يقول رولان بارت : “لا يستطيع أحد الكتابةَ من دون أن يتّخذ موقفا انفعاليا ممّا يحدث في العالم”.
تيار الوعي
عندما نذكر رواية تيار الوعي، سيحضرنا، بالتأكيد، سرد عن كل ما يخالج الشخصية الروائية من مشاعر وإحساسات متناقضة وربما اضطرابات نفسية تجري في تيار منساب من أعماقها، تشاركنا، من خلاله، تجربتها الحياتية وتخبطاتها على شكل اعتراف أو إعادة حسابات أو تنفيس عن طاقة مكبوتة.
يعتبر “تيار الوعي ثورة في الأدب في القرن العشرين. فهو، حسب روبرت همفري، علمٌ يكشف الحياة الداخلية والعقلية والعاطفية للإنسان. يعتمد على سرد قصص تركز أساسا على ارتياد مستويات ما قبل الكلام من الوعي وذلك للكشف عن الوعي الداخلي والنفسي للشخصية.
ويصنف روبرت همفري أربعة أنواع أساسية من التكنيك المستخدمة في تقديم تيار الوعي؛ وهي المنولوج الداخلي المباشر بالضمير المتكلم، والمنولوج الداخلي غير المباشر، والوصف عن طريق المعلومات المستفيضة، ومناجاة النفس (). ونعلم أن إدوارد دو جردان هو أول من استعمل المنولوج الداخلي في روايته “أوراق الغار المقصوصة” عام 1888() . ولقد توصل دو جردان أن المنولوج الداخلي، الذي يستخدم ضمير الغائب أو ضمير المخاطب، هو مجرد قناع للمنولوج الداخلي بضمير المتكلم. واستخدم، لذلك، مصطلحا مستعارا هو المنولوج الداخلي غير المباشر )(.
لقد اكتشف وليم جيمس أن الذكريات والأفكار والمشاعر توجد خارج الوعي الظاهري وأكثر من ذلك فهي تَظهر للإنسان لا على أنها سلسلة بل على أنها تيار… فيضان (). فالوعي هو وعي الانسان بالتجربة الانسانية وهذا ما تجسده الكاتبة والروائية العراقية، صبيحة شبر، في عملها. فتطلق العنان لذكرياتها وتجربتها الحياتية وتعبر عن مشاعرها وأوهامها وحتى تخيلاتها. وبهذا فقد تصل إلى رؤية وبصيرة تجعلها تمزج بين التجربة الروحية والعقلية. فتتداخل المشاعر والأحاسيس والوعي الثقافي الذي عن طريقه تُحدِّدُ الشخصية موقفَها في الحياة كإنسانة أولا وكامرأة يسارية في مجتمع تقليدي ونظام متسلط.
تقع هذه الرواية في 178 صفحة من القطع المتوسط وتتكون من سبعة فصول وثمانين جزءاً مرقما ومتتاليا. بعد الاستهلال، ينقسم السرد إلى مستويين تتناوب فيهما تقنية المنولوج الداخلي المباشر وأحيانا مناجاة النفس والمنولوج الداخلي غير المباشر. ففترة ابتعاد ليث لمدة شهر عن سامية يجعلهما، كل على طريقته، يعيدان النظر في حياتهما ويسترجعان ما حدث خلال ثماني عشرة سنة مضت. فليث هو السارد الأول، أما السارد الثاني فهو سارد عليم يتمثل في وعي الشخصية الرئيسة سامية. فتارة يقص علينا ليث ما حدث منذ يوم عيد ميلاده النحس، وتارة أخرى، يتوجه السارد العليم بضمير المخاطب إلى سامية.
