18 نوفمبر، 2024 2:50 ص
Search
Close this search box.

إلفريدي يلينيك.. تفضل الابتعاد لكي ترى كل شيء من مسافة مطمئنة ودقيقة

إلفريدي يلينيك.. تفضل الابتعاد لكي ترى كل شيء من مسافة مطمئنة ودقيقة

 

خاص: إعداد- سماح عادل

“إلفريدي يلينيك” هي روائية نمساوية.

حياتها..

“إلفريدي يلينيك” أو “إلفريدي يلينيكوفا” ولدت في “مورزوشلاغ” بالقرب من “غراتس” عاصمة ولاية “ستيريا” في جنوب شرق النمسا يوم 20 أكتوبر 1946 لأب يهودي تشيكي ناجٍ من معسكر “أوشفيتز بيركينو” الألماني النازي وأم كاثوليكية ألمانية. حصلت على تعليم ديني في المدرسة الكاثوليكية، وبدأت في العام 1960 دراستها الموسيقية فتعلمت العزف على عدة آلات موسيقية: الأورغن، كالمزمار والإيتار والكمان وغيرها، ومن ثم واصلت دراستها في التأليف الموسيقي في معهد فيينا للموسيقى.

هي ثمرة تهجين ثقافي وديني، بين أم نمسوية كاثوليكية ذات أصول سلافية رومانية، تنتمي إلى عائلة بورجوازية من فيينا، وأب هو عالم كيمياء يهودي من عائلة تشيكية فقيرة ولكن مثقفة. علاقتها بأمها المتسلطة والمتملكة كانت مأسوية ومدمّرة، وقد وصفت الكاتبة هذه العلاقة في “عازفة البيانو” الذي حُوِّل فيلما. كانت والدتها مصممة على أن تجعل ابنتها عبقرية من عباقرة الموسيقى، فمارست عليها ضغوطا مرعبة وأجبرتها منذ السابعة من العمر على متابعة دروس في البيانو والكمان، وذلك بلا هوادة حتى السادسة عشرة. أخيرا أدركت يلينيك سقف احتمالها ومرت في أزمة نفسية خطيرة ثارت من بعدها على تسلط هذه الأم الساحقة واتجهت نحو اللغة. “اخترتُ الكتابة لأنها الشيء الوحيد الذي لم تحرضني والدتي عليه”، تقول. أما والدها فقد مات مجنونا في أحد المصحات العقلية.

ودرست كذلك تاريخ الفن وعلم المسرح إلى جانب دراساتها الموسيقية، ففي عام 1967 بدأت بنشر أعمالها الإبداعية التي أبرزتها ككاتبة وفي عام 1974 انتمت الكاتبة إلى الحزب الشيوعي النمساوي ولكنها خرجت منه عام 1991، وفي سنة 2004 منحت جائزة نوبل للآداب «لأن جريان موسيقاها يتوالف من تيار الأصوات الموسيقية والأصوات المضادة في رواياتها وأعمالها الدرامية مع الحماس اللغوي غير المألوف الذي يميز نتاجها الأدبي، الذي يكشف اللامعقول في الكليشيهات الاجتماعية وقوتها المستعبدة» كما وصفت الأكاديمية السويدية أعمالها. تتحدث روايتها عن المرأة ووضعيتها في المجتمع النمساوي وتوصف ككاتبة مدافعة عن حرية المرأة.

عندما منحت جائزة نوبل استقال أحد أعضاء الأكاديمية، محتجاً على منحها الجائزة وذلك «لأن لغتها الأدبية بسيطة، ونصوصها كتل كلامية محشوة، لا أثر لبنية فنية فيها، نصوصٌ خالية من الأفكار، لكنها مليئة بالكليشيهات والخلاعة».

الكتابة..

