وكالات – كتابات :
على الرغم من حالة التفاؤل التي سادت؛ منذ مطلع شهر تشرين أول/أكتوبر الجاري، عقب تسلم “لبنان” و”إسرائيل” الرد الخطي بشأن ترسيم الحدود البحرية بين البلدين من الوسيط الأميركي؛ “آموس هوكستين” – إذ بدا أن البلدين أقرب من أي وقتٍ مضى إلى عقد تسوية للنزاع الحدودي البحري، وهو ما ظهر في تصريحات كبار المسؤولين في البلدين – يبدو أن حالة التفاؤل تلك قد تراجعت كثيرًا بعد إرسال الجانب اللبناني ملاحظات على المقترح الأميركي وإشارة وسائل إعلام إسرائيلية؛ يوم 06 تشرين أول/أكتوبر الجاري، إلى رفض الحكومة الإسرائيلية الملاحظات اللبنانية، وهو ما يعني تراجُع احتمالات التوصل إلى تسوية قريبة بين الطرفين، لا سيما مع تصاعُد المعارضة في الداخل الإسرائيلي ضد مسودة الاتفاق المقترحة.
ولعل هذا ما يُفسر إصدار وزير الدفاع الإسرائيلي؛ “بيني غانتس”، تعليماته للجيش يوم 06 تشرين أول/أكتوبر، بالاستعداد لاحتمال حدوث تصعيد على الحدود مع “لبنان”؛ بحسب ما يستهل “أحمد عبدالقادر يحيى”؛ تحليله المنشور على موقع مركز (إنترريغونال) للتحليلات الإستراتيجية.
رفض يميني..
تصاعدت مؤخرًا حدة الانقسام داخل “إسرائيل”؛ بشأن مسودة الاتفاق البحري مع “لبنان”؛ ففي حين بدا أن الحكومة الحالية متحمسة للتوصل إلى صفقة سريعة مع “لبنان”، تصاعدت حدة المعارضة اليمينية ضد مسودة الاتفاق المقترحة، وهو ما يُمكن استعراضه على النحو التالي:
01 – اتهام “نتانياهو” حكومة “لابيد” بالخضوع لـ”حزب الله”..
يُعد زعيم المعارضة الإسرائيلية؛ “بنيامين نتانياهو”، صاحب الصوت الأعلى في معارضة الاتفاق البحري مع “لبنان” برعاية أميركية؛ حيث اتهم “نتانياهو”؛ رئيس الوزراء الحالي؛ “يائير لابيد”: بـ”الاستسلام لتهديدات (حزب الله)”، واصفًا الصفقة بأنها: “اتفاق العار”، مُعتبرًا أن الاتفاق المقترح يتضمن التنازل عن: “أراضٍ ذات سيادة إسرائيلية”.
ولم تقف انتقادات “نتانياهو” عند حكومة “لابيد” بل وجه انتقادات لـ”الولايات المتحدة” لتوسطها في النزاع البحري بين “لبنان” و”إسرائيل”، معتبرًا أن الوساطة الأميركية ترقى إلى مستوى التدخل في الانتخابات الإسرائيلية.
الأخطر من ذلك أن “نتانياهو” هدد بأنه: “لن يكون مُلزمًا بالصفقة” إذا تمكن من تشكيل حكومة يمينية عقب الانتخابات المُزمع عقدها في تشرين ثان/نوفمبر القادم، وهو ما من شأنه وضع المزيد من الضغوط على حكومة “لابيد”؛ حيث يرى “نتانياهو” أن اتفاقًا كهذا يحتاج إلى موافقة (الكنيست) بأغلبية: 80 عضوًا أو إجراء استفتاء شعبي، وهو ما يتعذر توفيره في الوقت الحالي؛ إذ تمر “إسرائيل” بفترة انتخابات.
02 – تحفظ “بينيت” على بنود الصفقة المقترحة..
في خطوة من شأنها أن تُساهم في عرقلة جهود الحكومة الحالية لتوقيع الاتفاق قبل الانتخابات القادمة، أبدى رئيس الوزراء الإسرائيلي المناوب؛ “نفتالي بينيت”، تحفظه على الاتفاق المرتقب، لافتًا إلى أنه يُلبي كل المطالب اللبنانية، كما اعتبر “بينيت” أن: “الاتفاق الذي يدور الحديث عنه يختلف عن الذي عرفه؛ وعن الذي عُرض أمام (الكابينت)”.
وبوجه عام يبدو أن تحفظات “بينيت” نابعة في الأساس من كون الصفقة المقترحة حاليًا لا تتحدث عن الاتفاق حول خط حدودي بحري رسمي مُعترف به ومتفق عليه بين الدولتين، بل حول تسوية وضع راهن فقط.
