في البلاد التي تحترم نفسها هناك نظامٌ واحد للسير تضبط حركة المرور في شوارعها العلامات الإرشادية المحددة التي يحترمها الغني والفقير، والكبير والصغير.
أما في العراق فهناك نظام مرور مبتكر وجديد، هو نظام السياقة عكس السير، بحيث تصبح الشوارع وأرصفتها وحدائقها من حق السائق القوي الجسور الذي يمتطي سيارة مُضللة وتطل من شبابيكها رقاب البنادق الجاهزة للاستخدام.
وبطبيعة الحال لابد أن تكون الحياة السياسية نسخةً مطابقة من نظام السياقة عكس السير، لأن قادتها هم أنفسُهم أصحابُ السيارات المضللة.
فمنذ 2005 وحتى اليوم ثبت شكل الحكومات، وتحدد أربابها، وتوزعت حصصها على الأحزاب والائتلافات الإثنتي عشرة المختصرة بأشخاص مُلّاكها، نوري المالكي، هادي العامري، قيس الخزعلي، مقتدى الصدر، مسعود البرزاني، جلال الطالباني، عبد العزيز الحكيم وولده عمار، حيدر العبادي، أياد علاوي، آل النجيفي، الحزب الإسلامي العراقي السني الذي أزيح، منذ سنوات وحل محله محمد الحلبوسي، ثم خميس الخنجر ومثنى السامرائي.
وخلف هذه الأصنام الإثنيْ عَشر تقف إيران وأمريكا وبريطانيا وفرنسا وتركيا وروسيا والصين وقطر والسعودية والإمارات والأردن ولبنان، تأمر وتطاع ولها حلفاء وأصدقاء ومحاسيب.
وعند كل عملية تشكيل حكومة جديدة يتوقف الزمن شهورا، وأحيانا أكثرمن عام، إلى أن تتوافق المخابرات الشقيقة والصديقة، ثم يتفق، أخيراً، أقطابُ الحكومة الخلفية على تفاصيل الحكومة الأمامية، ليُخوَّل رئيسُها ووزراؤها بصلاحية واحدة هي أن يتحملوا، نيابة عن رؤسائهم، شتائم الشعب العراقي واتهاماته وتظاهراته واحتجاجاته وهتافاته التي لا تسر.
وفي كل عملية تشكيل حكومة جديدة، أيضا، تبدأ المفاوضات والمبادلات والمفاهمات والترضيات، وتتسرب أخبار المزادات، وتتصاعد أسعار الوزارات تبعا لمداخيلها أو لأهميتها الأمنية والاستخباراتية.
وفي هذا المجال يقال إن سعر وزارة النفط، لغاية ساعة كتابة هذا المقال، بلغ 75 مليون دولار. والشاري طبعا مجبر على أن يحقق أرباحا من النفط المهرب والعقود المضروبة تفوق الثمن المدفوع بكثير.
ويقال أيضا إن وزارة الداخلية والمخابرات ورئاسة هيئة الحشد الشعبي ما تزال في المزاد، وتعترك عليها المليشيات التي أسماها مقتدى الصدر بـ (المليشيات الوقحة). يعني حاميها حراميها. فمن يمتلك الشرطة والأمن والمخابرات يستطيع أن يقتل ويعتقل وينفي ويُغيّب من يشاء، متى يشاء، وبالقانون وباسم الحكومة، وإيران الحاضرة الآمرة الناهية في العراق لا تسمح، منذ 2005، لغير وكلائها بامتلاك الأجهزة المخصصة للتجسس والاغتيال. أما باقي الوزارات فهامشية ولا مانع لدى الحرس الثوري من إعطائها لخدم وكلائها الإطاريين المؤتمنين.
هذه هي العادة المتبعة في العراق الديمقراطي الجديد، منذ أول لعبة انتخاب جرت في العام 2005، وحتى اليوم. فلم تتغير أصولها ولا قواعدها وحصصها، ولن تتغير، لا اليوم ولا غدا ولا بعد عمر طويل.