بدأت “يلينيك” بكتابة الشعر ثم اتجهت إلى الرواية فالنص المسرحي، ولكن لم يزل من الصعب تحديد طبيعة نصوصها، إذ تراوح هذه بين الشعر والقصّة، وتحتوي في شكل شبه دائم على مشاهد مسرحية. بدأت شهرتها مع روايتها “العاشقات” عام 1975، تبعتها “المستبعدون” عام 1980، ثم “عازفة البيانو” عام 1983 وهي رواية “مزعجة” و”فضائحية” عن علاقتها بأمّها. أما روايتها التالية الشهيرة “شبق” الصادرة عام 1989 فلا تقل فضائحية عن السابقة، إذ اتُهمت “يلينيك” بسببها بالبورنوغرافية الرخيصة. هذا العمل وضعها في مصاف جورج باتاي، وحاولت فيه قلب معادلة السلطة بين الرجل والمرأة واختراع حس أنثوي بالفحش.

أما “أبناء الموتى” الذي صدر عام 1995، فرواية استعارة تنبش فيها التاريخ النازي لبلادها التي ترزح تحت ثقل ماضيها المدفون. “أنا لا أريد أن أعاقب أحدا”، تقول عن هذا العمل، “بل أن أكون قادرة على قول ما حصل بحرية”. بسبب انتهاكها عددا كبيرا من المحرمات السياسية والجنسية، جُرجر اسم “الفريدى يلينيك” في الوحول، وقد شن اليمين المتطرف عند وصوله إلى الحكم في النمسا حملة شعواء ضدها.

طبعت “يلينيك” آداب اللغة الألمانية ومسرحها في أواخر القرن العشرين أكثر من أي كاتب آخر، إذ نجحت في نحت لغة خاصة بها، تستخدمها كسلاح ضد شوائب المجتمعات الحديثة وعيوبها، وخصوصا ضد سوء استغلال السلطة وكره الاختلاف والتقاليد المستبدة والنزعة إلى التدمير الذاتي: لغة متطرفة ومهشّمة وعنيفة هي بمثابة مونتاج السني يعكس عوالمها السوداوية والغريبة. وقد اتجهت خلال الأعوام الأخيرة نحو كتابة المسرحيات حصرا، التي تعرض في أهم المسارح على غرار الـ”بورغ تياتر” في فيينا، وإن بإيقاع غير كثيف. أما ابرز أعمالها المسرحية فنذكر منها “عندما هجرت نورا زوجها” و”كلارا س.” و”مرض أو نساء عصريات” و”رغبة وإجازة سير” و”في بلاد السحاب”. وتقف “يلينيك” في فلك الآداب النمساوية في محاذاة كبار من أمثال “كارل كراوس وتوماس برنارد وبيتر هاندكه”، وهي مثلهم اتهمت بالخائنة وتلقت تهديدات خطيرة من جهات مختلفة، كونها تذكّر بحقائق يفضل أبناء بلدها نسيانها.

من أعمالها..

  • «المهمّشون» صدرت في 1980.
  • «معلمة البيانو» صدرت العام 1983.
  • «رغبة» في العام صدرت سنة 1989.
  • «هؤلاء يقتلون الأطفال» صدرت عام 1995.
  • «وصلة رياضة» صدرت عام 1998.
  • «الممنوعون».

الفاشية اليسارية..

في حوار معها تحكي من حاورتها عن كيفية إجراء الحوار معها: “تلك امرأةٌ وكاتبةٌ سأعشق مجادلتها، فكّرت، وكلما قرأتُ لها ازدادت لهفتي اضطراماً. كنتُ في الواقع مدركة أن تحقيق حوار مماثل لن يكون مستحيلا، إذ أتيحت لي في فرانكفورت فرصة التعرّف إلى ناشرها دلف شميث، الذي تحتضن داره الألمانية (“برلين فيرلاغ”) كتبها. طبعاً، لم تبدُ الأمور شديدة السهولة في البداية، إذ أوضح لي شميت بنبرة قاطعة أن يلينيك شخصية انعزالية، وأنه لن يكون يسيراً اللقاءُ بها، خصوصا بعد النوبل وتهافت الوسائل الإعلامية عليها، مما زاد من ميلها إلى “الانكماش”. آنذاك اقترحتُ على الناشر طريقة أخرى: “هل تستخدم يلينيك الإنترنت؟”، سألته. “طبعا، هي تكاد لا تفارق كومبيوترها. ولها موقع تعلّق من منبره على كل المسائل الراهنة”.