يروي لنا السارد ليث أحيانا في منولوج داخلي مباشر وأحيانا في مناجاة مع نفسه قائلا: “لا داعي لأن أترك شعوري بالإثم ينمو في داخلي ويتضخم، إنما جميل أن يكون لي ضمير صاح يحاسبني إن أجرمت في حق الأحبة.. ر.(ص6). فينتقل بنا السارد العليم مخاطبا سامية أصبحتِ تتعبين بسرعة.. وحين كنتِ في الشهر الثاني نزفتِ، لأنك أرهقتِ نفسكِ في الأشغال المنزلية التي لا تجدين أحدا يقوم بها سواك ر. (ص6). وهذا السارد الذي يستعمل ضمير المخاطب ويتوجه مباشرة إلى سامية ما هو إلا وعيها – قرينها الذي يذكِّرها بأحداث في الماضي. ويحاول الوعي – القرين أن يعيد النظر في هذه الأحداث ويُقيِّمها في الحاضر. فزوجها نصير لا يساعدها في الأعمال المنزلية كما أنه يعاتبها لعدم التنويع في وجبات العشاء. ويذكرها وعيها – قرينها بتصرفات زوجها. فكيف تتحمل هذا الزوج الذي يستغلّها ماديا ولا يهتم لتعبها ويصرف راتبها على أهله دون مشورتها، وجعلها تستغني عن ركوب التاكسي وهي حامل في شهرها السابع لأنه صرف راتبيهما وما تبقى أعطاه لأخته لتسافر به إلى فرنسا، فضلا عن تعب الحمل وتحمل تصرف زوجها وجب عليها أن تتحمل، أيضا، مضايقات وإلحاح وتهديد جلاوزة الحزب الحاكم لكي توقع وتنضم إليهم. لكن حصل ما كانت تخافه. أتوا فجرا وأخذوا زوجها نصير وقد صادف ذلك يوم عيد ميلاد ليث ابن جيرانها. لكن قبل أن يطفأ ليث شمعات الكيكة الخمس طرق الباب واقتحمه مسلحون متَّهمين العائلة باجتماع ممنوع. وحدثت الكارثة.
جاء الاسترجاع الفني في هذا النص السردي على شكل نسق زمني هابط، فانطلق من نقطة في الحاضر وهي ذروة الحدث؛ إحساس ليث بالذنب اتجاه سامية، خلال فترة غياب مدتها شهر، ثم ارتد إلى الماضي. بدأ ليث يسترجع ذكرياته وحياته مع سامية، أحيانا في مونولوج داخلي مباشر، بحيث يواجه وعيَه من خلال مناجاة نفسه ويُعلم بذلك المتلقي بما يجول في دواخله واستكناه عالمه الخفي الذي يخفي فيه عشقه لحبيبته سامية، التي تكفلت بتربيته بعد إعدام أهله. لقد مرّت خمس سنوات على زواجه منها. وأصبح عمره، الآن، ثلاثة وعشرين ربيعا.
فبعد اعتقال زوجها، نصير، نصحها رفاقها بمغادرة العراق كونها ترفض التوقيع والانضمام إلى الحزب الحاكم. كانت حاملا في شهرها الأخير فتوجهت إلى الكويت وأخذت معها ليث لتلتحق بوالديها اللذين اضطرا قسرا لمغادرة العراق. فهربت بتاكسي وباغتتها آلام المخاض على الحدود، لتلد ابنة ميتة وفي الوقت نفسه كانت والدتها، في الكويت، تحتضر وتفارق الحياة قهرا على فقدانها لأولادها الخمسة، وتموت أيضا شهيدة.
إن هذه الرواية لا تعالج فقط ثيمة الجندر ووضعية المرأة العراقية اليسارية في مجتمع تقليدي وإنما تذهب إلى أبعد من ذلك وتوثق لفترة زمنية من تاريخ العراق المعاصر؛ حيث نرى عوائل تختفي تماما تحت التراب لمجرد أنها تتوق إلى بلد مدني ديمقراطي، أكثر عدالة وحرية. فنجد أن الجد الشيخ يُقتل من قبل النظام الحاكم وكذلك أقرباؤه وأصدقاؤه. ويضطر ابنه أن يغادر العراق إلى الكويت بعد ما اعتقلا ولداه عادل وطالب وأعدما لاحقا. كما أن بناته الثلاث هدى ونجوى وشذى غائبات وصديقتهن ولا يُعرف مصيرهن. والشاهد الوحيد، الراوي ليث ما زال يتذكر ما قيل له آنذاك، يوم احتفالية عيد ميلاده الخامس: أنت الصغير ستبقى شاهدا أننا نحب الأطفال ر. (ص 19).