وقد جرت العادة في الحكومات السابقة أن تكون حصص البيت الشيعي بين 10و12 وزارة ورئاسة الوزراء والقيادة العامة للقوات المسلحة، ولا يتجاوز نصيب البيت السني عن 7 وزارات ورئاسة البرلمان، والبيت الكردي عن بين 4 وزارات ورئاسة الجمهورية، وتبقى وزارتان، لتطييب خواطر الأقليات.
ورغم ذلك فأمريكا دائما تبارك هذه الديمقراطية، وتحرص على استمرارها، وتدافع عن بقائها.
فمثلا، فور تكليف محمد شياع السوداني الخارج من رحم حزب الدعوة، ومن قميص نوري المالكي، تحديدا، بتشكيل حكومة ما بعد استقالة نواب مقتدى الصدر غردت السفيرة الأمريكية في العراق، إلينا رومانوسكي، قائلة، “ستوجه اتفاقية الإطار الاستراتيجي علاقتنا مع الحكومة العراقية الجديدة. إن التقدم في تحقيق مصالحنا المشتركة مهم (للعراقيين)”.
رغم أنها تعلم أكثر من غيرها بأن النواب والوزراء هم ليسوا أكثر من عدة الصيد التي يُعدها رئيس الكتلة لرحلة صيد. فهو الذي ينفق الأموال على مرشحيه، ويتعب كثيرا من أجل فوزهم، ليكونوا لسانه في البرلمان، ويده في الحكومة. فالوزارة فيالعراق تجارة وشطارة، أما نساء الوطن ورجاله وأطفاله وشيوخه فرزقهم في السماء وما يوعدون.
شيء آخر. فحتى لو كان رئيس الوزراء هولاكو أو الاسكند ذا القرنين فلا حكم له على رفاقه الوزراء. فالوزير سفير زعيمه في الحكومة، وإحين يريد شيئا فليخاطب الزعيم.
فبالرغم من أن نوري المالكي كان في حكومتيه السابقيتين، 2006 و2010، كان يوصف بأنه مختار العصر وفرعون زمانه فقد شكى وبكى كثيرا من ضعفه وعجزه عن محاسبة وزير فرضته عليه الكتلة الأخرى.
ويمتدحون السوداني بأنه، رغم كونه زراعة حزب الدعوة، ورغم تاريخه الطويل من تبعيته لنوري المالكي، نظيفُ اليد لم يثبت عليه اختلاس. ربما. ولكن الحكم على أي رئيس لحكومة عراقية، أو على رئيس جمهورية، أو على وزير ونائب وقائد جيش لا يكون مقبولا عند أول تنصيبه، بل بعد عام وعامين، أو بعد طرده من الوظيفة.
ومن الضروري هنا أن نُذكر بأن النواب الفائزين والخاسرين الحاليين لم يفوزوا بأصوات العراقيين. بل فازوا بصلوات الأولياء الصالحين المتربصين وراء الحدود، وبأصوات أولادهم وأصهارهم وخدمهم وأفراد حماياتهم وسماسرة عقاراتهم ومدراء مصارفهم والمشرفين على تحصيل موارد الموانيء والمطارات والمنافذ الحدودية، لحسابهم. لأن 85 بالمئة من العراقيين قاطعوا الانتخابات الأخيرة، وفق بيانات المفوضية العليا للانتخابات.
وكما جرت عليه العادة فإن مهمة اقتسام الحصص كانت وما زالت وستبقى مهمة شاقة جدا لا تبلغ مرحلة المخاض الأخير إلا بعد أن يتفاهم سلاطين الخارج، ثم يتوافق مخاتير الداخل. وهكذا هو العراق الديمقراطي الجديد. فسنة كاملة يحتاجها السياسيون ليتمكنوا من التكليف، ويحتاجون إلى سنة أخرى ليتمكنوا من التأليف. أليست هذه ديمقراطية خمس نجوم؟.