1- دأَبتْ مواقع وصفحات عربية ، او بالاحرى النسخ العربية من مواقع وصفحات عالمية ، مدعومة خليجيا ، وتعتمد في مادتها على خليط من الاخبار والتحليلات الموجهة مع الاعلانات التي قد يتضمن بعضها استدراجا واضحا للعراقييين ، تحديدا ، بدعوتهم لاستثمارات مالية وهمية على طريقة بونزي ” سامكو كما عُرفت في العراق ” والترويج لطرق نصب واحتيال اخرى ولذلك دلالته بالطبع ، فما من لص او محتال لا يجذبه صندوق المليارات السائب هذا والمسمى العراق ، على نشر المادة التالية ، وبتنويعات مختلفة في العنوان او الصورة او بعض المحتوى ، تتغير كل فترة من الزمن :
” قصة الفتاة السورية التي تحولت الى مليونيرة في العراق ” مع صورة فتاة جذابة تجلس على رزم من ملايين الدولارات او : ” قصة الخادمة الاسيوية التي صارت تتحكم بعالم المال والاعمال في العراق ” وغير ذلك من العناوين المشابهة …
2- كنت اغلّب الاعتقاد بان الدافع وراء نشر مثل هذه المواد و ” التقارير ” هو محاولة النيل من العراقيين كشعب وتصوير حالهم على انه حال غريب لا يمّت الى السويّة البشرية وان كل شيء ممكن في العراق لا بفعل طبيعة النظام السياسي القائم الآن فيه او الهيمنة الاجنبية على قراره او غير ذلك وانما هو شيء يتعلق بالشخصية العراقية ، ولذلك طبعا دوافعه واهدافه ، وهو يجد مكملّه الداخلي او المحلي في صفحات ومواقع عراقية وقنوات ، ربما ممولة ومرعية من ذات الجهات وللاغراض نفسها ، تؤكد على ان العراقيين هم شعب العجائب و” التحشيش ” وتؤكد وتضخم ما يقع فيه من حوادث بشعة يمكن ان تقع في كل بقاع الارض ، وليس في العراق وحده ، وعلى مدار الساعة …
3- لكن وقائع حقيقية على الارض جعلتني اتأنى في حكمي المطلق على هذه المواد والتقارير بالافتعال والبطلان ، على الاقل من حيث الاساس ، اي من حيث امكانية ان يحصل مثل هذا الامر او ما يشبهه بالفعل ، في ظل ما نعيشه ونكابده من ظروف ، خصوصا وان قصص تأثير وتَنفُذ بل ورعاية ” بنات ليل ” وراقصات ، يعملن بصفتهن هذه او تحت واجهات ” اعلاميات ” او ” فنانات ” او حتى ” سيدات مجتمع واعمال ” او ربما ” راعيات لمنظمات مجتمع مدني ” …الخ لصفقات واتفاقات ورشى بعشرات بل ومئات الوف الدولارات وشهود بعضهن لاتفاقات جنائية ، حقا وفعلا ، بين سياسيين ونواب وتجار واصحاب بنوك وموظفين كبار وضباط ، سواء في اماكن خاصة لها صفة شخصية او ملاهي او نوادي قمار تحظى ، ويالسخرية وغرابة الوضع العراقي ، حقا وفعلا ، بحماية عناصر مسلحة من قوى متنفذة تدّعي التزام الاسلام السياسي ، وكما صرح البعض منهن على مواقع التواصل في لحظات نشوة او غرور كشفت ادوارا مشابهة لهن !
4- بل ان واقعة هي اقرب الى الخيال منه الى الممكن والواقع رغم انها اصبحت واقعا صلبا ومعاشا ، بدأ سياسيون واعلاميون ومطلعون على بواطن الامور يتحدثون عنها بتوّسع وتفصيل هذه الايام وكانت تُذكر ، سابقا ، لماماً وعلى نحو مبتسر ومحدود ، تلك هي واقعة وصول ” الأخ ” الكاظمي الى سدة الحكم في بغداد وكيف كانت نتيجة او محصلة ل” مصادفات ” عجيبة واتصالات غريبة . فالرجل كان يبذل وسعه في البداية للحصول على مجرد تأييد من وزارة الهجرة والمهجرين من انه كان من المهجرين قسرا قبل 2003 لكي يحظى بوظيفة عادية ، على حد قول احد المسؤولين السابقين مؤخرا ، وكما كان قد صرح ، علنا ، السيد ” حسن العلوي “، في احد لقاءاته التلفزيونية سابقا من انه سعى له هنا وهناك من اجل ان يجد له مجرد وظيفة عادية فلم يسعفه احد الى ذلك ، لكنه فوجيء بعد فترة بتحوله الى مدير للمخابرات ومن ثم رئيسا للوزراء !