قلت “إذا لنجر الحوار كتابةً. أسألها، ثم أعقّب على جوابها” اقترح شميت الفكرة على يلينيك، فوافقت. أرسلتُ إليها في البدء، بواسطته، مجموعة من الأسئلة-المحاور لكي استنبط منها ردودا تمنح الحديث حيويته وعصبه. لكن الكاتبة تأخرت في الرد. أبديتُ لشميت قلقي فأكّد: “عندما تعطي يلينيك كلمتها، لا تتراجع. امنحيها الوقت وسوف تجيبكِ”. وهكذا كان. بعد انتظار دام عدة أسابيع، وجدتُ في أحد الصباحات إيميلا مباشرا منها، تعتذر فيه عن التأخير بتواضع مذهل، وتعطيني أجوبتها الأولية. آنذاك بدأ الأخذ والرد بيننا، وحدث الحوار.”.

وتحكي المحاورة عن وضع “الفريدي يلينيك” داخل بلدها ككاتبة: “عندما نالت يلينك النوبل، لم أكن أعرف أن هذه مكروهة من كثر في بلدها، وأنها تُسمّى بالفاشية اليسارية، وأن عددا كبيرا من المكتبات يرفض بيع كتبها، وأن تظاهرات احتجاج تنظّم كلّما عُرضت لها مسرحية أو صدر لها عمل جديد. لماذا؟ بحثتُ واستعلمتُ وجاء الجواب بديهيا: لأن كتابتها هي الإصبع الذي ينكأ، بعنف لغوي لا مثيل له، كل الجروح: جرح فظاعات اليمين المتطرّف، جرح تدهور القيم الأخلاقية، جرح جبن الرجال، جرح صمت النساء على جبن الرجال، جرح الجنس حين يكون بديلا من الحب، جرح الحب حين لا يكفي، جرح الفحش الماثل في آفات المجتمعات الحديثة، جرح المراهقين الباحثين عن لا شيء، جرح عبثية الحروب، جرح المحسوبية والتحيّز والتمييز العرقي والجنسي والطبقي، واللائحة أطول”.

لا تحب الأضواء..

وتضيف المحاورة عنها: “يلينيك امرأة لا تحب الأضواء وتتفادى الظهورات العلنية، لكنها تتمتع بحس الفكاهة، بحسب عدد من المقرّبين إليها، وتحب المزاح على غرار معظم النمساويين، رغم ظروف حياتها الصعبة. ويمكن رصد هذه الفكاهة، وإن بوجه آخر، في السخرية اللاذعة التي تميّز كتابتها الاستفزازية. وهي ملتزمة سياسياً ومكافحة في سبيل حقوق المرأة وضد الطبقية الاجتماعية، وتعشق تحطيم الكليشيهات الاجتماعية وتستخدم أدوات اللغة استخداماً طليعياً يحتل مقدمة رواياتها القائمة غالباً على خلفية سياسية أو بسيكولوجية.

همّها الأول على مرّ أعمالها كان التصدّي للخطاب الذكوري المهيمن، إذ تقول: “لطالما أثارت اشمئزازي وحنقي النساء اللواتي يتمسكن بالسلطة الذكورية ويعتمدن عليها. هنّ لا يطقن، وسلوكهن يشبه سلوك النعجة التي تلتصق بالذئب. أنا لا أريد أن تؤدي المرأة دور الرجل، ولا أن تكون عدوّته، لكني أريد أن تجد كل امرأة قوتها وسلطتها في داخلها”. إلا أن نضال يلينيك ليس نسويا فحسب بل هو سياسي أيضا وخصوصا، وكتابها الأخير، “عالم بامبي” الصادر عام 2003، يمثل هجوما ضاريا على الحرب الأميركية ضد العراق”.

جائزة نوبل..

تقول “الفريدي يلينيك” عن جائزة نوبل التي يعد فوزها بها أول اختيار يقع على كاتب نمساوي والعاشرة التي تحوزها امرأة منذ تأسيس الجائزة عام 1901. واعتبارها تلك الجائزة “عمل عدائي” يُرتكب ضدّها، رغم شعورها بالامتنان إزاء منحها إياها: “أنا لم أسع يوما إلى النوبل، لكني لا أنكر أن هذه الجائزة شرف كبير لي، لا بل هي شرف كبير “عليّ” في الوقت الحاضر، إذ من غير المعقول أن أجد نفسي فجأة في محاذاة عظماء على غرار بيكيت وهمنغواي مثلا. إلا أنها من ناحية أخرى قد اخترقت في شكل مفاجئ عزلة حياتي، ولذلك هي تمثّل، في شكل ما، فعل اجتياح “عدائيا”، ونوعا من التدخّل أو “التطفّل”.

يكفي أنها رمتني بين أذرع الجماهير رغما عني، وأنا لا أستطيع احتمال الاهتمام والانتباه والفضول الذي يرافقها لا محالة. أحيانا جلّ ما أرغب فيه كإنسان هو الاختفاء، ولذلك أخشى أن تحوّلني الجائزة ما لم أرغب قط في أن أكونه يوما، أي شخصيةً مشهورة. لستُ مؤهلة فكريا ومعنويا لاستيعاب أمر مماثل، فأنا أعاني منذ أعوام، وبانتظام، رهابا اجتماعيا يجعل من الصعب عليّ أن أطيق الحشود. طبعا أدرك في الوقت نفسه أنني محظوظة جدا بنيلها، خصوصا لأنها ستعطيني قدرا هائلا من الحرية، رغم قيودها: حرية أن أكتب ما أشاء أو أن آخذ وقتى ولا أكتب شيئا على الإطلاق طوال سنة كاملة مثلا، وذلك الترف هو بمثابة نعيم حقيقي لأي كاتب”.

مراجعات نقدية مرعبة..

وعن حضورها في الصحافة تقول: “دعينا من تسميته “حضورا”، فمن الأصح أن نقول إنه سلسلة من الكوارث الصحافية التي ألمّت بي على مرّ الأعوام، وأنا الآن أريد اجتنابها بأي ثمن وبأفضل طريقة ممكنة. كما قلتُ لكِ، أحيانا أتساءل كيف نلتُ جائزة بهذه الأهمية، في حين أن بعض المراجعات النقدية لأعمالي مرعبة في سلبيتها. فضلا عن نعتي باستمرار بالمتعجرفة والمتعالية، لا لسبب سوى لأني أعيش في عزلة. تلك تفسيرات سخيفة وسطحية لسلوكي. ثمة أيضا دافع آخر وراء نفوري من الظهورات العلنية، إذ يخامرني شعور حميم وحسّي للغاية عندما أكتب نصوصي، حدّ أنني إذا قرأتها لنفسي بصوت عال أشعر أنني أتعرى. وأنا لا أريد الوقوع في حلقة الإستعرائية والتلصص المنحرفة والمفرغة.

وعن وجوب اعترافها أنها ككاتبة لا بد أن تعتمد على  “النقل الإعلامي” لأعمالها تقول: “صحيح، فللإعلام والجمهور حقّ على نصوصي، أي لهم أن يقرأوا تلك النصوص وينتقدوها، ولكن ليس لأحد حق على شخص الكاتبة. الكتابة عمل مستوحد، نجلس خلاله بمفردنا مع أداة الكتابة، ومن حقي أن أرفض تعريض نفسي للجمهور. لو كنتُ أريد أن أكون شخصيةً عامة، لكنتُ اخترت أن أعمل في ميدان السياسة أو التمثيل. أنا لا أرغب في أن أكون نجمة: لكل منا رغبته وأسلوبه وبنيته الخاصة. ولستُ أعني هنا أني أريد أن أفصم نفسي عن المجتمع، بل أنا أود أن أراقبه من الخارج.

ذلك هو الموقع الصحيح، لا بل الموقع الصحيح الأوحد بالنسبة لي. إذا كنا في وسط المجتمع، منغمسين فيه حتى آذاننا، لن نتمكن من مراقبته ولا من وصفه وتقويمه كما يجب. في ما يتعلق بي، أفضل الامّحاء والابتعاد لكي أرى كل شيء من مسافة مطمئنة ودقيقة. لا أحد يعرف ما أنا عليه حقا، إنني أخبئ ذلك في شكل ممتاز. أخلط التخييل والواقع، الرواية والتأريخ، السيرة الفنية والسيرة الشخصية حتى تمحي الحدود بين الحقيقة والتزوير، وبين الصح والخطأ. تذهلني فعلا براءتي الأولى في التعامل مع هذه المسألة، إذ كنت قبلا أقع في الفخاخ الإعلامية باستمرار. لكني أدركت أخيرا مرحلة بتُّ “أخترع” نفسي فيها للإعلام، وإن لم أنجح بعد في جعل الآخرين أبطال اختفائي الخاص.

وعن كون عملية “تنظيم” الاختفاء هذه أسهل على الرجل منها على المرأة تؤكد: “لا مفرّ من أن نفترض ذلك. مما لا شك فيه أن دفق التلصص المنصب على النساء أغزر بكثير من ذلك المنصب على الرجال، وفعل “الرؤية” حق مطلق للرجل بكل ما يتضمنه من اعتداء سادي. أنا أجد أصلا أن ما يطالب به الجمهور المرأة مختلف عما يطالب به الرجل. المرأة هي “المنظور إليها”، وهي تحتاج، إذا كانت تريد أن تنسحب من المشهد، أن تجرد عنها صفتها الجنسية وأن تكتسب حضورا “قوس قزحيا” سهل التبخّر. وهذا فعلا ما تقوم به المرأة عموما عندما تدخل مجال الإنتاج الأدبي أو الفني، لكي يُنظر إليها نظرة جدية، فيما على العكس من ذلك يزيد الرجال من حضورهم وتوترهم الجنسي في نتاجهم الإبداعي”.

الكتابة واللذة..

وتحكي عن قولها “إن الكتابة استجابة لنوع من الغريزة الفيزيقية المهيمنة” : “يمكن القول إني “مذنبة” بالتفاعل مع غرائز وإنجذابات لا واعية وفطرية على هذا المستوى، فالنبض المحرّض على الكتابة عندي شبيه بذلك المحرّض على الفعل الجنسي، وهو تاليا خاضع لـ “الليبيدو” أو الطاقة الشبقية، وعندما أكتب أجد نفسي في حالات تحرّق ورغبة يمكن تشبيهها إلى أقصى الحدود بلحظات التوتر واللذة التي تسبق النشوة أو هزّة الجماع. الكتابة تتطلب انفعالا شهوانيا، وهي متنفس للدماغ، الذي “يقذف” كي لا ينفجر، تماما كما يحصل لحظة الذروة الحسية. ولكن عموما الرجل هو الذي يبثّ هذا الدفع الايروتيكي في إنتاجيته الإبداعية، والمرأة هي “موضوع” هذا البث ومتلقيته، لا العكس.

وعن روايتها “شبق” وإذا كانت تحاول فيها أن تخترع بورنوغرافيا أنثوية بغية قلب معادلة الشهوة النمطية والتصدي لمازوشية المرأة الجنسية الناجمة عن الهيمنة الذكورية تقول: “تلك كانت نيتي فعلاً. أنا ملتزمة إلى حد بعيد البورنوغرافيا، واعني الأدبية منها لا التجارية. ومن المؤسف أن تكون طريقة تلقي “شبق” ذهبت في الاتجاه الخاطئ، إذ عنونت الصحف يومذاك: “بورنوغرافيا فاشلة بقلم امرأة”. الشيء نفسه حصل مع “عازفة البيانو”. كنتُ أريد أن يتحوّل العنصر المنظور إليه فاعلا ناظرا بدوره، لذلك “شبق” هو بمثابة نقد حاد وعنيف للمجتمع، ونموذج يفضح آليات العبودية الحديثة.

نعم، أخفقتُ في مسعاي في خلق “حس أنثوي بالجنس”. كنتُ أريد أن أكتب بورنوغرافيا، ثم اكتشفتُ أن تلك مهمة مستحيلة بالنسبة لي. وأعني تحديدا، بالنسبة لي كامرأة. الرجل هو من يصنع البورنوغرافيا، أما المرأة فهي على الأكثر الهدف الصامت للنظرة الذكورية. لا معادل أنثويا لـ “قصّة العين” لجورج باتاي، فهذا الكتاب لا يمكن أن يُكتب سوى بقلم رجل، وإلا فسيكون نفيا لمعطيات تاريخية واجتماعية لا لبس فيها.

لقد اكتسبتُ ببساطة رؤية أكثر “يأسا” عن المرأة، وغالبا ما اشعر أن الرجال يحاولون جاهدين إنقاذ أسطورة المرأة كما اخترعوها. أنا لن أساهم في ذلك. حتى امرأة باتاي لا أراها امرأة: المرأة لا تملك نفسها لكي “تهرق” هذه النفس أو تبذّرها، لذلك فإن هذه الصورة هي انعكاس محض ذكوري في رأيي. إنها مسألة تركيبة اجتماعية، تركيبة سلطة. لماذا ليس ثمة أسماء نسائية بارزة في الأدب البورنوغرافي الجدير بالذكر؟ “قصة أو” لبولين رياج (أو لـ آن ديكلو وهو اسمها الحقيقي، أو دومينيك أوري وهو أشهر أسمائها المستعارة) تعكس نظرة ذكورية بامتياز في تجسيد شهوانية المرأة. حتى أناييس نين فشلت فشلا ذريعا في ذلك المسعى رغم كل ما يُحكى عن جرأتها، وأنا أعتقد شخصيا أن مذكرات طفولتها هي أجمل ما كتبتْ. الأدب البورنوغرافي اخترعتْه وكتبتْه المخيّلات الذكورية، وهو للمرأة توق مستحيل. المرأة راغبة لا مرغوبا فيها.

كراهية الرجل..

وتجيب عن السؤال المباشر “هل تكرهين الرجل؟: “لا، لن أذهب حدّ قول ذلك. لكني سأقول إني أكره السلطة التي يمثلها الرجل. أنا ضحية على غرار كل النساء. قد لا أكون ضحية رجلٍ يضربني أو يغتصبني، لكني ضحية الثقافة البطريركية الأبوية، التي لا تقل عنفا عن الفرد المعتدي، إلا أنها توجه ضرباتها بخبث وسلاسة. سيظل هذا واقعنا طالما أن ميزان القوى في المؤسسة الاجتماعية هو على هذا النحو. أنا معرّضة على غرار الجميع لهذه الثقافة، التي لا تتوقّع إنجازات فنية أو أدبية عظيمة من المرأة.

لطالما واجهتُ مشكلات مع قرّاء الشرحات التقليدية من المجتمع بسبب كتاباتي، وغالبا ما أجهل السبب، لأني لا أتجاوز حدودا لم يتجاوزها سواي. لكني أميل إلى عزو ذلك إلى واقع أن وصف العلاقة بين الرجل والمرأة، حتى في النطاق الجنسي، بحسب النموذج الهيغيلي للعلاقة بين السيّد والخادمة، لا بد ينتهك محرمات من نوع آخر، أكثر خطورة وخبثا. إن طريقتي في وصف الجنس كأنه سلوك يخضع لقواعد السلطة ومعادلاتها، رغم أنه أكثر العلاقات حميمية، تثير على ما يبدو الكثير من الحنق واللافهم. لكني واثقة من أنه طالما لم تصبح المرأة فاعلة لذتها وباعثتها، طالما ليست راغبة بل محض مرغوب فيها من جانب الآخر، طالما ستظل رائجةً ظواهرُ التعرّي والاغراء السطحي وتشييء جسد الأنثى واعتماد هذه الأنثى على جسدها، لن تتغير العلاقات بين الرجال والنساء وستبقى هذه العلاقة مرصودة للفشل الجمالي”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة