18 ديسمبر، 2024 11:13 م

بعد ان سرت مسافة ليست بالقصيرة احسست بتعب شديد لذا وجدتني ادخل احدى الحدائق العامة واجلس على اقرب مقعد لأستريح .
رحت اطالع الوجوه واتأمل المكان بأشجاره واضوائه ومجاميع التماثيل والالعاب التي تجمع حولها اطفال يلعبون وتتناهى الى مسمعي اصوات ضحكاتهم ولهوهم فأخذني ذلك المشهد الى ايام طفولتي الى زمن كنت ارى العالم كل العالم متمثلا بالبيت والمدرسة والجوار وكنت اعتقد ان اعظم الرجال واهمهم ,هم ابي والمعلم وبعض من يعتبرهم ابي مقربين او اصدقاء يصفهم بالأوفياء إذ يتوسم بهم الوفاء .
وقفزت الى ذهني صورة اخرى هي صورة البيت جيراننا في ذلك الزمن , بيت القريب الذي صار اليوم غريبا وعائلته التي انفصم عقد اجتماعها وتحطمت اركان منزل كان ذات يوم قائما مثلما تصدعت عرى الروابط التي كانت تشد افراد العائلة .
عمو …عمو…ادفع الارجوحة
اخرجتني عن تأملاتي كلمات طفل جميل تلوح على قسمات وجهه ابتسامة مشرقة وهو يتشبث بسلسلة الارجوحة ويهتف بي ليبدآ اللعبة التي يريد فأسرعت نحوه تاركا مقعدي ورحت ادفع الارجوحة واطوح به وهو فرح سعيد ويطلب الي َّ ان اكرر الدفع بقوة أعلى ليزداد ارتفاعه بالأرجوحة مرة بعد اخرى حتى توقفت عن التكرار مخافة ان يحدث امر قد لا تحمد عقباه فربما سقط الطفل من الارجوحة وانا اطوح بها وربما انقطعت سلسلتها ,هكذا فكرت لكن الامر لم يرق للطفل فتغيرت قسمات وجهه وارتسم الحزن عليها وهتف بصوت عال:
– بابا تعال – ….!!!!
فاجأتني صرخته تلك وقبل ان انبس ببنت شفة وجدت رجلا ثلاثيني يقف الى جواري ويمد يده للطفل وكأنه يحتويه بأحضانه دفاعا عن خطر يهدده ووجه كلامه الي ّ بنبرة غاضبة َمتسائلا:
ماذا تريد من الطفل ….؟
نظرت اليه مستغربا وصمت للحظات اذ كانت دهشتي بالغة جعلت الكلمات ساكنة على شفاهي مما زاد في اضطراب والد الطفل فكرر السؤال:
ماذا تريد من الطفل…؟
استجمعت شتات فكري واجبت بنبرة حادة وقد ركزت نظري اليه قائلا:
انا لا ا ريد منه شيء هو الذي طلب اليَّ ان ادفع ارجوحته وكان يطلب اليَّ ان ازيد في قوة الدفع وحين توقفت صرخ مناديا عليك …اشاح بوجهه كمن يريد انهاء الحد يث فهتفت قائلا:
لم انهي خطابي بعد فانا بدوري اسألك اين كنت عنه حين افتقدك طفلك ولم يجدك قريبا منه ما جعله يطلب اليَّ ذلك…؟
احس والد الطفل بشي من الحرج وتمتم كلمات الاعتذار فعدت الى مقعدي ولكني لم اعد اشعر بتلك المتعة التي كنت عليها قبل هذا الحدث الذي يبدو بسيطا وتبدو تصرفات القائمين به امر طبيعي لكنه في تلك اللحظة وضح لي امر غاية في الأهمية وهو ان اقدامنا على اي فعل طيب قد يجرنا الى مواقف اللوم او الندم او سوء ظن الآخرين.
……………….
ها قد مضى على آخر لقاء لي مع (القريب الغريب) هكذا اطلقت عليه ( القريب الغريب)كأن الاسم قد اختاره له الزمن وقفزت الى ذهني صور عائلته (زوجته وأبنتيه) فتساءلت مع نفسي ماذا حل بهم …؟ وأين هم الآن…؟
انها تساؤلات تحتاج الى أجوبة ولكن ليس من جانب واحد فلا يتبين الحق ولا تصدق الحقيقة في أي قضية الا بجواب طرفي القضية المدعي والمدعى عليه لذا يجب سؤال الطرفين والاستماع اليهما ومعرفة مدى توافق الاقوال والافعال مع الحقائق القائمة وهنا تذكرت الآية الكريمة في المصحف الشريف التي تتحدث عن النبي سليمان عليه السلام حين افتى الحكم للمدعي دون ان يستمع الى دفاع الاخر اي المدعى عليه .
…………..
اواصل السير الى مهجعي في طرق صرت اعرفها ومصابيح الطريق تضيء بالوان جعلها البعض مختلفة وكذلك زجاج النوافذ الذي يعكس الضوء مرسلا رسائل هدوء واطمئنان فهذا الضوء البسيط بألوانه المختلفة يهزم الظلام بحدود طاقته ومدى انتشاره …هكذا هتفت مع نفسي واعلنت لها انني سأواصل الاجتهاد من اجل ان اعرف الحقيقة ………………
وكتبت في دفتر ملاحظاتي الصغير العبارة الاتية:
لم اصل بعد ,ربما يطول المسير .انني اتساءل مع نفسي لماذا اجتهد من اجل معرفة امر مضى وانتهى مذ زمن بعيد وما يغريني في معرفة الوقائع …؟؟؟
عجزت عن الجواب وان تكلفت له اكثر الدوافع واشهرها مثل الانسانية والعدل و نصرة المظلوم ومحاربة الظلم والظالمين وهناك امر آخر ارتاحت له نفسي وهو ان استلهم من هذه التجربة العبرة ………..!!!!
كل تلك الدوافع لم تكن مقنعة لي تماما لكن الذي ادركه ان للمسألة جذر ربما استطال ونما في عقلي الباطن …………ربما يكون ذلك وربما لا يكون….