الجندر
إن استعمال الضمير المخاطب يجعل الشخصية الرئيسة تأخذ مسافة من الأحداث، وبهذا فإن وعيها يُعكَس ويرى نفسه أيضا معكوسا. وإذا وقفت الشخصية الرئيسة خارج الأحداث لكي تستعيد ما حدث، فذلك لأن الوعي يريد أن يبرز الأنا الأخرى ويمنح اهتماما لصوت هذا الوعي (). وبذلك يحدث حوار بين الأنا نفسها وقرينها. وقد تكون “الأنت” السردية “مناسبة للإشارة إلى الذاتية الممنوعة والحديث الصامت عند البطلة” (). وهذا ما حدث مع الشخصية سامية، فوعيها يبحث عن البصيرة. وربما وجدها. فأخذ يحاور عقلها وخوالجها خلال فترة غياب ليث. فيعود شريط حياتها إلى عامها الأول من زواجها بنصير. فهنا ضمير المخاطب أو بالأحرى وعيها – قرينها يشير إلى الراوي المتكلم وهو مُنقسم على ذاته يُكلّمها ويُذكّرها. فتستعيد سامية ذكرياتها وتعب الحمل وإجهادها في الأعمال المنزلية. وأن نصير لم يكن متفهما لحالتها الصحية والنفسية لتعرضها السابق للنزيف، “رغم أنه يردد الأقوال التي تدل على التقدمية ومناصرة المرأة ر. (ص 7). لكنه لم يبادر بتقديم المساعدة بل كان يعاتبها. فتحاور نفسها؛ يسألكِ:
ماذا أعددتِ لنا لطعام الغداء؟
كباب مقلي وسلطة…
كل يوم نأكل الطعام نفسه…ألا تملين ر. (ص 7)؟
فعندما يراها والدها حزينة ومتضايقة يقول لها: ابكي.. لا تبتئسي يا ابنتي، كلنا في الهم عراق ر. (ص 14)!
التكرار في السرد
نلاحظ استعمال التكرار في هذا النص السردي؛ كلمة وحدثا. ولقد جاء تكرار الأحداث ليثبت أهمّيتَها، في جزء لاحق، ويعمل كوسيلة للانتقال من جزء إلى آخر؛ أي كمدخل لتسلسل الأحداث. وقد استخدم أيضا لخلق إيقاع وتعزيز الفكرة والإحساس والعاطفة، وهذا ما يسميه جان جيرودو “الصدى”() . هكذا صادفنا تكرار أكثر من حدث خلال مستويي السرد المتناوب. لكنه، أحيانا، يربك القارئ وربما يدفعه أكثر إلى التركيز في القراءة.
وسنرى أيضا أن الكاتبة سخّرت مفهومي “الصمت” و”العجز” لإغناء النص وإعطاءه مدلولات متعددة.
مفهوم الصمت
الصمت، بحسب موريس بلانشون، هو جزء من اللغة، يقول نَصمت، إنها أيضا طريقة للتعبير عن أنفسنا (). وبالتالي فإن أي صمت لمتحدث قادر على الكلام، يجب اعتباره عملا تطوعيا كخيار متعمد، كأسلوب للتعبير. الصمت فعل، توقف عن الكلام أو فعل عدم البدء في الكلام. لذلك فهي عملية استراتيجية، إنها تواصل (). أما جوزيف رسام فيقول إذا كان الكلام يُميّز الانسان فالصمت يعرّفه ويحدّده. الكلام والصمت نوعان من القدرات الأساسية المتاحة للإنسان. على الرغم من أن كليهما متساويان في الأهمية، إلا أنه لا يمكن، في نظر رسام، وضعهما في الرتبة نفسها. والصمت، بالنسبة له، هو أكثر تعبيرا، وأكثر بلاغة، ويشكل في حد ذاته السمة اللافتة للنظر، والنوعية الأسمى، ونوعا من اللغة المطلقة التي تتجاوز الكلام وتتفوق عليه ()
. وربما صدق صمويل بكيت (1906-1989) و أوجين إيونيسكو (1909-1994) عندما لم يكتفيا بوصف أمراض اللغة (الكلام) ولكنهما أشارا إلى ضعفها؛ عيوبها وإفلاسها (). وكما نعلم أن الصمت أساسي في مسرح بيكيت الذي تجاوز كل الحدود ليقدم الصمت كمادة وكموضوع الأداء المسرحي. وهناك أمثال وأقوال تؤكد هذا الافتراض باحتمال تفوق الصمت؛ فإذا كان الكلام من فضة فإن الصمت من ذهب ونذكِّر أيضا بأن نقلب اللسان في الفم سبع مرات قبل أن نتكلم.