5- لقد شهدنا جميعا ، كيف تحول السيد الكاظمي من صحفي مغمور في صحيفة اسبوعية عادية الى مدير لجهاز المخابرات دون ادنى خبرة او دراية او تدّرج وظيفي وكيف قفز ، من ثم ، ودفعة واحدة ، الى اخطر منصب تنفيذي في العراق ، بل واخطر منصب فيه على الاطلاق ، وكيف حصل ذلك من خلال تطورات دراماتيكية تبدو غريبة حتى ان حسن العلوي حينما سؤل عمن يمكن ان يكون وراء تعيينه بمنصب ” رئيس الوزراء ” ، أجاب :
– لله غير ! ماكو غير الله ! والواقع ان ” الله ” المقصود هنا هو ذلك العامل الخفي او اليد الخفية التي رتبت الامر وترّتب وتهندس كل شيء تريده هي وسط بحر الفوضى الذي خلقته في العراق وتحرص على استمراره وتعزيزه !
6- في كل دول العالم ، على اختلاف انظمتها السياسية ومعاييرها الاجتماعية ، ومنها دول المنطقة، هناك آليات و سياقات ومرشحات وفلاتر لابد لكل مرشح لوظيفة مهمة وموقع حساس ان يمر بها لكي يحظى بذلك المنصب ، ففي الممالك والامارات في منطقتنا كلها ، لابد لمن يتسنم الوظائف الخطيرة والدرجات المهمة من ان يكون من العوائل الحاكمة او مقربيها او ممن تختارهم من خارج اطارها العائلي من الكفاءات او الاشخاص بناءا على نفوذ حزبي او قبلي او ديني او مجتمعي او وظيفي … الخ وكذلك الحال في الجمهوريات سواء كانت شمولية تعتمد الحزب الواحد او القوة الايديولوجية الغالبة او تستند الى الجيش والمؤسسة العسكرية ، اوجمهورية اقرب الى الليبرالية ، لابد ان يتم الاختيار والتعيين بناءا على سياقات وفلاتر قلما تترك شيئا للصدفة او للطارئين او لاختراق المجهولين الاّ ما ندر وان حصل فسيكون كشفهم وتلافي ضررهم سريعا وآثارهم السلبية محدودة بفعل هذه الاليات والسياقات نفسها ، لكن الامر مختلف جدا في العراق ، فيمكن لارهابي داعشي مطلوب ان يتحول الى وزير في ليلة وضحاها ويمكن لمجرم عادي محكوم في قضية جنائية ان يطلق سراحه بعفوٍ اوتسوية او بناءا على انتهاء محكوميته ليصبح بعد ايام او اشهر ضابطا في الشرطة او مسؤولا في جهاز امني ، ويمكن لشرطي هارب ان يتحول الى ” دلاّل ” يبيع مناصب برلمانية ووزارية ويتحكم في كتل نيابية ، كذلك يمكن لعاهرة عادية ان تصبح مُشرّعة ناهيك عن تحول عدد من العتّالين الى مليارديرات واصحاب مصارف …. الخ الخ من عشرات ومئات الامثلة والوقائع التي اعرف وتعرفون !
7- واذا كان هذا كله تحصيل حاصل ومعروف لديكم جميعا فلا احد يجهل ، تقريبا ، ان كل هذا الذي يجري ، من فساد غير مسبوق، تبدو فيه ثروات العراق وامواله مستباحة الى اقصى حد من قبل عصابات اللصوص ، وتبدو فيه وحدة العراق ووجوده وارواح ابناءه وحرياتهم ومستقبلهم مستباحة ، هي الاخرى ، من قبل مافيات سياسية وعوائل تتقاسمه مناطق نفوذ وتحكّم ، ويبدو فيه، كذلك ، ان الدولة و المجتمع غريقان في فوضى مطنبة يختلط فيها الحابل بالنابل ويمكن ان يحصل فيها كل ماهو غريب وعجيب مما قدمنا ، هو نتاج لعملية توزيع القوّة او بالاحرى سحب وتدمير قوّة الدولة العراقية لصالح نشوء وتبلور وتعزز وتعاظم القوى البديلة والهويات الفرعية السالفة على الدولة والتي يتنافر وجودها واستمرارها ومصالحها ، قطبيا ومطلقا مع استعادة قوّة وكيان الدولة العراقية تحت مسمى العملية السياسية ، التي لم يخرج وجودها واستمرارها ، ابدا عن هذا المسار منذ 2003 وحتى اليوم مما يتيح امكانبة التدخل وترتيب الاوراق بحسب ما تشاؤه القوّة الخفية ، او مدير لعبة الروليت ، في اي مفصل من مفاصل الدولة . لعبة الروليت التي تبدو في ظاهرها لعبة للحظ و الشطارة الشخصية والمصادفة !
