من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية هذا الذي كان بين فرعون وملئه، والمؤمنين من السحرة السابقين، ذاك الموقف الذي وقف الذين آمنوا من السحرة بعدما رأوا آيات الله التي أجراها الله على يد موسى عليه السلام، وصبروا أمام تهديدات فرعون من تهديدهم بالقتل والصلب إنه موقف حاسم في تاريخ البشرية بانتصار العقيدة على الحياة، وانتصار العزيمة على الألم وانتصار “الإنسان” على “الشيطان”، إنه ميلاد حاسم في تاريخ البشرية، بإعلان ميلاد الحرية الحقيقية، فما الحرية إلا الاستعلاء بالعقيدة على جبروت المتجبرين وطغيان الطغاة، فالاستهانة بالقوة المادية التي تملك أن تتسلط على الأجسام والرقاب، وتعجز عن استذلال القلوب والأرواح.
قال الله تعالى عن السحرة بعد ما رأوا الآيات المبهرة– وهي العصا- التي بها تحولوا من عتاة سحرة إلى مقربين بررة:{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)} [الأعراف: 120 – 122]
أي: ولم يتمالك السحرة أنفسهم بعد أن رأوا عظيم قدرة الله عزّ وجل وعرفوا صدق موسى عليه السلام، فسقطوا على وجوههم ساجدين لربهم، فالسحرة لم يتأخروا عن السجود، حتى كأنهم خرّوا من غير اختيار، فعبّر بقوله: ﴿وَأُلْقِيَ﴾ كأن إنساناً أمسكهم وألقاهم ساجدين بالقوة، لقوة البرهان الذي رأوا به الحق.
أي: قال السحرة: آمنّا بخالق ومالك ومدبر كل شيء، فلا نعبد غيره.
لما ذكروا أنهم آمنوا برب العالمين، خصّوا من هداهم الله على أيديهما تصريحاً بالمراد وتشريفاً لهما فقالوا: ﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ أي: ربنا الذي آمنا به هو رب الرسولين الكريمين موسى وهارون اللذين أيدهما بهذه المعجزة العظيمة الدّالة على صدقهما. [التفسير المحرر، ٦/٤٤٨].
قال تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (١٢٦)﴾ ]الأعراف:١٢٣-١٢٦[.
أي: قال فرعون للسحرة لمّا أعلنوا إيمانهم بالله عزّ وجل: آمنتم بموسى قبل أن أمنحكم الإذن بذلك؟، فهذا سوء أدب منكم وتجرؤ عليّ، كما قال تعالى: ﴿قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ ]طه:٧١[.
قال ابن كثير: يخبر تعالى عما توعّد به فرعون -لعنه الله- السحرة لما آمنوا بموسى وما أظهره للناس من كيده ومكره وفي قوله: ﴿إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا﴾؛ أي: إن غَلَبَهُ لكم في يومكم هذا إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك
ث. ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ الوعيد مبهم، وهذا النوع من الوعيد أبلغ من الإفصاح بقَدْرِه على أنه قد قرن إليه بيانه وهو ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ﴾ الآية، فنطق القرآن بحكاية التعريض بالوعيد والإفصاح بالتهديد معاً، وأما اختصاص سورة الشعراء بقوله: ﴿فَلَسَوْفَ﴾ وزيادة اللام فلتقريب ما خوّفهم به من اطّلاعهم عليه، وقربه منهم حتى كأنه في الحال موجود إذ اللام للحال فالجميع بينهما وبين “سوف” التي للاستقبال إنما هو لتحقيق الفعل وإدنائه من الوقوع، وقد بيّنا أن سورة الشعراء أكثر اقتصاصاً لأحوال موسى عليه السلام في بعثه وابتداء أمره وانتهاء حاله مع عدوّه، فجمعت لفظ الوعيد المبهم مع اللفظ المقرّب له، المحقق وقوعه، إلى اللفظ المفصح بمعناه، ثم وقع الاقتصار في السورة التي لم يُقصد فيها من اقتصاص الحال ما قُصد في سورة الشعراء على ذكر بعض ما هو في موضع التفصيل والشرح، وهو التعريض بالوعيد مع الإفصاح به.