في هذه الرواية، نلاحظ أن للغة الصمت حيِّزا كبيرا. وهي تعكس ثقافة معينة، تميز حياة الشخصية الرئيسة، سامية وأحيانا تطغى عليها. ففي ظرف شهر، أعادت الشخصية الرئيسة سامية حساباتها ووقفت على نقاط الضعف في شخصيتِها وتساهلِها أحيانا لطيبتها وأحيانا لأخذها بعين الاعتبار أعرافا اجتماعية، تربّت عليها، وأحيانا أخرى ظروفا سياسية جعلتها تكبت آراءها وأفكارها خوفا من بطش الحاكم. وهكذا خُطّت مسيرة حياتها. فكان الصمت، أحيانا، العائق الأكبر في اتخاذ قراراتها، بالرغم أن سامية انسانة عصامية، متعلمة وفنانة، لكنها لم تطبِّق نصيحة أبيها حتى في حياتها الخاصة: لا تسكتي عن إبداء رأيك يا بُنيَّتي ر. (ص 173)! فتبدأ رحلة الصمت مع التهرب من التوقيع للانخراط في الحزب ويطبق الصمت على حياتها خلال شهر العسل عندما يناديها زوجها نصير باسم امرأة أخرى، سهام. وتشعر آنذاك كأنه يقوم باغتصابها. ولم تنس أنه اعترف بحبه لأخرى تحت تأثير الكحول في جلسة أصدقاء. كما أنه لم يطلب لها، يوما، التاكسي لزيارة أهله وذلك لأن ما تبقى من راتب سامية أعطاه لأخته لتسافر به إلى فرنسا. لم تكن راضية عن هذه المعاملة لكن مع هذا كانت ترضخ له. تَصمت. بالإضافة إلى أنه لم يكن ميالا لزرع الثقة في نفسك وكثيرا ما كان يستهزئ من قدراتك، يضحك باستصغار حين تصممين على أمر، أراد أن يقتل الثقة التي زرعها أبوك في نفسك. فأصبح التردد صديقك، وزاد وزنك وتضخم بدنك، ولم تعد الرشاقة تشغلك. وإذا احتجت إلى ملابس الحمل، اخذ نصير يصرخ : خزانة ملابسك ملأى بملابس جديدة ر. (ص 41)… وكم أهداك أبوك أشياء بسيطة تحمل الفرح إلى النفوس وقد حرمك منها نصير، رغم انها لا تكلف شيئا ر. (ص 38). بالإضافة إلى ذلك فإن ليث يشكو من مضايقة جلاوزة النظام الحاكم له للانضمام إليهم، لكنه لا يهتم لمضايقتهم لها. تتذكر سامية أنها أرادت، يوما، أن تطلب الطلاق من زوجها نصير، لكن والدها الذي كان أصلا يرفض زواجها منه، منعها من ذلك، حتى لا يُحكم على ابنها باليتم قبل ولادته. فالطلاق بالنسبة لوالدها هو ببساطة موت الأب. فكانت تكبت صمتَها الصارخ. وعندما يُعنِّفها نصير بكلام جارح تصمت متوهّمة أنه يحبها كما تحبه. والآن، تصمتين، ماذا يمكنكِ أن تقولي، تتوهّمين أنه يحبك كما تحبينه… ر. (ص 8). ويذكرها وعيها – قرينها: آه لو كنت قادرة على التعبير عن رفضك له، ما بالك.. فلماذا أنتِ بهذا الضعف؟ (…) كوني قوية كما ينصحك أبوك المحب ر. (ص58). تصمت سامية، أيضا، عندما يسألها الطبيب عن شرب الحليب أثناء حملها وتخفي عنه انها لا تستطيع شراءه لأن زوجها يوزع راتبيهما على بيتهما وعلى أسرة والديه وإخوته. وهذا أيضا تخفيه عن أهلها. كما أنها تصمت عند قبولها، من أخت زوجها، ملابس رثة، ووالدها قد أرسل لها، من بلد المهجر، الكويت، كل ما يحتاجه المولود الجديد. وأختها تعاتبها على ذلك. لكنك تصمتين، ليس من عادتك أن تجرحي أحدا ر. (ص 28). وعندما يعيدون لها زوجها نصير جثة هامدة، يجبرونها على تسليمهم تكاليف الدفن وأن لا تخبر أحدا بذلك. صمتَتْ سامية، لم تعد تستطيع الكلام ر. (ص 22 ). ثم تغادر العراق إلى الكويت وتُعيّن مدرسة للرسم. تضطرين للذهاب إلى السفارة العراقية بالكويت لتجديد جوازك، فماذا ستقولين عندما يطلبون منك أن تجاوبي على أسئلتهم ر. (ص 37)؟ تصمتين، فأنت تعرفين أنهم لم يوجهوا لك انتقادا لأنك فنانة ولا تعبر رسوماتك عن رأيك مباشرة ر. (ص 71). وأنت واثقة أن للمبادئ التي تسعين إليها أعداء كثيرون، لا يناسبهم أن يكون العالم بخير، وأن تتحقق المساواة بين البشر ر. (ص37).. تمقتين الخيانة بكل أصنافها، تسمعين من بعض الصديقات أنهن يقابلن خيانة الزوج بالمثل. تصمتين، تتعجبين لهذا الكلام، كيف تقوم المرأة بالخيانة ر. (ص94)؟ يذكر ليث أنه سمع اصدقاء متنورين والذين غادروا العراق هروبا من الاضطهاد يقولون: لا يمكن أن نساوي أنفسنا بالنساء!.. وأي حماقة تجعلنا نضحي بالمكتسبات التي حققها تسلط الرجال طيلة آلاف السنين ر. (ص 143). ومع هذا يقرُّ ليث، معاتبا نفسه، أنه تغيَّر وأصبح يكلِّف سامية بأصعب الأشغال. وهي تتحمل صاغرة، ولا تنطق بأي كلمة تدل على رفضها لمعاملتي التي لم أكن أتوقع أن أقوم بها نحو سامية المعشوقة ر. (ص 144). ولم تتذمر يوما كونها تتحمل كل الأعباء. وتمر الأيام وهي صامدة، مهما حصل لها من ضرر، وابتسامتها مرسومة على وجهها. تستقبل صديقات ليث في بيتها وترحب بهن، رغم أنهن يحاولن الإساءة لها والتجاوز على حياتها الشخصية. وكيف لك أن تتحملي كل هذا الذل؟ أنت في بيتِك؟ ألأنه تحبِّينه وهذا هو الجحيم بعينه! هل لأنك صامتة؟ هل السبب يكمن في طيبتك..؟ أنت الساهية الصامتة عن حقك ر.(ص 154). وأنت القوية المحترمة في مؤسسة التعليم وفي قاعة الرسم. هل تواصلين الصمت؟ هل تقومين بالصراخ؟ هل تواصلين الصبر ر. (ص154)؟ فتحتِ الباب عليهما، هو ورحاب، ووجدتهما في عناق وقبلة طويلة. فلماذا أخذ ليث يصرخ في وجهك؟ “هل ليداري على فعلته، أم ليجبرَك على الصمت، هل خشي أن تقومي برفع دعوى ضده للسلطات (البلغارية)؟ أم أنه استمرأ سكوتكِ وتحملكِ لإهاناته المتواصلة. أنت جبانة،.. توجهين كل الناس للدفاع عن حقوقهم، وتصمتين حين يكون المعتدي عليك فردا من أفراد عائلتك ر. (ص 155). وبقيت سامية صامتة والنساء الزائرات لبيتها يتفنَّنْن في إظهار عواطفهن الحارة نحو زوجها ليث. وهذا يحدث طبعا أمام ابنتيهما، شهد، ذي الرابعة من العمر؛ التي جهّزت، حسب الكاتبة، فنجانين من القهوة لأبيها ولرحاب، عندما تركتهما سامية لوحدهما وذهبت إلى مرسمها. فكان أصدقاء سامية يعاتبونها على تربية شهد. هذه الأخيرة تلوم أمَّها وتصطف مع أبيها الذي يعاملها كفتاة شابة: صرتِ كبيرة حبيبتي، دخِّني هذه السيجارة ر. (ص159)! تتذكر سامية بأنهن ينعتنها بالمعقَّدة، لا تحب التجديد، ولا تتلاءم مع مواصفات الحداثة لمجرد أنها لا تتوافق معهن. فيذكرِّها وعيها – قرينها: أخذتِ تصمتين، إذ لا فائدة ترجى من إسداد النصح لأشخاص يحبون السخرية من الناس(…) صمتك أخذ يطول، وهم ينتقدونك لكل شيء ر. (ص 164). وأنت صامتة لا تميلين إلى الكلام الذي لا يجديك ر. (ص 165). فغايتك هو إرضاء ليث، لكن من حقك ان تدافعي عن حبك الذي سيسرق منك؟ والأهم أنك ترين أن من واجبك المحافظة على بيتك أن يتهاوى وقد بذلت العمر كله في تقوية أركانه ر. (ص 166). لكن في النهاية يعترف ليث، لنفسه، أن النقاد الفنيين يشيدون برسوماتها المعبِّرة عن قضايا الإنسان المعاصر، الذي يتوق إلى الانعتاق من أنواع القيود. أما اصدقاءهم فهم يصفونها بالأم المثالية والزوجة المُخلصة. ويعود ليث إلى ابنته شهد وسامية، هذه الأخيرة التي كثيرا ما سهرت الليالي لتدرأ المرض عنا.. وآثرتنا على نفسها ر. (ص 177)… فالشخصية سامية فضلت العمل بمقولة الحاكم الروماني ماركوس أوريليوس التي تقول: “أعطني القوة لقبول ما لا أستطيع تغييره والشجاعة لتغيير ما يمكنني تغييره والحكمة للتمييز بين الإثنين” ().
فبعد هذا المسار، يبقى السؤال: هل هذا الصمت، يا ترى، تصرف سلبي أو حكيم أو عجز؟
مفهوم العجز
تعريف الفعل عجز هو عَجِزَ عن الشيء، ضَعُفَ ولم يقدر عليه أو لم يكن حازما. وكل عجز من شأنه أن يحد جزئيا أو بصفة مستديمة من القدرة على العمل. وقد كانت ثيمة العجز موضوع بيكيت المتكرر. بالرغم من ذلك فإن عظمة إنسانية بيكيت لا تكمن في نفي الحياة والإنسان، بل في استمرار ندائها لعدم السماح لأنفسنا بالدمار وهو يبحث عن أصداء في جميع العالم حيث توجد قدرة وإرادة للعيش () .
لقد استعملت كلمة “العجز” اثنتي عشرة مرة في هذا النص السردي. وكل مرة تحمل دلالة متباينة. ففي البداية، كان العجز الجنسي، الذي اصاب ليث، وسببه الإحساس بالذنب لخيانته لزوجته وللمبادئ التي تربى عليها. أراجع طبيبا. إني مصاب بعجز جنسي مبعثه الشعور بالإثم ر. (ص 5). كما أن العجز يشكل عقبة في الحياة عندما سلب الظالمون حيوات أحبابنا نشعر بالعجز وعدم القدرة على الحياة لأن المصاب يعجز عن رؤية الجانب المضيء من الحياة ر. (ص 79). لقد فقدت الشخصية الرئيسة سامية، في ضربة واحدة، شقيقين عادل وطالب وثلاث شقيقات مُغيّبات. أما والدها، فإن الآلام التي تراكمت عليه منذ إعدام أبيه الشيخ الجليل، ذي التسعين ربيعا، جعلته عاجزا أن يكون في محله التجاري كل يوم (قبل مغادرته للعراق مُتَّجِها إلى الكويت). ضعُفت قوة الوالد بعد إعدام والده الشيخ ولم يستطيع أن يفعل له شيئا. تتذكر سامية كيف كانت تواسيه فبقي يلوم نفسه:
ماذا بإمكانك أن تفعل يا والدي وهم عتاة مجرمون؟ وأبوك شيخ أعزل؟
كان يمكن أن أؤلب الرأي العام العالمي..
أي رأي عام يا أبي، وهم يملكون الرأي وأصحابه ر. (ص 86)!
إن العجز يعيق الحياة ويؤثر سلبا على الجسم والعقل والروح ويصيب الفكر بالشلل ويعرقل الطموح والتوق إلى الأفضل؛ وقد يكون عجزا عضويا أو ماديا أو معنويا. فليث، الطفل الذي ربّته سامية، كان أيضا عاجزا عن تخفيف ما تعانيه سامية من ضغوط نفسية من آلام الفقدان والحرمان بعد إعدام زوجها. وكذلك العراقيون المقيمون بالكويت، فقد غادروها لمضايقة السفارة العراقية لهم وكثرة الضغوط عليهم لدفع مبالغ مالية كبيرة لدعم الحرب. فكانوا يحسّون بالعجز بسبب ضيق اليد ر. (ص 118). أما سامية، الابنة البارة، فبقيت بعد وفاة والدها بالمهجر، الكويت، عاجزة عن تنفيذ وصيته ودفنه بالعراق. يوصيها والدها: حين يتغير نظام الحكم في العراق، ادفنوني قرب أحبابي هناك (…) ضعيني مع الأحباب في وطني ر. (ص 124). اضطرت للرحيل مرة أخرى رغما عن أنفها وأحست بالوحدة واليتم في مدينة صوفيا، بعد وفاة والدها، وكان ليث يتألم وهو العاشق الولهان. ويتساءل: لماذا أشعر بالعجز، وأنا أرى حبيبتي تنوح وحيدة تعاني آلام الثكل ر. (ص 130). بعد أيام سيبلغ ليث ربيعه الثامن عشر. وهو الذي يعاني من حبه لها، أظل عاجزا عن التعبير لسامية عما يغلي داخل نفسي الولهى وقلبي الذي تَتَربّى على عرشه الحبيبة سامية ر. (ص 135). سامية التي أصبحت فنانة نشيطة، تقيم المعارض في صوفيا وفي دول أوروبية وعربية وتدرِّس الرسم في مدارس بلغاريا. لكنها تحس بغربة مضاعفة وسط البلغاريين لعدم تمكنها من اللغة والاندماج في المجتمع، تبقين عاجزة عن فهم مدلول ما يقولون ر. (ص 136). وربما ملاحظة وعيها- قرينها تكون الخطوة الأولى لكي تُتقن سامية لغة البلد المضيف. ففي أحد الأيام طلب ليث من سامية أن تعلمه كيفية طهي الطعام. لكن حَبْلَ صبرِه كان قصيرا وهو يعرف أنه لا يملك الصبر الذي يجعله يحرز التقدم. فلذلك كان ينتقل من عمل إلى آخر. فعندما أصابه الضجر طلب من سامية:
أكملي الطبخة واغسلي الأواني!
عرفت من البداية أنك لن تكمل ر. (ص 150)!
لم ينس هذه الحادثة فيناجي نفسه ويعاتبها: أبديتُ غضبي من سامية لأنها تجرأَت ونعتتني أني عاجز عن الطبخ ر. (ص 149). ويذكرها وعيها – قرينها بأن ليث كان يتَّهمها بأنها لم تحسن فهمه، مع أنك لم تطلبي شيئا منه. فما زالت كلماته ترن في أذنيك: كلاّ قلتِ…اعترفي أنني لا أجيد شيئا وأنني عالة عليكِ ر. (ص 151). فتجيبينه بأنك لن تعترفي بشيء ولم تقولي أي شيء. إن ليث وسامية مرّا بظروف قاسية وأليمة، لم يستطيعا استيعابها. لذلك اثّرت على قرارات وتصرفات غير مدروسة في حياتهما. فأحيانا اليأس وعدم الثقة بالنفس والتخبط والشك كل هذا يساهم في الإحساس بالعجز العضوي والفكري والنفسي. ويضطر المرء، أحيانا، إلى اتخاذ استراتيجية للاستمرار في الحياة وتجاوز مصاعبها المعقَّدة .
