اخيرا وبعد عام كامل من الشد والجذب، لاحت معالم وملامح الانفراج في الازمة السياسية العراقية، بأنتخاب القيادي السابق في الاتحاد الوطني الكردستاني عبد اللطيف رشيد رئيسا للجمهورية خلفا لبرهم صالح، وتكليف مرشح الاطار التنسيقي، الوزير والنائب السابق محمد شياع السوداني بتشكيل الحكومة الجديدة.
مجمل الاجواء التي سبقت ورافقت اختيار رشيد وتكليف السوداني، كانت ايجابية الى حد كبير. فمختلف القوى السياسية العراقية، وان كان البعض منها اختلف حول التفاصيل والجزئيات، الا انها اجمعت على اهمية وضرورة هذه الخطوات من اجل وضع حد لحالة الانسداد والجمود السياسي، وبالتالي منع انزلاق البلاد الى اتون صراع داخلي من الصعب التنبوء بمدياته ومالاته. وحتى التيار الصدري الذي كان قد انسحب من العملية السياسية قبل ان يعلن زعيمه السيد مقتدى الصدر في وقت لاحق اعتزاله العمل السياسي احتجاجا على وجود وتحكم ما اسماهم بالفاسدين بمقاليد الامور في البلاد، التزم الصمت ولم تصدر منه اي تعليقات، سواء كانت سلبية او ايجابية، وهو ما فهم او فسر على انه اذعان للامر الواقع من جانب، او من جانب اخر، مرتبط بتطمينات من نوع معين، من دون استبعاد اللجوء الى ورقة الشارع اذا اراد التيار الضغط وفرض مسارات وخيارات ما.
وبموازاة التفاعل السياسي والارتياح الشعبي الداخلي، عكست المواقف الاقليمية والدولية المرحبة بأنتخاب رشيد وتكليف السوداني، ومن اطراف متقاطعة ومختلفة في العديد من القضايا والملفات، رغبة باحتواء الازمة العراقية، وتهدئة الامور، وذلك من خلال الذهاب الى تشكيل حكومة جديدة عبر خيار التفاهم والتوافق بين الفرقاء السياسيين، بأعتباره الخيار الاكثر واقعية والاقل ضررا في هذه المرحلة تحديدا، رغم ما انطوى عليه من سلبيات كثيرة وكبيرة في المراحل اللاحقة. وكما قلنا سابقا، تبقى الخيارات والخطوات ذات الطابع السلمي هي الأنجع والأفضل، وإن اتسمت بقدر كبير من التعقيد وتطلبت الكثير من الوقت. وقبل ذلك وبعده، استلزمت كسر الحواجز النفسية وتحطيمها، والبحث عن نقاط التفاهم والالتقاء والابتعاد قدر الإمكان عن نقاط الافتراق.
وبالنسبة لرئيس الجمهورية الجديد، وان كان قد جاء للمنصب بشق الانفس، وفي ظل غياب التوافقات والتفاهمات الحقيقية بين القوى الكردية الرئيسية، المتمثلة بالحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، الا انه يؤشر الى قدر من الايجابية ارتباطا بشخصية وسيرة رشيد، الذي يعد الرئيس الخامس بعد الاطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003، اذ سبقه في تولي المنصب كل من الزعيم القبلي الشيخ غازي الياور(2004-2005)، والامين العام للاتحاد الوطني الكردستاني الراحل جلال الطالباني (2005-2014)، والقيادي في الاتحاد فؤاد معصوم (2014-2018)، ومن ثم القيادي المنشق عن الاتحاد والعائد له فيما بعد برهم صالح(2018-2022).
وعرف عبد اللطيف رشيد (78)، والذي انخرط بالعمل السياسي منتصف ستينيات القرن الماضي في صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي كان يتزعمه حينذاك الملا مصطفى البارزاني، عرف بشخصيته الهادئة المتسمة بالوسطية والاعتدال والمرونة، وربما ارتبط ذلك بطبية وظروف نشأته، اذ انه اكمل دراسته الجامعية الاولية والعليا في بريطانيا، حيث حصل على شهادة الدكتوراة في هندسة الموارد المائية من جامعة مانشستر، ومن ثم تزوج من (شاناز) ابنة القيادي الكردي الراحل ابراهيم احمد، ليصبح عديلا للرئيس الراحل جلال الطالباني، الذي كان قد تزوج من (هيرو) الابنة الكبري لابراهيم احمد.
ورغم انه كان من قيادات الخط الاول في الاتحاد الوطني الكردستاني، ورغم الخلافات والصراعات المسلحة وغير المسلحة بين الاخير وغريمه الحزب الديمقراطي، الا ان رشيد بقي يمثل حالة الوسطية والاعتدال ولم ينساق الى مساحات العنف والتطرف كما فعل بعض رفاقه وخصومه، ولعل هذا ما جعل رئيس الحزب الديمقراطي مسعود البارزاني، يدعمه بقوة لتولي رئاسة الجمهورية بعدما اخفق في تمرير وفرض مرشحيّ الحزب، وهما كل من هوشيار زيباري وريبر احمد.
وبعد الاطاحة بنظام صدام، تولى رشيد منصب وزير الموارد المائية لمدة سبعة اعوام تقريبا، قبل ان ينتقل الى رئاسة الجمهورية بصفة مستشار اقدم للرئيس.
ومع ان منصب رئاسة الجمهورية في العراق، يعتبر وفق الدستور العراقي النافذ في عام 2005، منصبا رمزيا ذا طابع تشريفاتي، الا انه بحكم الاوضاع والظروف السياسية الاستثنائية في البلاد طيلة العقدين الماضيين، كان لطبيعة الشخص الذي يتولى المنصب، ومساحات علاقاته مع مختلف الاطراف، دور واثر غير قليل في حلحلة الازمات والتقريب بين الفرقاء، وهذا ما بدا واضحا خلال فترة تولي الرئيس الطالباني للمنصب، منذ عام 2005 حتى مرضه في اواخر عام 2012 ومن ثم رحيله في الثالث من شهر تشرين الاول-اكتوبر من عام 2017.
وانطلاقا من ذلك، تعول اوساط ومحافل سياسية عديدة على دور الرئيس رشيد في تصحيح الكثير من السياسات الخاطئة واحتواء الازمات الخانقة، وفك عقد الملفات الخلافية الشائكة، لاسيما اذا كان هناك انسجاما وتنسيقا جيدا مع رئيس الوزراء الجديد، الذي ينتظر منه الشيء الكثير، وسط تفاؤل واضح مشوب بقدر من التوجس والحذر بسبب مستوى التعقيدات في المشهد العراقي بكل جوانبه ومجالاته، السياسية والامنية والاقتصادية والخدمية.
ويرث السوداني تركة ثقيلة من المشاكل والازمات والاخفاقات، ناهيك عن الشارع الممتعض والمستاء جراء الاهمال الحكومي لمطاليبه وحقوقه ومعاناته، والاضطراب السياسي والمجتمعي، وتراجع هيبة الدولة، واستفحال الفساد على نطاق واسع، وربما غير مسبوق في ظل ولاية رئيس حكومة تصريف الاعمال الحالي مصطفى الكاظمي، الذي تولى المنصب بعد استقالة عادل عبد المهدي، على خلفية التظاهرات الجماهيرية في العاصمة بغداد وعدد من مدن العراق الاخرى في تشرين الاول-اكتوبر 2019.
وفي كلمته التي وجهها الى الشعب العراقي بعيّد تكليفة بتشكيل الحكومة مساء الثالث عشر من الشهر الجاري، تعهد السوداني بان تكون احد ابرز مهام حكومته المرتقبة هي غلق منافذ الفساد عبر القوانينِ والتشريعات الصارمة، بالتعاون مع السلطتينِ التشريعية والقضائية، مشددا على ان محاربةَ الفساد ستكون في مقدمةِ أولويات الحكومة. ودعا الجميعَ إلى تحمل المسؤولية والمشاركة في حملة وطنية شاملة لمكافحة الفساد.
وقال ايضا، “نعلن عن استعدادِنا التامَّ للتعاونِ مع جميعِ القوى السياسية والمكونات المجتمعية، سواءٌ المُمثَّلةُ في مجلسِ النوابِ أو الماثلةُ في الفضاءِ الوطني، فالمسؤوليةُ تضامنيةٌ يتحملُها الجميع، من قوى سياسية ومنظمات مهنية وقَطاعية ونخب وكفاءاتٍ وقادةٍ رأي، فنحن أبناء وطن واحد، وإخوة في الشدةِ والرخاء، ولن نسمح بالإقصاءِ والتهميشِ في سياساتنا، فالخلافات صدّعت مؤسساتِ الدولةِ وضيعت كثيراً من الفرصِ على العراقيين في التنمية والبناءِ والإعمار”.
واعرب رئيس الوزراء العراقي المكلف عن رغبته الجادة بـ “فتحِ باب الحوار الحقيقي والهادف؛ لبدء صفحةٍ جديدة في العملِ لخدمة أبناء شعبِنا وتخفيفِ معاناته بتعزيِز الوحدة الوطنية، ونبذِ الفرقة، وشطب خطاب الكراهية”.
واكد السوداني، إن رؤيته واضحة وبرنامجه داعم للحكومات المحلية لتمكينِها من تقديمِ أفضلِ الخدْمات للمواطنين، وتنفيذِ واجباتِها وتلبية المطالب المشروعة لابناء الشعب، الى جانبِ الالتزام بالعملِ وفق الدستورِ في تمتينِ العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، وفكِ الخلافات والمسائلِ العالقة منذ أمٍ بعيد. مشددا على سعيه الجاد لاجراء انتخابات محلية ونيابية، في ظل أجواء حرة ونزيهة، وفي ظل نظامٍ انتخابي شفافٍ يطمئِن كل المتنافسين، قائلا، “لقد آنَ الأوان لاسترداد هيبةِ الدولة، وفرضِ احترامِ القانون، وإيقافِ نزيف التدهور والانفلاتِ بجميعِ مسمياته وأشكاله، والانتصار لقيمِ المجتمعِ العراقي الأصيلةِ، وان الدولة هي صاحبةُ الحق الشرعيِ في نشرِ الأمن وبسط القانون والذَّود عن السيادة الوطنية عبر مؤسساتها العسكرية والأمنية الرسمية”.
ولعل القراءة الدقيقة والموضوعية لمضامين كلمة السوداني، تؤشر الى رسائل ايجابية مهمة، وتحديد واقعي للاولويات المطلوبة، التي كان السوداني قد تحدث عنها بشيء من التفصيل والاسهاب في لقاءات اعلامية بعد ترشيحه رسميا للمنصب من قبل الاطار التنسيقي اواخر شهر تموز-يوليو الماضي.
وهناك عوامل عديدة من شأنها تعزيز فرص النجاح لدى رئيس الوزراء المكلف، من بينها مسيرته السياسية والمهنية الجيدة، الى جانب خلفيته الاجتماعية العشائرية، فالرجل الذي فقد والده في عام 1980، ولم يتجاوز عمره العشرة اعوام، نتيجة اعدامه من قبل نظام البعث الحاكم حينذاك، بسبب انتماءه لحزب الدعة الاسلامية، شغل مواقع وظيفية متقدمة بعد عام 2003، ابتداء من قائمقام قضاء العمارة، مرورا بتوليه مسؤولية وزارات وهيئات حكومية عليا مختلفة اما بالاصالة او الوكالة، مثل وزارات حقوق الانسان، والعمل والشؤون الاجتماعية، والصناعة، والزراعة، والتجارة، وهيئة المساءلة والعدالة، الى جانب شغله مقعدا نيابيا لاكثر من دورة برلمانية. علما ان عائلته بحكم زعامتها العشائرية، تمتلك موقعا وتأثيرا اجتماعيا كبيرا. ولم تسجل على السوداني اي شبهات فساد او اساءة استغلال المنصب والاثراء غير المشروع، في ذات الوقت الذي تميز بالتواصل مع مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية-لاسيما البسيطة والمعدمة منها-والعمل على تامين متطلباتها واحتياجاتها قدر الامكان، فضلا عن انه لم يدخل في اي وقت من الاوقات بخصومات ومعارك سياسية مع اي طرف او شخصية سياسية.
العامل الاخر المعزز لفرص نجاح السوداني، يتمثل بمساحة الدعم والتأييد الكبيرة له من مختلف القوى والكيانات والشخصيات السياسية في كل المكونات، اضافة الى الفضائين الاقليمي والدولي. ولاشك ان ذلك الدعم والتأييد يشكل ارضية مناسبة جدا لوضع خارطة طريق صحيحة وقابلة للتطبيق ولو بنسب معقولة ومقبولة.
في مقابل ذلك، فأنه لايخطأ من يقول ان مهمة السوداني سوف تكون صعبة وعسيرة، وان الطريق امامه لن تكون معبّدة ومزروعة بالورود، فهناك تقاطع المصالح والارادات الداخلية، وتعدد اجندات ومصالح الفرقاء الاقليميين والدوليين، وهناك مراكز القوى المختلفة، وهناك حجم التركة الثقيلة من الفساد وسوء الخدمات والتخبط وانعدام التخطيط، وهناك كثرة الاستحقاقات والفترة الزمنية القصيرة لانجازها، وغيرها من الامور.
ومثل تلك المسائل، قد لاتمنع من التقدم الى الامام بالمرة، بيد انها يمكن ان تؤخر وتعطل وتعرقل، وعليه فأن تقييم نجاح او فشل رئيس الوزراء الجديد وكابينته الوزارية، قد يحتاج الى وقت، وكذلك الى نظرة عامة وشاملة لمجمل حقائق ووقائع المشهد، السابقة منها والراهنة والمستقبلية، ليس المشهد العراقي فحسب وانما المشهد الاقليمي، وحتى المشهد العالمي بتفاعلاته المحتدمة، واحداثه الخطرة، وتداعياته المقلقة.