“الشربة”.. وعاء فخاريّ باستطاعته تبريد ما في محتواه من ماء ما أن يُلامس الهواء سطحه الخارجيّ , شِربةً منه تُروي العطشان وسط قيض تمّوزي , فباتت رمز عراقي عصيّ عن الإلغاء مهما تقدّمت تكنولوجيا التبريد , الشربة أو “التُنگة” كما يطلق عليها البغداديون يُقال أنّ منشأها العراق لأنّ تربته الغرينيّة وطمي دجلة والفرات الأصلح عالميّاً لصناعة الفخار والسيراميك يجعل كلّ ذلك رصيد نموذجي لأصحاب ذلك الرأي , كما واشتُهر عن الشربة رفقتها لجلجامش في رحلته الملحميّة فهي من وضع فيها إكسير الخلود , والشربة والبريج لا غنىً عنهما البيت العراقي حتّى عند أشدّ الناس حاجةً وعوًزاً وفاقة , وبهما ضرب العراقيّون المثل المعروف “ما بدار من يبيع الهوى سوى البريج والشربة !” دلالة على الفقر المدقع لمن يمارس بيع الهوى .. ومثل حالة هذا العوز الشديد أصابت الكثير من العراقيّين زمن الحصار ورغم ذلك بقي العراقيّون يصدّون الفاقة في تلك الظروف الأقسى في التاريخ بدروع العفّة والاتكال على الله , فمستلزمات البُنا التحتيّة للعراق بيعت بأبخس الأثمان بينما كلفها الحقيقيّة لا تقلّ عن 20 تريليون دولار من دولارات اليوم إن كانت تقديرات خسائر العراق 70 ترليون من قبل مؤسّسات إحصائيّة صحيحة فعلاً عن كُلف حروبه الدفاعيّة جميعها , ولم يتبقّى سوى جدران وسقوف البنى التحتيّة ولو استطاع السُرّاق اقتلاعها لبيعها لفعلوا .. يا سيّدي حتّى التسعين طائرة حربيّة المؤتمنة عند إيران الإسلاميّة أودعها عندها النظام السابق أبان حرب الكويت سوف لن يعيدها هؤلاء جوقة طيور الجنّة وزرازيرها لن يُعيدوا تلك الطائرات الّتي بذممهم البيضاء النقيّة بمبي ولن “يعطوها” حتّى لمن “لا يريد ينطيهه” ! ..
من شاءت الأقدار دخوله دار مُدمن مخدّرات أفيون سيتبادر إلى ذهنه فوراً دار من يبيع الهوى , و”المدمن” لا يعجبه دخول عالمنا هذا كما هو معلوم بل عالم افتراضي لا علاقة لوجوده بوجودنا وما يوصله إلى ذلك العالم ويطيب البقاء في افتراضه إلاّ بتعاطيه “مطمئنات” ما أن ينتهي مفعولها حتّى يدخله مرّةً أخرى بتعاطي آخر وهكذا إلى أن يبيع آخر ما في داره حتّى “البريج” والشربة لن يسلما !.. والمخدّر أنواع كما هو معلوم , مادّي , كأنواع المخدّرات , و “ظنّي” كالحكايات والأساطير , والظنّي “الفكري” أشدّ فتكاً من الأوّل , فالأوّل “المادّي” قد يتعاطاه فرد ينتقل إليه من آخر بحكم العلاقات لكنّه يبقى محدود الانتشار , فالعرب قبل الاسلام أي قبل تحريم الكحول كان لا يتعاطاه إلاّ البعض منهم أغلبهم أغنياء أو “مزاجيّون” وهم قلّة من المجتمع , والكثير من أصدقاء الرسول قبل البعثة اشتهر عنهم عدم تعاطيهم الكحول على اعتبار أنّ شبيه الشيء منجذب إليه , ومجتمعاتنا اليوم هذه , فيها جاهليّة غالبة , لكنّ أفرادها بغالبيّتهم لا يتعاطون الكحول , إذ ليس شرطاً الاقبال عليه في مجتمعات مثل هذه , “والحشيشة” مثالاً , فرغم رواجها بعد الغزو في العراق لكنّ الأكثريّة من العراقيين تعافها نفوسهم فيبقى محصوراً عند فئة معيّنة , يعني لا توجد رغبة اجتماعيّة لا قبل الاسلام ولا بعده في الاقبال على الكحول أو المخدّرات وليس كما يتصوّر الناس , فقط كان إقبالهم على “الأساطير” قبل الإسلام وأشهر من كان “يسطّرها” عند الكعبة النظر بن الحارث , أهمّ رواتها بعد الإسلام خاصّةً بعد أفول نجم المسلمين ؛ فأعدادهم ما شاء الله معمّمون وغيرهم ! ..
الأفيون ليس مخدّراً للفقراء بل للأغنياء تغريباً عن واقعهم نحو واقع افتراضي لكنه يبقى من ضمن حيز دنيانا هذه , مخدر الفقراء الأخطر على الإنسان من النوع الأوّل , ينقل متعاطيه “مستمعو الأساطير” الى عالم أبعد من عالم مدمنوا المخدّرات الافتراضي , إنّه العالم الآخر أي عالم الأموات ! فالّذي يتعاطاه قبل الاسلام , وبعده أخطر بكثير من تلك الّتي تُكلّف كلفاً مادّيّة عالية , فتلك تنقله إلى عالم “وردي” لكن يبقى “افتراضي” , أمّا الأفيون الثاني الّذي وصفه التنويريين الاشتراكيين في عصر التحالف الكنسي القيصري بأفيون الشعوب , فخطره ما بات يرى أعراضه ونتائجه الجميع ! , فمدمنوه لا يتحسّسون خسائره مهما فحشت “فهي في سبيل اليوم الآخر في سبيل الله لا في سبيل مكاسبهم!” , بل حتّى الجنّة لم تسلم أراضيها من أن يبيعها المتاجرون بالدين ؟! قساوسة القرون الوسطى باعوها بعد أن اشتروا جميع أراضي أوروبّا !, واليوم يبيعها المتاجرون بالعمائم عبر موضوعات وأحاديث كاذبة “عليّ قسيم الجنّة والنار , حور عين , تتغدّى مع رسول الله الخ” ! يستنزفون أدمغتهم مقدّما بأوصاف تلامس أوتار الجوع والجهل , فيما تُركت حقوق المسلمين عرضةً للعبث من قبل جميع دول العالم بعد أن ضاعوا في غياهب الخرافات .. بلّغوني ؟ هل تنازل يوماً أوروبّي واحد عن حقّه ما طال الزمن ؟ .. انظروا الغرب الّذي لا يُعجب هؤلاء “المستسقيّون” باستحلاب الدين من عرق الجُهّال بحرب عالميّتين اثنتين راح ضحيّتهما أكثر من خمسين مليون أوروبّي لأجل “استحقاقات” كلّ برقبة الآخر لجأوا إلى القوّة بعدما يأسوا من السياسة ! بل وتوجد حرب كونيّة محتملة أتعس إن لم يعيدوا اعتبار “محور الشرّ” بقيادة ألمانيا ! ويعيدوا ما أجحف بحقّها باتّفاقيّتي فرساي وإذلال استسلامها الغير مشروط في الحرب الثانية .. أينهم دعاة شيعة علي : “ما ضاع حقّ وراءه مطالب ؟, فأين منّا هؤلاء القوم الّذين لم يهربوا بالأساطير لاستعادة الحقوق ! .. فهل التسعين طائرة قتاليّة مودعة لدى إيران المؤمنة مثلاً استحقاق إيراني وفق العقل المُستسقي اللاأخلاقي يا أتباع الحسين كما تدّعون يامن هيهات تنامون على الذلّة , هل تريدون العراق خالٍ من أيّ مظهر حضاري باسم دين العين بعيد كلّ البعد عن الاسلام الحنيف ؟ , وتتركون الأصل من الدين ؛ استرجاع الحقوق , أنريد عراق لا يحتوي سوى البريج والشربة ؟ أم كلاهما يباع لأجل حلم ورديّ كاذب بأساطير لمساطيل مغيّبون!؟ ..