الوعي الثقافي السياسي
حرصت الكاتبة على أن تؤرخ لفترة زمنية من تاريخ العراق وألمّت بالإشكاليات النفسية والفكرية لشخصيات روايتها من خلال قصة سيدة متعلمة ومدرسة للرسم، متخرجة من أكاديمية الفنون الجميلة. ترفض أن تنضم إلى الحزب الحاكم وتتحمل المضايقات حتى خلال نزفِها بالمستشفى. يحاربونها بعدم تعيينها كمدرسة رسم وركنوها كموظفة استعلامات. اعتقلوا زوجها وهي حامل. لكن مع كل هذا فإنها تفكر بمصير زوجها نصير وتتساءل إذا كان سيتحمَّل التعذيب ولا يفشي بالأصدقاء، ويكشف عن أسرارهم وعن أحلامهم في تغيير الواقع المظلم إلى حياة أجمل ر. (ص 19). لكنهم أعادوه إليها جثة هامدة ومنعوها من التحدث عن ذلك واستقبال التعازي. واضطرت لكي تغادر العراق وتلتحق بوالديها بالكويت. لكن هناك أيضا لم تسلم من تدخلات السفارة العراقية في شؤون العراقيين، خصوصا خلال فترة حرب الخليج الأولى. وصلت إلى الكويت بصعوبة وهي حامل في شهرها الأخير وأخذت معها ليث. تعينت مدرسة في ثانوية الأمل بعد ان اضطرت لتصديق شهادة التخرج، بعيدا عن السفارة العراقية. كما أكدت ذلك لليث؛ نحن فنانون، يا حبيبي ليث، ونجيد التواقيع ر. (ص64). انكبت على الرسم وإقامة المعارض في الكويت وفي دول أخرى منها بلغاريا. كما كانت سعيدة ومخلصة في عملها إلى أن التحقت بالمدرسة وكيلة جديدة تخلف الوكيلة الراحلة آهات الطيبة. فبدأت تضايقها وتطالب منها دعم الحرب، في ثمانينيات القرن الماضي، بكل طاقاتها وهذا ما كانت ترفضه سامية بصمت، وتنسل إلى أن هزت الرحال وغادرت الكويت إلى صوفيا وذلك بعد وفاة والدها الذي كان يعاني من مرض فقدان الأحبة والذي ساءت حالته بحيث أصبح يهذي وينادي بأسماء أولاده، عادل وطالب وبناته الثلاث، لكي يودعهم.
النتائج
يلعب تكنيك تيار الوعي دورا مهما في الغوص في أعماق الشخصية الرئيسة ويجعلها تحاور وعيها – قرينها وتعيد النظر في قراراتها وسلوكها وبذلك تقيِّم تجربتها الحياتية عن طريق البحث عن المعنى والتعرف على الذات، تماما كما تعمل فرجينيا وولف مع شخصياتها.
هذه الرواية تستند إلى الجندر بامتياز؛ وتسلط الضوء على العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمع يحدد تحركاتهما. فالشخصية الرئيسة، سامية، سيدة متعلمة وفنانة؛ فهي مثل للمرأة العصامية التي استطاعت، رغم الظروف الاجتماعية والسياسية، أن تتخطى عراقيل كثيرة، نفسية واجتماعية وسياسية. وتتغلب على العجز باستعمال لغة الصمت .
نجحت الكاتبة في توثيق فترة تاريخية من خلال شخصية نسائية، ألمَّت بوضعها النفسي والاجتماعي و الثقافي والسياسي وجعلتها تراجع نفسها وتواجه عجزَها وصمتَها وتستخلص العبرَ من تجارب انسانية واجتماعية.
ونختم بقول هنري جيمس، بأن التجربة لا تحد أبدا، ولا تكمل أبدا.
الرمز: ” ر.” يرمز إلى رواية صبيحة شبر، راحلون رغما عن أنوفهم، بيت الكتاب السومري، بغداد، 2018.
الهوامش