8- الشيء الخطير بل البلغ الخطورة ، هنا ، ان الناس بدأت تعتاد هذا الشذوذ وتستسلم لهذه الغرابة وتتأقلم مع هذا الظلم الفادح . اننا جميعا نشهد ان هذه الاستباحة تتعاظم وتتركز وتصبح بمثابة اعراف او ثوابت سياسية وربما اجتماعية متسالم عليها ومقرّة كلما تقدم بنا الزمن ، فالوضع قبل 5 اعوام كان ” أهون ” قليلا ، وهو قبل عشرة اعوام كان يمكن القول انه ” افضل ” كثيرا فاستهتار وتمادي الفاسدين واللصوص والمجرمين جاوز كل الحدود وترسخت القناعة لدى الناس من ان هذا الامر لا يمكن معالجته باية اصلاحات او ترقيعات من داخل النظام القائم ، بأ زلامه وأفكاره ووسائله ، وان السرطان المستشري لا يمكن ان ينفع معه الاّ الاستئصال الجذري !
9- ورغم كل ذلك فلا احد يفرح او يرحب او يدعو الى انفلات العنف وتدهور السلم الاهلي الى حال قد تهدد بنيان المجتمع وتجره الى دوامة عنف يخسر فيها الكثير ، وعلى ذوي البصيرة القلائل في الطبقة السياسية الحاكمة ، عربا وكردا ، سنة وشيعة ، وغيرهم ان لا يطمأنوا الى مقولة ان ” دار السيد مامونة ” وان الناس سيبقون اسرى التضليل والالهاء بكل انواعه ووسائله الجاري الاعتماد عليها ، حتى الان ، في استلاب وعيهم لواقعهم وضمان طاعتهم وانقيادهم بل وانغماس قطاعات منهم في الفساد الصغير ، وان لحظة وعيهم التاريخي ومبادرتهم الى الفعل باية صورة امر مستبعد او مستحيل ، فسبق ان رددها من هو اقدر منهم ولم يحصد ، في نهاية المطاف سوى الهوان والخسران ، ولذلك فان خطوات واجراءات على الصعيد التشريعي والتنفيذي والقضائي يمكن ان تعدّل الحال وتنقله من حالته الحرجة والميؤوس منها الحالية الى طور من امكانية العلاج بالوسائل الشرعية الممكنة وفي سبيل ذلك لا اقل من البدء فورا بالضرب على ايدي الفاسدين في الفضائح الاخيرة واسترداد كل فلس منهم وبمختلف الوسائل واحالتهم واحالة جميع من سهل امرهم من نواب وموظفين كبار الى القضاء ، وتعديل قانون العقوبات نفسه بما يجعل سرقة المال العام صنوا لتهديد السلم الاهلي او الخيانة العظمى او الارهاب ، وكذلك تعديل قانون اصول المحاكمات الجزائية بما ينسجم وذلك واعادة العمل بمصادرة اموال المحكومين المنقولة وغير المنقولة في قضايا الفساد في المال العام وذويهم حتى الدرجة الرابعة ووضعها تحت طائلة الحجز خلال اطوار التحقيق ، وشمول هذا النوع من الجرائم واية جرائم تمثل ضررا فادحا وتهديدا لأمن المجتمع بعقوبة الاعدام وتفعيلها وعدم تركها مادة للمساومات السياسية كما هو الحال الان ، وقبل هذا وذاك لا بد من التخلص من المحاصصة او الحدّ منها ومن بيع المناصب والوزارات على اساسها ، على الاقل ، و اسناد الوزارات والمناصب المهمة الى الكفاءات الوطنية النزيهة المشهود لها والسعي الى تطهير السلطات الثلاثة من شبكات وعناصر الفساد والافساد ومشبوهيها …الخ وهذه كلها وغيرها الكثير يمكن ان يتضمنها برنامج اصلاح حكومي متدرج يراعي الاولويات مما يمكن لاية حكومة مخلصة او صاحبة ارادة او رغبة في الاصلاح الجاد ان تعتمده قبل فوات الاوان !