قال تعالى: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ ]الأعراف:١٢٤[.
فسّر فرعون هذا الوعيد ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ بقوله: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ﴾ يعني: يقطع يد الرجل اليمنى ورجله اليسرى أو بالعكس ﴿ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾، وقال في الآية الأخرى: ﴿فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ ]طه:٧١[ أي: على جذوع النخل.
قال ابن عباس: وكان أول من صلب، وأول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف فرعون. [تفسير ابن كثير، ٣/٤٥٩].
وفي قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ فيه مناسبة حسنة حيث قال الله تعالى هنا في سورة الأعراف: ﴿ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾، وقال في سورتي طه والشعراء: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ﴾ ]طه:٧١[ و ]الشعراء:٤٩[، فاختصت ما في سورة الأعراف بـ ﴿ثُمَّ﴾ والأخريين بالواو والمتوعد به واحد في الموضعين فإن السورتين اللتين اختصَّتا بالواو هما المبنيتان على الاقتصاص الأكثر والتفصيل الأوسع، والواو أشبه بهذا المعنى؛لأنه يجوز أن يكون ما بعدها ملاصقاً لما قبلها، كالتعقيب الذي يُقاد بالفاء، ويجوز أن يكون متراخياً عنه، كالمهلة التي تقاد بـ ﴿ثُمَّ﴾، لا بل يجوز أن يكون ما بعدها مقدماً على ما قبلها ومُجامعاً لها، إذ هي موضوعة للجمع، ولا ترتيب فيها، فكانت الواو أشبه بهذين المكانين و﴿ثُمَّ﴾ تختص بأحد المواضع التي تصلح الواو لجميعها فلما كانت مقتصراً بها على بعض ما وُضعت له الواو، استعملت حيث اختصرت الحال، فاقترن بكل مكان ما يليق بالمقصود فيه. [درة التنزيل وغرة التأويل للإسكافي، ٢/٦٧٨-٦٧٩].
قال تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ﴾ ]الأعراف:١٢٥[.
إقرار منهم بالبعث، وهو ثقة بالوعد وهو تخويف لفرعون: إنّا وإيّاكمنقلبون إلى جزاء الله، فيثيبنا على إيماننا، ويعاقبك على صنيعك بنا.[التيسير في التفسير، نجم الدين عمر بن محمد بن أحمد النسفي، ٦/٤٧٠].
وفي الآية مناسبة حسنة حيث قال الله تعالى هنا في سورة الأعراف: ﴿قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ﴾، وقال في سورة الشعراء: ﴿قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ﴾ ]الشعراء:٥٠[ بزيادة قوله: ﴿لَا ضَيْرَ﴾ على ما ذكر في سورة الأعراف، وذلك لأنَّ السحرة قابلوا وعيد فرعون بما يهوّله، ويزيل ألمه من انتقالهم إلى ثواب ربهم، مع التحقق من مُنقلب معذبهم فرعون، فجاء في سورة الشعراء -وهي التي قصد بها الاقتصاص الأكبر-: ﴿لَا ضَيْرَ﴾ ]الشعراء:٥٠[؛ أي: لا ضرر علينا، فإن منقلبنا إلى جزاء ربنا، فننعم أبداً وتُعذّب أنت أبداً، فالضرر الذي تحاول إنزاله بنا، بك نازل وعليك مقيم، ونحن نألم ساعة لا يعتد بها مع دوام النعيم بعدها، وفي سورة الأعراف وقع الاقتصار على قوله: ﴿إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ﴾ وفيه كفاية وإبانة عن هذا المعنى، ودلالة على ما قُصد فيها مما بُيّن وشرح في سواها. [التفسير المحرر للقرآن الكريم، ٦/٤٥٨].
