وكالات – كتابات :
بعد عقود من إصرار “الولايات المتحدة” على “العولمة” وقواعد التجارة الحرة، يرفع الرئيس؛ “جو بايدن”، شعار: “صنع في أميركا”.. فماذا يعني هذا ؟.. ولماذا يغضب حلفاء “واشنطن” ؟.. ولماذا قد يضر الاقتصاد الأميركي نفسه ؟
كان الرئيس الأميركي السابق يرفع شعار: “أميركا أولاً”، ويتبنّى سياسات وُصفت من جانب خصومه الديمقراطيين بأنها إنعزالية، وتضر بالمصالح الأميركية حول العالم، بينما رفع “بايدن” شعاره الخاص: “أميركا عادت” لقيادة العالم، وأعاد بلاده إلى الاتفاقيات الدولية التي كان “ترامب” قد انسحب منها.
لكن مع ارتفاع وتيرة التضخم، وسعي إدارة “بايدن” لإنقاذ الاقتصاد الأميركي من الدخول في مرحلة ركود؛ بدأت الإدارة الديمقراطية في اتخاذ قرارات، وسَن قوانين مُثيرة للجدل بالنسبة لباقي دول العالم، وخاصة الحلفاء، مثل رفع سعر الفائدة لتقوية “الدولار”، وهو ما أضر بباقي العُملات مثل: “اليورو والإسترليني”، إضافة إلى وضع أغلب الاقتصادات النامية على شفا كارثة حقيقية.
ماذا يُريد “بايدن” من قانون “صنع في أميركا” ؟
عندما أصدر الديمقراطيون في “الكونغرس”؛ قانون خفض التضخم، الذي وقّعه “بايدن” في أجواء احتفالية، أثارت السياسات المُّدرجة في ذلك القانون اعتراضات عنيفة من جانب الحلفاء، فالقانون يهدف إلى تقليل اعتماد “الولايات المتحدة” على المورّدين الأجانب، وذلك عبر تقديم حوافز مالية لإنشاء المصانع وإنتاج السلع في “الولايات المتحدة”، التي من بينها السيارات الكهربائية.
واعتبر “بايدن” هذا القانون مهمًا لتوفير: “عشرات الآلاف من الوظائف عالية الأجر ووظائف تصنيع الطاقة النظيفة، ومصانع الطاقة الشمسية في الغرب الأوسط والجنوب، ومزارع الرياح في السهول والشواطيء الأميركية، ومشاريع الهيدروجين النظيفة وغيرها من المشاريع، في جميع أنحاء أميركا، وفي كل جزء من أميركا”.
وتناول تقرير لصحيفة (نيويورك تايمز) الأميركية؛ تداعيات ذلك القانون، والتي أغضبت حلفاء “واشنطن”، حيث تعرضت جهود “بايدن” لتعزيز التصنيع المحلي لانتقادات دبلوماسية من أكبر حلفاء “أميركا”، وتتهم الحكومات الأوروبية؛ إدارة الرئيس الأميركي، بتقويض العلاقات بينها وبين “الولايات المتحدة”، بإتّباعها سياسات: “صنع في أميركا” التي تُهدد اقتصاداتها.
ودفع هذا القانون؛ المسؤولين الأجانب، إلى اتهام إدارة “بايدن” بانتهاك قوانين التجارة بتوفيرها تسهيلات للشركات التي تتخذ من “الولايات المتحدة” مقرًا لها.
وقال “فالديس دومبروفسكيس”، مفوض “الاتحاد الأوروبي للتجارة”، للصحافيين في “واشنطن”، يوم الخميس 13 تشرين أول/أكتوبر: “يُقلقنا عدد من البنود التمييزية بحق شركات الاتحاد الأوروبي، وهي تُمثل مشكلة لنا بطبيعة الحال”.
وأعرب مسؤولون أوروبيون عن استيائهم لمسؤولين بارزين في إدارة “بايدن”، إزاء بنود قانون المناخ والطاقة لدعم الإنتاج المحلي للسيارات الكهربائية، قائلين إنه ينتهك قواعد التجارة الدولية التي تُلزم الدول بعدم التمييز في المعاملة بين الشركات الأجنبية والمحلية، وقالوا إن هذه البنود تضر صناعات السيارات المحلية في بلدانهم.
وقال “دومبروفسكيس”؛ إنه ومسؤولين أوروبيين آخرين سينقلون مخاوفهم إلى وزيرة الخزانة؛ “غانيت يلين”، التي تتحمل وزارتها مسؤولية تنفيذ جزء كبير من هذا القانون، إلى جانب؛ “كاثرين تاي”، الممثلة التجارية لـ”الولايات المتحدة”، و”جينا ريموندو”، وزيرة التجارة.
وفي اجتماع مع “دومبروفسكيس”، الخميس 13 تشرين أول/أكتوبر، قالت “تاي” إنها ترى: “أن التصدي لأزمة المناخ بجدية يقتضي الاستثمار في تقنيات الطاقة النظيفة”، وفقًا لبيان صادر عن مكتب الممثلة التجارية لـ”الولايات المتحدة”. وطلبت “تاي” و”دومبروفسكيس”: “من فريقيهما تكثيف المباحثات” في هذه المشكلة.
هل يطعن “الاتحاد الأوروبي” في شرعية القانون الأميركي ؟
يُناقش المسؤولون الأوروبيون الطعن في شرعية هذا القانون، الذي أقره الديمقراطيون، في “منظمة التجارة العالمية”، وهو إجراء قد لا يُثمر عن أي نتيجة، أو تقديم شكوى رسمية من خلال “مجلس التجارة والتكنولوجيا”؛ الذي تشكَّل العام الماضي.
ويتركز جوهر هذا الخلاف الدولي على أكثر من: 50 مليار دولار في شكل إعفاءات ضريبية لإغراء الأميركيين بشراء سيارات كهربائية، لكن القانون يُقصر هذه الإعفاءات على السيارات المجمعة في “أميركا الشمالية”.
ويفرض القانون أيضًا شروطًا صارمة على المكونات التي تدخل في تشغيل السيارات الكهربائية، التي تشمل البطاريات والمعادن المهمة المستخدمة في صنعها. وهذا يوفر حوافز جديدة للشركات المصنعة للبطاريات، تُشجعها على بناء مرافق إعادة التدوير والإنتاج في “الولايات المتحدة”.
والشركات الأجنبية التي تُصّنع السيارات وقطع غيّارها في “الولايات المتحدة” تُصبح مؤهلة أيضًا لهذه الإعفاءات، لكن بعض شركات صناعة السيارات الأجنبية، وخصوصًا الآسيوية منها، عادة ما تستورد مكونات أخرى في السيارات الكهربائية من خارج “الولايات المتحدة”، وهذا يعني أن طرازاتها المؤهلة للإعفاء الضريبي لن تكون كثيرة.
وهذا أثار اتهامات بأن بنود القانون كُتبت لصالح الشركات الأميركية؛ مثل (جنرال موتورز) أو (فورد)، وليس الشركات الأجنبية مثل: (تويوتا) و(هوندا)، رغم أن شركات أجنبية كثيرة استثمرت بكثافة في “الولايات المتحدة”.
“إدواردو مايا سيلفا”، المتحدث باسم “مجلس الأمن القومي”، قال لصحيفة (نيويورك تايمز): “نتفهم مخاوف بعض الشركاء التجاريين من بنود قانون الإعفاءات الضريبية للمركبات الكهربائية، وتأثيره على شركاتها المنتجة. ونحن ملتزمون بالعمل مع شركائنا لفهم مخاوفهم وفتح قنوات للتشاور في هذه القضايا”.
ويخشى المسؤولون الأوروبيون أن يدق هذا القانون الأميركي إسفينًا بين الشركات الأوروبية وبلدانها الأصلية، إذا تعرضت شركات صناعة السيارات؛ مثل (بورش)، لضغوط لإنشاء متجر لها في “الولايات المتحدة”، عوضًا عن فتح مزيد من مصانعها في “ألمانيا”.
ومنذ دخول القانون حيز التنفيذ، أعلنت شركات (هوندا) و(تويوتا) و(إل. جي إنرجي) الكورية الجنوبية؛ عن استثمارات ضخمة في البطاريات في “الولايات المتحدة”.
ويُشار إلى أن نسخة سابقة من القانون كانت تُقّصر الإعفاءات الضريبية على السيارات التي تُنتّجها “الولايات المتحدة” فقط، لكن: “كندا والمكسيك” اعترضتا، فتوسع في النهاية ليشمل جميع المركبات المُنتّجة في “أميركا الشمالية”.
وأعرب حلفاء “الولايات المتحدة”؛ في “آسيا”، عن مخاوفهم من هذا القانون أيضًا. فحين التقت نائبة الرئيس؛ “كامالا هاريس”، بقادة “كوريا الجنوبية”؛ في “طوكيو وسيول”، الشهر الماضي، لم يترددوا في التعبير عن إحباطهم.
وقبل ساعات من مشاركة “هاريس”؛ في جنازة رئيس الوزراء الياباني السابق؛ “شينزو آبي”، أعرب المسؤولون الكوريون، ومن ضمنهم رئيس الوزراء؛ “هان دوك سو”، عن مخاوفهم من هذا التشريع لنائبة الرئيس في اجتماع مغلق.
تضرر الشركات الكورية الجنوبية..
يقول “فرانك أوم”؛ الخبير البارز في شمال شرق آسيا في معهد (السلام) الأميركي، إن هذا الإعفاء الضريبي: “ضرر مباشر” لشركات كورية جنوبية؛ مثل (هيونداي) و(كيا)، التي لن تستفيد من هذا الإعفاء الضريبي.
وقال للصحيفة الأميركية: “كوريا الجنوبية؛ تشعر بأنها تعرضت لخيانة كبيرة بعد الاستثمارات التي نفذتها في بطاريات السيارات الكهربائية وأشباه الموصلات في الولايات المتحدة خلال العامين الماضيين”.
فقبل أشهر فقط من توقيعه على القانون، وقف “بايدن” مع رئيس شركة (هيونداي) في “سيول”، للاحتفال باستثمار الشركة الكورية الجنوبية في منشأة جديدة لتصنيع السيارات الكهربائية والبطاريات في “سافانا”؛ بولاية “جورجيا”.
وقالت “هاريس”؛ في اجتماعات مع “هان”، ولاحقًا مع رئيس كوريا الجنوبية؛ “يون سوك يول”، في “سيول”، إنها تتشاور مع “كوريا الجنوبية” حول تطبيق هذا القانون.
غير أن إدارة “بايدن” قلَّلت من شأن هذه التوترات، قائلة إنها تعتمد على علاقاتها القوية مع الحكومات الأخرى لمناقشة هذه الخلافات، وخوض معركة تغّير المناخ الأشد خطورة.
وأشارت “تاي”، في خطاب ألقته؛ في 07 تشرين أول/أكتوبر، في معهد “روزفلت”، وهو مركز أبحاث بـ”واشنطن”، إلى: “الآلية الحدودية لتعديل ضريبة الكربون” في “الاتحاد الأوروبي” – وهو مقترح يُشجع التصنيع النظيف عن طريق فرض ضريبة على السلع المستوردة بناءً على كمية انبعاثات الغازات الدفيئة من الإنتاج – معتبرة أن هذه الإجراءات الأوروبية قد تُسبب توترات مع الحلفاء أيضًا. وأضافت أنه يتعين على “الولايات المتحدة” و”أوروبا” حل هذه الخلافات والتعاون للتصدي لتغّير المناخ.
على أن خبراء التجارة نبهوا إلى أن جهود “الولايات المتحدة” قد تُواجَه بإجراءات شبيهة لتلك التي اعتمدتها “الولايات المتحدة”. وقال “برونو لومير”، وزير المالية الفرنسي، الشهر الماضي؛ إن على “الاتحاد الأوروبي” منح السيارات الكهربائية المُنتَجة داخل “الاتحاد الأوروبي”؛ التي تلتزم بالمعايير البيئية الصارمة حوافز مالية.
وقال “تشاد باون”، الباحث في معهد “بيترسون” للاقتصاد الدولي، إن السياسات الأميركية قد تأتي بنتائج عكسية على المدى الطويل، في حال واجهت السيارات أو المكونات الأميركية عوائق مماثلة في بيعها في “أوروبا” أو “آسيا”.
وقال لـ (نيويورك تايمز): “أظن أن الخطر الذي قد تواجهه الولايات المتحدة، لو لم تُنصّت لمخاوف الحلفاء، هو أنهم سيفعلون الشيء نفسه معها في النهاية”.