11 يناير، 2025 11:03 ص

الثقافة المتناسلة

الثقافة المتناسلة

 

كتب: حواس محمود

كاتب وباحث مقيم بالنرويج

 يسود نمط من الثقافة في المجتمعات الشرقية، هذه الثقافة تنتقل من جيل الى جيل، لا تخضع كثيرا لعمليات النقد والمراجعة والتمحيص والتحليل ومن ثم التدقيق والفرز، للخروج منها والدخول في عمليات تحديث ضرورية للنهضات والوثبات  الفكرية والاجتماعية المأمولة، هذه الثقافة تتجلى من خلال سلوكيات وسيكولوجيات ومسلكيات اجتماعية وثقافية وسياسية  للأفراد والمجموعات البشرية، تأخذ طابع التقليدية والكلاسيكية بعيداً عن عمليات التجديد الضرورية للقيم والمفاهيم والتصورات والأفكار  السائدة والناتجة عن ظروف زمانية ومكانية مرتبطة بالبيئتين الطبيعية والاجتماعية.

إنها ثقافة الموروث الجيلي إن جازت التسمية (الثقافة المتناسلة) أي أن الثقافة يتم توريثها من جيل إلى جيل عبر عملية برمجة بيئية بحسب الكاتب إبراهيم البلهي، البرمجة التي تتشكل في عقول ونفسيات الأفراد عبر عمليات الانغراس والتعود والديمومة الممارسية القوالبية، والمفارقة أن الأفراد في أي مجتمع لا يدركون ما حصل ويحصل لهم من برمجة محكمة بل هم يتوهمون أنهم يتصرفون بمحض إرادتهم وكامل طاقتهم العقلية المتحررة من أية قيود أو ممانعات، وكما يقول الدكتور إبراهيم البلهي في مقال له بجريدة الرياض بعنوان “التناسل الثقافي هو المعضلة الإنسانية المستعصية”: “إن البرمجة الثقافية في الطفولة لا تنضاف سطحياً لعقل يقظ وإنما تأتي لعقل فارغ ومتلهف ولين قابل للتشكل ومتهيء للصياغة إنه يستقبل المؤثرات بتلقائية جائعة فتغور البرمجة في أعماق النفس وتخالط الذات وتقولب الإنسان إنها النفس ذاتها والعقل ذاته فكل مؤثر متكرر غير مسبوق ببرمجة مضادة، يحفر أخدوداً في الجهاز العصبي المركزي فيصبح به السلوك محدداً سلفاً وتلقائياً ينساب بسهولة من أعماق النفس.

إن الفرد يصير مرتبطاً عاطفياً بهذه البرمجة لأنها هي التي تكون ذاته وتصوغ شخصيته ومنها يستمد آماله وطموحاته وبها يعرف نفسه إنها تلون رؤيته وأحكامه على الأشخاص والأعمال والأشياء والأفكار والمواقف.

إن سلوك الإنسان في الغالب ليس نتاج التعقل والتدبر إنه يعي ويعقل ما يفعله لكنه يعيه ويعقله بعقل مبرمج بطريقة تفكير معينة وبرؤية محددة مسبقاً إن تعقله إنما هو فيضان تلقائي لما تبرمج به في طفولته إنه وعي مبرمج إنه امتداد للوعي السائد في البيئة”.

إلا أنه في الواقع هم واقعون دون أن يدروا تحت منظومة فكرية محددة لآليات وأنماط تفكيرهم، ومن الصعوبة بمكان التحرر من هذه المنظومة إلا لمن امتلك وعيا فائقا وإرادة قوية بالخروج من أسر النمطية المحجمة لإراداتهم والمحجرة لعقولهم والمحددة لأنماط سلوكهم وتعاملهم الاجتماعي العام.

وهذه الثقافة تنتقل للأجيال الجديدة أي الأبناء عبر عمليات التربية والتعايش الجيلي أي أن الطفل يكتسب هذه الثقافة من الوالدين ومن الأقران، ويأتي دور المدرسة إذ يتلقى التلميذ تعليما تقليدياً تلقينياً نصوصياً جامداً متأثراً سلباً بطريقة التعليم الكلاسيكية، إذ يقف الأستاذ ملقناً والطلاب متلقين سلبيين، في حالة نأي حقيقي عن أجواء الأسئلة والتشارك والحوارات المتبادلة بين المدرس والطلاب، فيكتسب الطالب ثقافة غير متطورة، هي عبارة عن ثقافة الآباء والأمهات والمعلمين التي تعود عليها الجيل السابق.

وبالرغم من وجود اختلافات جيلية وهذا أمر طبيعي إلا أن النمط  العام للثقافة نمط متشابه ومتماثل ولا توجد اختلافات كبيرة ويمكن القول لإن العقل الباطن المتشكل لدى الإنسان منذ طفولته، يظل ملازماً له يحدد انفعالاته ومشاعره وتفاعله وتعامله مع محيطه البيئي والاجتماعي، أي أنه تبرمج على ثقافة محدد بضوابط وعادات وممارسات وتفاعلات لا تخرج عن النمط العام لثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه، ويأتي بعد الوالدين والمعلم  الإعلام بمحطاته الفضائية الكثيرة التي تتسم بالكم لا بالكيف وتنتشر فيها برامج استهلاكية والأغاني الهابطة وتفتقر للبرامج الثقافية والفكرية والاجتماعية الهادفة أو حتى الترفيهية المنشطة للقدرات الفكرية والثقافية أو البرامج التي تنمي المواهب والإمكانات الإبداعية.

وتلعب وسائل التواصل الاجتماعي أيضا دورا نكوصياً قهقرياً للشباب والجيل الجديد عموماً بانتشار ما هب ودب من أفكار وقيم التطرف والعنف وصور القتل والجريمة والإرهاب، أو الأغاني والأفلام والبرامج السطحية والهابطة دون وجود ضابط او رقيب، رغم أن الرقابة عموماً سلبية وبخاصة رقابات الأنظمة التسلطية التي حدت من حراكات الشباب وطموحهم  للعمل والعلم والابداع والتطوير، وانتشار برامج وأفكار تتنافى مع قيم وأفكار التجديد العقلي والابداعي.

إن هذه الثقافة التي تؤثر بشكل كبير على ديناميات التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي تحتاج إلى وجود رواد وأفراد متميزين وذوي عقليات نادرة وشجاعة، استطاعوا الخروج من قوقعة وقوالب وبرمجة هذه الثقافة واكتشفوا خطورتها وآلياتها التعطيلية لتقدم الشعوب والمجتمعات،  لذلك لم يهدأ لهم بال فبدأوا بنشر الثقافة التجديدية التي تحرك الكوامن الإبداعية في النفس الإنسانية، وتشير إلى مكامن الخلل والعطب في الأنساق والمنظومات الفكرية والقيمية الراهنة.

متخذين المنهج العقلي والعلمي الرفيع سبيلا لهم للتقدم  خطوات واثبة نحو نفض غبار وركام  التخلف والأمراض الاجتماعية والفكرية  المتعددة، وهنا يجب الإشارة  إلى إن جهودهم لن تتكلل بالنجاح إن لم يلتف حولهم جمع كبير من الشعب مؤمن بأفكارهم ورؤاهم لكي تتحقق آلية الانتشار والتأثير، فوجود نخبة فكرية واعية وداعية للخروج من نمطية الثقافة المتناسلة يعتبر نقطة إيجابية هامة جداً ولازمة، لكنها ليست كافية.

إذ لن تكتمل حلقة التطوير المجتمعي إن لم تتكلل جهود هؤلاء الرواد والنخبة باستجابة شعبية، ملموسة قادرة على التقاط الأفكار التجديدية الهادفة إلى الخروج من جدار الثقافة التناسلية السميكة إلى حقول وفسحات العقل والفكر المتفتح والمرن والمعانق لآلام وطموحات المجمتعات الطامحة للإصلاح والتغيير، وحينها أي عندما تتحول الثقافة المبثوثة عبر الوسائل الإعلامية الحديثة من قبل نخبة تنويرية، فإن هذه الثقافة التي سيحملها الشعب عبر مختلف قطاعاته سيكون لها مفاعليها الـتأثيرية والتغييرية الكبرى في الواقع مما سيؤدي إلى فارق كبير في درجة التطور في شتى المجالات في الدولة والمجتمع.

الثقافة المتناسلة تحتاج إلى ثورة فكرية معرفية تربوية اجتماعية كبرى يديرها خيرة الكتاب والمفكرين والإعلاميين والناشطين الذين سيكونون متحررين من متعلقات هذه الثقافة التي تغلق الدائرة على العقول وتصيبها بالعطل والشلل الكامل فهل سنجد ملامح هذه الثورة في قادم الأيام والشهور والسنين ؟

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة