيا لها من آثمة .. لقد تقهقرت حينما قال لها ذلك الشاب الآخر بسخرية بأنك تؤثر النوم تحت ضوء القناديل الملونة وحفيف أشجار التين والنسائم الباردة على مقابلتها . ثم أطلق ضحكاته الخافتة دون اكتراث وغادرا الكازينو قبل رؤية الغروب .
      رمقته بنظرة مندهشآ لم يقول وقد انكمش لساني في فزع وقلت له وانا ارتجف : أحقاً ما تقول ؟! أرأيتها ؟! أم أنك تنسج واقعآ خياليآ ؟  التفت إليّ مبتسماً : اجل أن الوردة النضرة تهزها الرياح فتسقط  , ثم استدرك ليسألني : أتعرف ذلك الشاب الذي دخل الكازينو بعدك في غضون دقائق  حاملاً كتباً دالة على تعليم عال ؟!  كلا طبعا ً. قلت بصوت مخنوق . فأجاب معلقا ًبسخرية لاذعة : لأنك كنت لحظتئذ ٍ نائماً بلا حراك ورأسك على الطاولة مطعونا بحراب الأحلام . 
      هززت رأسي لنظراته وكلماته وقد انطفأت في عيني أضواء المصابيح وصارت كالرماد . ربما , لا أتذكر شيئاً مما يقول . حدثت نفسي . شعرت وكأنني تائه تعتريني نار الكراهية لذلك المخلوق المتسلل الذي لا اعرفه ، بل ولم أره . تطّلع أبو جمال بوجهي  يقلبه يمينا ً وشمالاً ليرى صدى كلامه الذي طال عظامي بعد أن نهش جسدي كما تفعل ديدان القراد ثم تابع يقول : يدهشني أن أرى وجهاً يتدفق بالعواطف العميقة والصمت  في آن واحد  بعكس ما رأيته في وجه ذلك الشاب ذي الابتسامة الباردة المتثائبة ورباطة الجأش تحت شاربه الخفيف  , لكنه ، والحق يقال ، استطاع أن يطلق طيوره البيضاء لتؤوي تحت ظلال  أشجار بستانها المفتوح ، فلم تقاوم كلماته وعالمه في حضرة حالم مهجور غائب عن الوعي وقد داسته لحظات الانتظار، فكانت وحيدة إلى جواره  ونظراتها الشابة مصوبة نحوه . أهذا أنا الذي تتكلم عنه . تساءلت ؟ نعم أنت  الذي تندلق في رأسك الأحلام بوضح النهار وتأكل جسمك المنهك أضواء المصابيح كما تأكل الأسماك عجلاً غارقاً . رد علي الرجل , ثم  نهض برفق مبتعداً دون أن يضيف كلمة أخرى.
      تنبهت لما حولي فلم أجد أحداً من الجالسين مهتمآ لما يجري، ثم نظرت إليه وهو يعود إلى مكانه كأنه فرغ تواً من إلقاء محاضرة في فن التوبيخ ، ولديه الكثير ليفعله . فتركني لمشاعري وحدي رغم أنها كانت موضع الألم . هل هذا موقفآ معاديآ ؟ أم ماذا ؟ تساءلت مع نفسي بصمت . من يغفر لي غبائي.. وهل سأبتسم ثانية وانتظر قادمة أخرى ؟ أم سأتحدث عن الخنجر المغمد في قلبي والدم المتدفق بلا ثمن وأتغنى بالبكاء ؟!
    توجهت نحوه  وقلت له وأنا في جو خانق من الخوف : أرأيت المرأة التي خطت خارج الممر بعد أن أستعرضت بعينيها هيأتي   ؟! كلا , لم أر خطيئتك التي تلاحقك أو شيئآ من خيالك  . أجاب بسخرية  . وعدت ثانية أحدثه : ألا تعتقد أنني كنت أتصرف كمريض وأن ماهيتي لا تعكس غير ذلك ؟! لنعترف أننا لا نستطيع أبداً أن نمتلك اليقين كاملاً مما يجعل قرارنا الذي نطلقه صحيحاً . فالحياة كما ترى مغامرة مليئة بالمفاجئات وكذلك بالنزوات وما علينا سوى التصرف بطريقة تبدو الأصوب في وقتها تاركين نتائجها بيد القدر .
    استدار ثم نظر إليّ قائلا ً: وماذا تقصد ؟! نظرت إليه متتبعا حركاته بصمت لاهث وأوجاع كلماته القاسية لم تزل ترعبني وقلت : هل أنت متيقن أنك رأيت ماحكيته لي وأنك لم تر المرأةالعجوز وان طريقة كلامك حاسمة ؟! وهل أنت متأكد من انك غير مخطئ في إصدار أحكامك ؟!
     لم يرد عليّ بحرف واحد فشعرت بأنني لا أثير انتباهه وان كلماتي تتطاير من دون أن تجد مأوى لها في أذنيه ، ربما لأنني كنت أقوم بدور إبلاغ النصائح في وقت ضائع ، أو لأن نبرات صوتي كانت غير واثقة مما أقول .  وفجأة نهض كالحلزون قائلا ًبسخرية : ها أنت ألان في تمام الثقة بعد أن فقدتها بنفسك عندما كنت نائماً . ترى هل كانت لديك أدنى فكرة عما حدث ؟! فأنا لم أضع هذه الزينة الكهربائية من أجلك ، بل لغدٍ أظنه خليق بذكرى عزيزة أصلحت بناءً سيئاً، أم أراك تخفي عني شيئاً ؟! أو انك ترى وجهي جيداً دون أن ترى وجهك أيها المتمرس بالاحلام في النوم والأسئلة في اليقظة    !!
     زادت أصوات الأمواج اضطرابا ً فأحسست وكأنني في غفوة وتراءى لي كأن المرأة العجوز تتقدم نحوي من الممر نفسه ثانية رافعة رأسها ويدها في جنبها فنهضت أصرخ : لم أفعل لك شيئآ , أتركيني ! تجمد الجالسون في أماكنهم وهم ينظرون بذهول فتقدم احد الجالسين قائلآ: أسمع ياصديقي سأبيح لنفسي القول أنني رأيت الشابة في اللحظة الوحيدة التي سنحت لي برؤيتها  وهي تضع قرصآ في قدح الشاي وبعدها انعزلت كليآ عن العالم . ثم تابع يقول : فبان الارتياح على ملامحها وهي تنظر من خلل زجاج الكازينو الى السماء , ثم أخذت نفسآ عميقآ حتى أقبل عليها الفتى , فلم يجلس سوى لحظات ليقول لها : علينا النهوض خشية أنتهاء مفعول القرص .  وقف أبو جمال مسمّرآ لبرهة وهو ينظر الى الشاب بملامح مختلفة , ثم خطى بأتجاه منضدته كأنه لايرغب في المزيد من الكلام . أما أنا , فقد تابعت بنظراتي أبو جمال الذي أنطلق بخياله ولم يابه بأنفعالاتي  , فلم أجد غير البقاء جالساً ورأسي فوق الطاولة كأنني مستلق فوق المويجات مثل حطام قارب , ارتعش خوفاً وبرداً .