وقيل إن قوله: ﴿لَا ضَيْرَ﴾ ]الشعراء:٥٠[ مُقابل به ما تقدّم من قوله: ﴿وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ﴾ ]الشعراء:٤٤[ لما اعتقدوا أولاً أن له عزة ونسبوها إليه، فظنوا أنه يقدر على ما يريده، ويستبد بفعله، ثم لمّا وضح لهم الحق ورجعوا عن اعتقادهم وعلموا أن القدرة والعزة لله سبحانه، وسلّموا لخالقهم، ولم يبالوا بفرعون وملئه فقالوا: ﴿لَا ضَيْرَ﴾ أي: لا ضرر، ولا خوف من فرعون إذ العزة لله وحده، ولمّا لم يقع من قولهم في الأعراف أولاً مثل الواقع هنا، لم يجيئوا في الجواب ما جاؤوا هنا، فافترق الموضعان، وجاء كل على ما يناسبه. [ملاك التأويل، لأبي جعفر الغرناطي، ١/٢٢١-٢٢٢].
قال تعالى: ﴿وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾ ]الأعراف:١٢٦[.
ونلاحظ أن السحرة كذبوا كلام فرعون من غير أن يقولوا له كذبت، وأنه لا مكر ولا خروج من المدينة كما يزعم، وإنما حدثوا عن الحقيقة التي وجدوها في نفوسهم، وهي إيمانهم بآيات الله لما جاءتهم، وأن هذا هو سبب انتقامك منا وليس ما تدعيه، وساقوا هذا في لغة القصر بالنفي والاستثناء، وأنه لا جهل أجهل من الذي ينتقم من الذين آمنوا بالحق لما جاءهم، ثم صرفوا الكلام عن فرعون والناس، وتوجهت قلوبهم إلى الذين آمنوا بآياته لما جاءتهم، ولم يجدوا لهم ملاذاً إلا هو، ولم يستعدوه على فرعون، ولم يطلبوا أن يكف عنهم يد فرعون وكأنهم قبلوا العذاب في سبيل اختيارهم للإيمان بالآيات لما جاءتهم وطلبوا من الله أن يفرغ عليهم صبراً، لأنهم يعلمون سوء إجرام فرعون وشراسته وأنه لا يجمل بين جنبيه ذرة من الروح الإنسانية وأن الحل هو أن يفرغ ربهم عليهم صبراً، لم يقولوا اللهم ارزقنا الصبر، وإنما قالوا: أفرغ علينا من سجال الصبر، حتى كأنه يُصب علينا صبّاً حتى نتحمل عذاب هذا الآثم الباغي الطاغي، ثم ارزقنا الثبات ونحن في هذه المحنة؛ حتى لا يتسرب إلينا جزع، وأمنيتنا أن تتوفانا مسلمين، وهذا هو الكلان الذي يضع النفوس الكريمة وضعه بإزاء كلام فرعون الذي يملأ النفوس خبثاً. [من حديث يوسف وموسى، ص٥٣١].
قال ابن عاشور: والقرآن لم يتعرض هنا لا في سورة الشعراء ولا في سورة طه للإخبار عن وقوع ما توعدهم به فرعون، لأن غرض القصص القرآني هو الاعتبار بمحل العبرة، وهو تأييد الله موسى وهداية السحرة، وتصلُّبهم في إيمانهم بعد تعرضهم للوعيد بنفوس مطمئنة،وليس من غرض القرآن معرفة الحوادث، كما قال في سورة “النازعات”: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى﴾ ]النازعات:٢٦[، فاختلاف المفسرين في البحث عن تحقيق وعيد فرعون زيادة في تفسير الآية.
وهنا نرى صول الحق في الضمائر، ونور الحق في المساعر ولمسة الحق للقلوب المهيَّأة لتلقِّي الحقِّ والنور واليقين، إن السحرة هم أعلم الناس بحقيقة فنّهم ومدى ما يمكنه أن يبلغ إليه، وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى إن كان من السحر والبشر، أو من القدرة التي وراء مقدور البشر والسحر، والعالم في فنه هو أكثر الناس استعداداً للتسليم بالحقيقة فيه حين تتكشف له؛ لأنه أقرب إدراكاً لهذه الحقيقة، ممن لا يعرفون في هذا الفن إلا القشور، ومن هنا تحول السحرة من التحدي السافر إلى التسليم المطلق الذي يجدون برهانه في أنفسهم عن يقين. [في ظلال القرآن، ٣/١٣٥٠].
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” موسى – u– كليم الله”، للدكتور علي محمد الصلابي.
المراجع: