مثلت تشرين بكل حراكها ووعيها الثوري الشعبي الشبابي المواطناتي في عام2019 حركة امل للتغيير والإصلاح السياسي والقضاء على اعراف المحاصصة والفساد المقنن والممنهج والذي تمثله الحالة السياسية والحزبية في البلاد إضافة الى المشاكل والثغرات الدستورية والقانونية، لكن بعد مرور ثلاث سنوات من انطلاقها لم تعد تشرين كما كانت او كما ارادت من خلالها أهدافها وسلوكها واستراتيجيتها وتضحيات ابناءها وشبابها، من هنا لابد لنا من الوقوف في هذا المقال على الأسباب التي آلت بحراك تشرين الاحتجاجي الكبير الى هذا الحد من الضعف والتشتت وغياب الأهداف الوطنية السامية بتغيير واصلاح النظام والعملية السياسية في العراق من الداخل التي كانت تطالب بها.
مثلت تشرين حالة تواصل للحراك الشعبي الاجتماعي الداعي للخلاص من حالة الفساد والترهل وخراب منظومة الحكم منذ الحراك الاحتجاجي في عام2011 اثر انطلاق ثورات ما عرف بثورات الربيع العربي والتخلص من الأنظمة الشمولية في عدد من البلاد العربية وما تلاها من أعوام 2016 ومن ثم في عام 2019 وقد اشتراك في هذه الموجات من الحركة الاحتجاجية كافة فئات المجتمع وتياراته السياسية والنقابية والدينية والمدنية والقبلية ومثل احتجاج تشرين الأول عام2019 حالة تمرد فوق الايديولوجيات ووعي وصحوة باتجاه التغيير السياسي لمنظومة الحكم المؤسسة على بنية خاطئة وقائمة على أسس من المحاصصة والتقاسم والمكونات والطوائف.
فاجمل ما في حراك تشرين في انطلاقته عام2019 هو المطالبة ببناء الدولة عبر تبني شعار نريد وطنناً، ومع الضغط الشعبي في اغلب محافظات العراق استطاع الحراك هذا ان يرغم الحكومة آنذاك على الاستقالة، وإيجاد بعض الإصلاحات مثل إيجاد مفوضية للانتخابات مستقلة من القضاة، وكذلك تشريع قانون جديد ومختلف عن سابقيه للانتخابات وهو ما مثل مع انتخابات تشرين الأول عام2021 حالة تحول سياسي ديمقراطي حقيقي وان كان ليس بالمستوى المطلوب عبر تراجع كبير للقوى التقليدية التي تمتلك المال والسلاح والنفوذ وتقدم القوى الشعبية والمدنية والمستقلين الذين قسماً كبيراً منهم ينتمي بصورة او بأخرى الى حراك تشرين الاحتجاجي، لكن المؤلم مع هذا التحول السياسي الديمقراطي الجزئي مثلت افرازات تشرين عل المستوى الرسمي وحتى الشعبي حالة انغماس وارتداد على اهداف تشرين او ما يسمى في ادبيات علم الاجتماعي السياسي بـ”الثورة التي تاكل أبنائها”.
فعلى مستوى مخرجات تشرين النيابية انغمس الكثير من النواب مستقلين او حركات سياسية مع تشتتهم وغياب المشروع السياسي التقدمي والمواطناتي استدرجوا في منظومة الحكم القائمة على أساس المحاصصة وخضعوا للترغيب واضاعوا فرصة العمر عندما سمح لهم صراع الأغلبية الوطنية الذي أراد تطبيق التيار الصدري مع مشروع المحاصصة السياسية والمكوناتية الذي تبناه الاطار التنسيقي في الوقت الذي نشهد تصعيد وتصامد مع جهات وتيارات سياسية هي الأقرب لحراك تشرين من حيث الأهداف والغايات وهو ما وظف فعلاً باتجاه مشروع المحاصصة واضعاف الحالة الاحتجاجية بمختلف مشاربها واتجاهاتها ومنها تشرين نفسها، ففي الوقت الذي وقف اغلبهم من إيجاد مشروع سياسي قائم على أساس فريق يحكم ومسؤول ومحاسب وفريق معارض ويراقب، سار اغلبهم مع انسحاب الكتلة الصدرية من البرلمان مع مشروع المحاصصة والتوافقية التي خرجت بالضد منها حراك تشرين في زمن حكومة عادل عبد المهدي.
فيما يمثل ما يمكن ان نسميه بنكسة تشرين الاحتجاجية الشعبية هو ازدواجية بعض من يدعون قياداتها او من يوهم الجمهور بذلك فبالظاهر هو يدعي النزعة الاحتجاجية والمطالبة بالتغيير السياسي، وبالخفاء ضرب الحركة الاحتجاجية عبر تسويف أهدافها او ادامة حراكها وقد برهنت احتجاجات الذكرى الثالثة لاندلاع حراك تشرين في اليوم الأول من تشرين من هذا العام على مدى التخبط والازدواجية وربما حتى النفعية والابتزاز والصفقات التي قادت هذه الشخصيات في اضعاف حراك تشرين وربما صهرة وتذويبه مع اكمال الكتل السياسية الممثلة داخل البرلمان في المضي بتشكيل الرئاسات والحكومة وفق ذات المنهج المحاصصاتي التوافقي، وهذا ما سيشمل كل مؤسسات الدولة عبر ما يعرف بالاتفاق على التوازن الطائفي والمكوناتي والحزبي التي أدرجت عليه القوى السياسية المتبنيه للعملية السياسية في العراق.
وفي ضوء ما تقدم لابد من ان تعي تشرين قبلها غيرها عندما خرج الناس من اجل التغيير لانهم اردوا التغيير السياسي فعلاً وروا بان تشرين حالة وطنية شعبية تمثل آنذاك انطلاقا وبادرة امل في التغيير السياسي بما تمثله من حالة ضغط شعبي ضد اعراف المحاصصة والفساد والترهل والمحسوبية والمنسوبية، من هنا على حراك تشرين ان يعيد حساباته التي اخذت تنحرف بعد انتخابات تشرين الأول من حيث المشروع والاهداف والأصدقاء والخصوم، والا على تشرين ان تعي ان المنافع الوقتية ستدمر الحراك والاهداف النبيلة التي خرج الناس من اجلها وستعرض تشرين لخسارة فادحة مع أي استحقاق دستوري او حتى على مستوى الضغط السياسي الشعبي الوطني الهادف للتغيير والإصلاح السياسي الذي بات ضرورة هامة مع كل ما كشفت عنه المحكمة الاتحادية من عيوب ومشاكل في النظام السياسي والدستور النافذ.