وفي هذا الصدد؛ أشارت تقارير إعلام إسرائيلية، يوم 08 تشرين أول/أكتوبر الجاري، إلى أن رئيس الوزراء البديل؛ “نفتالي بينيت”، يرغب في الاستقالة من منصبه في أقرب وقتٍ؛ لأنه لا يُريد أن يكون موقعًا على الأمور التي يقوم بها رئيس الوزراء؛ “يائير لابيد”، مثل مسألة الاتفاق مع “لبنان”.
03 – تقديم رئيس المفاوضين الإسرائيليين استقالته..
في تطور لافت يؤكد عُمق الانقسام داخل “إسرائيل” بشأن مسودة الاتفاق المقترح، أكدت “وزارة الطاقة” الإسرائيلية استقالة رئيس طاقم المفاوضين مع “لبنان” بشأن النزاع البحري؛ “أودي أديري”.
وعلى الرغم من تأكيد مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي؛ أن: “الاستقالة جاءت احتجاجًا على تجاهل مكانته رئيسًا للوفد المفاوض، وتفويض رئيس مجلس الأمن القومي؛ إيلي حولتا، مسؤولاً عن المفاوضات، الذي سافر إلى واشنطن على رأس وفد للتشاور مع الوسيط الأميركي حول مسودة نص الاتفاق”؛ فإن بعض المصادر أشارت إلى أن السبب الحقيقي للاستقالة يعود إلى عدم موافقة “أديري” على مسودة الاتفاق.
04 – استدعاء “المحكمة العليا” للنظر في الاتفاق..
حاول الاتجاه الرافض للاتفاق استدعاء “المحكمة العُليا” وإقحامها في حالة الجدل القائم؛ إذ حددت المحكمة جلسة يوم 28 تشرين أول/أكتوبر الجاري، للنظر في استئناف ضد اتفاق ترسيم الحدود البحرية.
وقد دفع البعض بأن عرض الاتفاق على المحكمة يُعتبر شرطًا ضروريًا على اعتبار أن: “الحكومة الحالية ليست مخولة الصلاحية للتوقيع على الاتفاق”.
علاوة على ذلك؛ اعتبر البعض أن الموعد المحدد لنظر المحكمة في الاتفاق، الذي يأتي قبل أيام قليلة من الانتخابات الإسرائيلية؛ بداية شهر تشرين ثان/نوفمبر القادم، يُضعف قدرة الحكومة الإسرائيلية الحالية على إبرام الاتفاق.
دعم حكومي..
بغض النظر عما أشارت إليه بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية؛ يوم 06 تشرين أول/أكتوبر الجاري، من أن “إسرائيل” أبدت اعتراضها على الملاحظات اللبنانية الأخيرة على: “مسودة هوكستين”، باعتبار أنها تحمل تعديلات جوهرية على المسودة، فإن الاتجاه العام للحكومة الإسرائيلية الحالية يدفع باتجاه التوصل إلى اتفاق مع “لبنان” حول ترسيم الحدود البحرية، وهو ما يرجع إلى جملة من الأسباب، يمكن استعراضها على النحو التالي:
01 – تحقيق “إسرائيل” مصالح اقتصادية وأمنية..
يرى الجناح المؤيد لمسودة الاتفاق مع “لبنان” أن الصفقة المقترحة تُحقق المصالح الاقتصادية والأمنية لـ”إسرائيل”؛ حيث سيسمح لها الاتفاق بزيادة صادرات “الغاز الإسرائيلي” إلى “أوروبا” مع بدء عملية الإنتاج من حقل (كاريش)؛ حيث تم استثمار مليارات الدولارات هناك.
كما أن التنقيب في المنطقة دون اتفاق مع الجانب اللبناني يحمل الكثير من المخاطر بعد تهديدات (حزب الله) المتكررة باستهداف منصات استخراج النفط الإسرائيلية في حقل (كاريش)، وهي التهديدات التي وصلت إلى حد تحليق: 03 مُسيّرات للحزب فوق الحقل؛ في شهر حزيران/يونيو الماضي، في إشارة إلى جديتها؛ حيث أعلن الجيش الإسرائيلي حينها عن اعتراض هذه المُسيّرات.
وبوجه عام، فإن الحكومة الإسرائيلية يبدو أنها حريصة على تحقيق أكبر قدر من الاستقرار الأمني في الشمال مع اقتراب الانتخابات الإسرائيلية وتدهور الأوضاع الأمنية في “الضفة الغربية” بشكلٍ كبير؛ ما يُسبب “إرهاقًا” للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية.
02 – مُساهمة الصفقة في تقليص نفوذ “حزب الله” بلبنان..
ترى بعض الاتجاهات في “إسرائيل” أن حصول “لبنان” على منصة غاز من شأنه أن يُعطي جرعة دعم للاقتصاد اللبناني المنهار؛ الأمر الذي يقوي الحكومة ضد نفوذ (حزب الله) في “لبنان”، إلا أن هذه التبريرات عادة ما تواجهها انتقادات حادة من اليمين الإسرائيلي الذي يرى أن الصفقة الحالية ستُعزز نفوذ (حزب الله) و”إيران” في “لبنان”.
وفي رؤيتهم فإن الموافقة على الصفقة يجعل (حزب الله) كأنه: “هو الذي أجبر إسرائيل على الرضوخ للصفقة” بعد سنوات من النزاع.
03 – سعي الحكومة الإسرائيلية إلى تحقيق مكاسب انتخابية..
لا ينفصل الجدل الدائر في “إسرائيل” بشأن الصفقة مع “لبنان” عن التجاذبات الانتخابية الحالية بين معسكر اليمين؛ بقيادة “نتانياهو”، والحكومة الحالية بقيادة؛ “لابيد” و”غانتس”.
وترى بعض التقديرات أن الحكومة الحالية حريصة على التوصل إلى اتفاق قبل الانتخابات القادمة بما يُحقق المصالح الأمنية والاقتصادية لـ”إسرائيل”؛ ويمنع الانزلاق إلى حرب في الشمال؛ الأمر الذي يُعزز المكاسب الانتخابية لها على حساب مُعسكر اليمين.
وفي هذا الصدد؛ وجه “لابيد” انتقادات حادة لـ”نتانياهو”، قائلاً: “لمدة 10 سنوات فشلت في محاولة تحقيق هذا الاتفاق. عليك الآن على الأقل ألا تضر بمصالح إسرائيل الأمنية، وألا تُساعد (حزب الله) برسائل غير مسؤولة”.
يأتي هذا فيما اتهم وزير الأمن العام؛ “عومر بارليف”؛ “نتانياهو”: “بالتصرف مثل حسن نصرالله”، فيما اتهم وزير الدفاع الإسرائيلي؛ “بيني غانتس”؛ “نتانياهو”، بأنه ينطلق من: “اعتبارات سياسية غير مسؤولة”.
04 – تعميق العلاقات مع الإدارة الأميركية الحالية..
يرى الاتجاه الداعم في “إسرائيل” للوصول إلى صفقة مع “لبنان” بشأن المناطق البحرية المتنازع عليها؛ أن الصفقة من شأنها أن تُساهم في تعميق العلاقات مع الإدارة الأميركية الحالية التي تبذل قصارى جهدها للتوسط بين “لبنان” و”إسرائيل”، لا سيما مع توقعات بأن يُساهم إنتاج حقل (كاريش) في زيادة صادرات “إسرائيل” من الغاز إلى “أوروبا”، وهو ما يتسق مع وعود “لابيد” بالمشاركة في الجهود الرامية إلى إيجاد بديل لـ”الغاز الروسي” في “أوروبا”، وأن “إسرائيل” تعتزم تزويد “أوروبا”: بـ 10% من الكميات التي كانت توفرها “روسيا” قبل اندلاع الحرب الأوكرانية.
ومن ثم؛ فإن مكاسب “إسرائيل” – وفق الداعمين للصفقة – لن تقتصر على الأبعاد الاقتصادية والأمنية فحسب، بل تمتد إلى الأبعاد السياسية، خاصة مع توتر العلاقات بين “تل أبيب” و”موسكو” مؤخرًا.
مرحلة حرجة..
خلاصة القول: على الرغم من تعدد المُحفزات التي تدفع الحكومة الإسرائيلية نحو الموافقة على المسودة الأميركية لاتفاقية ترسيم الحدود مع “لبنان”، فإن الضغوط والانقسام الداخلي المتصاعد قد يُعرقل جهود التوصل إلى صفقة كهذه قبل الانتخابات المقررة في تشرين ثان/نوفمبر القادم، لا سيما أن بعض الاتجاهات المُعارضة في “إسرائيل” ربما ترى أن الصفقة قد تدفع أطرافًا أخرى، مثل (حماس) أو “قبرص”، إلى الضغط على “تل أبيب” للتوصل إلى صفقات مشابهة لتلك التي يتم تحضيرها مع “لبنان”، كما يبدو أن الصفقة أثارت بعض الانقسامات داخل الحكومة الإسرائيلية الحالية فيما يتعلق بنواحيها القانونية.
ولعل هذا ما يُفسر تراجُع “تل أبيب”؛ يوم الخميس 06 تشرين ثان/أكتوبر الجاري، عن موافقتها الأولية على مسودة الوسيط الأميركي؛ “آموس هوكستين”، بعد الملاحظات التي قدمها “لبنان” على الوثيقة والتي اعتبرها بعض الدبلوماسيين الغربيين: “تعليقات بناءة ولا تتضمن بنودًا يُمكن أن تمنع إبرام اتفاق”، في حين اعتبرها بعض المسؤولين الإسرائيليين محاولة “للابتزاز” لتحقيق المزيد من المكاسب.