كتب احد الاصدقاء على صفحة الفيسبوك في معرض نقده للمجتمع العراقي
” لا يوجد شيء اسمه التعايش في تاريخ المكوّنات العراقية ” وشرح ذلك مطولا .
يبدو انه على حق عندما يشاهد المظاهر الحالية البعيدة عن واقع التعايش الذي كان سائدا في العراق . وهذا شأن كثير من الناس الذين نسوا روح التسامح والتعاطف بين الطوائف اومايسمى بمكونات الشعب العراقي . هذه التسمية التي جاءت في الدستور العراقي بقصد تكريس الانقسام في اوساط الشعب .
ونتيجة لهذا التقسيم الجائر ، واشاعة التفرقة الطائفية ، نسي الناس او تناسوا الصفات الحميدة التي اتسم بها المجتمع العراقي منذ امد ليس بالقصير ، ومنها التعايش والتآلف بين اطياف المجتمع ، رغم كثرة الأعراق والطوائف والأديان ، وهذا واقع عشناه فعلا قبل الغزو الامريكي للعراق ، وكتابة الدستور المشبوه الذي ينظر الى العراق كدولة مكونات .
إن التعصب الديني والطائفي الذي نشاهده اليوم نشأ عن الحروب السياسية في المنطقة والتي غلفت بطابع ديني او مقدسات مزعومة من اجل تحشيد الافراد لمناصرتها باسم الدين والطائفة .
وان الدوامة التي يعيش فيها الشعب العراقي اليوم تعود الى تكريس الانقسام وزعزعة الثقة بين اطيافه المتنوعة وهذه حالة طارئة وفتن مصطنعة لاحداث الخراب في الدولة ومؤسساتها . بهدف السيطرة على مقدرات البلد وثرواته الطبيعية ومنها الطاقة بكل أشكالها .
ان الشعب العراقي لم يكن يعرف التفرقة الطائفية ، رغم تعدد الطوائف والفرق الدينية والاثنية ، فيما عدا فئة قليلة من المتطرفين ! .
والمجتمع العراقي على العموم متعايش عبر تاريخه المديد ، وعاش ابناء العراق سوية من مسلمين ومسيحيين على مختلف طوائفهم ، وقبلها اليهود ايضا” قبل فتنة الفرهود المصطنعة عام 1948 لترحيلهم الى فلسطين ، وكلهم متجاورون ومتحابون . وقد ترتب عليهم “ضمنيا” مسؤولية الاستقرار المجتمعي والأمان الحياتي والتعايش السلمي .
الشعب العراقي من الشعوب والمجتمعات التي تتكون من انتماءات اثنية ودينية ومذهبية متعددة ، ولم تشكل هذه الحالة عقبة امام التسامح والتعايش بين ابناء البلد الواحد . وكانت كل الاحزاب السياسية او جلها تضم خليطا من كل هذه الانتماءات والفئات .
ولم نشهد اي عائقا امام التعايش السلمي والتفاعل الايجابي بين ابناء البلد الواحد .
وما النعرات الطائفية والفتن التي مرت على العراق خلال العقدين الاخيرين ، والتهجير القسري الذي نراه اليوم ، الا ثمرة من ثمرات العناصر الجاهله والمتعصبة التي امسكت بزمام الحكم بعد الاحتلال الامريكي للعراق ، الذي سعى لاحداث الفرقة بين ابناء الشعب الواحد هو وبعض دول الجوار على وفق مبدأ فرق تسد ، حتى انكفأ الناس على اعراقهم وطوائفهم لحاجتهم للامن والاستقرار النفسي .
ذكر الدكتور منقذ داغر في مقاله رحلة الى الاسلام في الحلقة الخامسة المنشور في جريدة الزمان مايلي :
كنت أناقش أحد الأساتذة الأميركان المتخصصين في الأجتماع السياسي بأن المجتمع العراقي ليس مجتمعاً طائفياً وقلت له أن 5 من أخوتي السبعة تزوجوا من الطائفة الأخرى،وأن ما تحاولون بناؤه من نظام يقوم على التقسيم الطائفي هو محاولة خاطئة ستكون لها أنعكاسات سلبية،فالشعب العراقي أكثر تجانساً مما تعتقدون أو أوهمتكم به المعارضة. قال لي،لماذا لا تجرب بنفسك وتقيس مدى طائفية مجتمعك؟ قلت كيف؟قال أسأل الناس عما أذا كانوا يعرّفون أنفسهم كمسلمين فقط أم يضيفون لها طائفتهم أيضاً. بعد أنجاز الأستطلاع أتصلت فرِحاً بزميلي البروفسور الأمريكي لأخبره أن 75%من العراقيين عرّفوا أنفسهم كمسلمين فقط،ولم يعرّف سوى 25% أنفسهم بأنهم شيعة أو سنة،مما يثبت نظريتي في هذا الخصوص بأن الطائفية في العراق هي ظاهرة سياسية وليست أجتماعية. أجابني قائلاً، أنتظر لبضع سنين قادمة ولنرى أذا كانت هذه النتيجة ستبقى !
فعلاً،بعد 10 سنين على الأحتلال أنقلبت النسبة لتصبح 25% فقط يقولون أنهم مسلمون فحسب،و 75% قالوا انهم أما مسلم شيعي أو سني !
هنا عرفت أن الهوية الطائفية صارت سمة مجتمعية للاسف،وأنها أنتقلت الى مستوى آخر من الظهور والخطر .
كانت الصدمة الطائفية الأخرى هي نص الدستور العراقي حين قرأته. هذا الدستور كرس (المكون) الطائفي (ديني أو قومي) كأساس للمواطنة ليس في مقدمته الغريبة فحسب بل في أكثر من فصل ومادة من مواده. دستورنا العتيد نص بغرابة على أننا شعب العراق(الذي قرر بمكوناته وأطيافه الأتحاد بنفسه…) ! وكأننا قبل ذلك كنا مشتتين الى طوائف وقررنا بعدها(الأتحاد) !
لقد بات الجميع الان يدرك كيف تم ملء الدستور العراقي(عمداً أو جهلاً)بمختلف الألغام ومنها الطائفية دون وجود أي أمكانية لتغييره،في المدى المنظور على الاقل . “انتهى”
ان حكام العراق الذين جاءوا مع المحتل الامريكي قد تسببوا عن عمد بهذه الحالة لتمزيق النسيج الاجتماعي للشعب بهدف اشغاله بشؤون ثانوية تضمن بقائهم في السلطة ، تساندهم بعض الدول بقصد التوسع ، وبسط النفوذ عن طريق المدخل الطائفي والعرقي وخلق الفوضى وتفتيت المجتمعات ، مما تسبب في قهر الشعوب وفشل الدول حتى انتشر الفساد والخراب والمخدرات ، كما ضعفت او انعدمت الخدمات ذات المساس بحياة الناس ومستقبل ابنائهم .
ان التعصب الطائفي مرض عضال اذا انتشر في اي مجتمع فككه ، وقد يؤدي الى زوال الدولة . وكم من دول زالت من الخارطة السياسية والجغرافية في القرون الماضية نتيجة الغلو والحروب الطائفية والاثنية .
ان اغلب دول العالم فيها اثنيات وطوائف واديان وهي تتعايش في مجتمعات آمنة .
ففي امريكا مئات القوميات والاديان والطوائف في ظل حكومات مستقرة . والهند اصبحت مثال يحتذى به في روح التسامح والتعايش رغم الاف العقائد والاديان والطوائف والاثنيات !
َّ وهناك العديد من الدول ذات الاديان والاثنيات المختلفة مثل اليابان وكندا وماليزيا وسنغافورة وغيرها .
وتعتبر التعددية العرقية والطائفية ظاهرة عالمية، تنتشر في كثير من الدول المتقدمة والنامية على حدٍ سواء .
ولايمكن ضمان السلام والاستقرار الا عن طريق التعايش بين فئات الشعب المختلفة .
فالتعايش قيم اخلاقية وسمة انسانية عصرية ، وبعكسه سنعود الى شريعة الغاب .
ليس المطلوب ان نحرر انفسنا من الانتماء القومي او الطائفي فلكل فرد انتماءه وعقيدته .
ولكن يتوجب علينا جميعا الانفتاح والتعايش السلمي ، وتقبل الآخر بغض النظر عن دينه او قوميته او طائفته والتمسك بالهوية الوطنية بديلا عن الطائفية
والعرقية، والابتعاد عن التحاور المتزمت او الاستفزاز من اي جهة كانت والسمو على خطابات التظليل والخداع ، والابتعاد عن فتاوى التكفير او اجترار الماضي من اي جهة كانت .
والنظر الى الاخرين بعيون انسانية بعيدة عن الانتماءات العرقية أو الطائفية أو الدينية ، وان نتحلى بقيم الاحترام والتقدير . ولانكون ادوات بيد من هب ودب للتلاعب بافكارنا ومستقبلنا بدعاوى مزيفة .
كما يقع على عاتق المثقفين والمجتمع المدني مسؤولية نشر قيم التسامح واحترام الغير ، وقبول التنوع والاختلاف بين اوساط المجتمع .
ومن الضرورة القصوى سمو الدساتير عن التمييز العرقي والطائفي . وأن تترفع النخب الحاكمة عن التمييز الطائفي والمحاباة تحت اي حجج مثل حماية المقدسات ، او استحضار التاريخ واجترار الماضي ، او التحريض على الانتقام .
وان تسعى الحكومات لنشر مفاهيم الانتماء المشترك للوطن ، وترسيخ قيم المواطنة بدل التعصب الطائفي . والعمل على بناء اسس التعايش والتواصل بين الاهالي
لتقديم برامج تنموية ، وتحديد الاهداف المستقبلية وطرق الوصول إليها . . مع السعي لتحرير الافراد من التبعية العصبية للعشيرة والطائفة او المعتقدات المتعصبة . .
باختصار نحن بحاجة الى حكم ديموقراطي حقيقي بعيد عن التحزبات الطائفية ، وان يسمو على الانحياز الفئوي والشوفوني . ويعزز روح المواطنة والتٱلف بين ابناء الشعب الواحد . توحدهم الاهداف والامال المشتركة ويجمعهم التعايش السلمي ليساهموا جميعا في صناعة المستقبل الواعد لهم ولاجيالهم . .