أبو الجيش العراقي هو اللقب الذي أطلِقَ على الشَهيد الراحِل جَعفر باشا العَسكري لدَوره الريادي بتأسيس الجَيش العراقي ووَضع لبناته الأولى، وهي خُطوة سَبقت تأسيس الدَولة العراقية في سابقة لم يَعرفها تأريخ الدُول، ربّما لقناعة توَصّلت أليها سُلطات الإستِعمار البريطاني والنخبة السياسية العراقية حينَها، مِن أن أهم ما يَحتاج له العراق هو جَيش قوي يَحمي أرضه وشَعبه وكيانه المُهَدّد دائِماً وأبَداً مِن الذِئاب والضِباع المُفترسة التي تحيط به مِن كل حَدب وصَوب.
لم يَكن لقب العَسكري الذي ألحِق بأسم جَعفر باشا إشارة لمَسلكه كعَسكري، بَل نِسبة لقرية عَسكر القريبة مِن كركوك، والتي يَنتسِب اليها بأصلِه. ولِدَ الراحِل في بغداد وأكمَل فيها دراسَته الإبتدائية والإعدادية، ثم سافر للإستانة ليكمل دراسته الأكاديمية بالكلية الحَربية التي تخرّج مِنها برُتبة مُلازم، ألتحَق بَعدها بالجيش التركي، ثم أرسِل في بعثة تدريب الى ألمانيا فأقام فيها ثلاث سنوات، عادَ بَعدَها وإشترَك في حَرب البَلقان وجُرح فيها. بَعد إندِلاع الحَرب العالمية الأولى وإنطلاق شرارة الثورة العربية تطوّع في جَيشِها وقاتل في صُفوفه حَتى باتَ أحَد أبرَز مُساعدي الأمير فيصَل الأول، عاد بَعدَها الى بَغداد ليُشرف مَع صَهره ورَفيق دَربه نوري باشا السَعيد على وضع اللبنات الأولى للجَيش العِراقي. لم يَكن إختيار جَعفر باشا لهذه المُهمّة إعتباطِياً، فخِبرته الأكاديمية التي إكتسَبها مِن دراسَته بالأستانة، والمَيدانية التي اكتسَبها مِن خِلال مُشاركته بعَشَرات المَعارك أهّلته بجَدارة لهذه المُهمّة، فقد عَمِل في الجَيش العُثماني والالماني ثم العَربي قبل تشكيل الجَيش العراقي، وخِدمَ مَيدانياً في البلقان والعراق وليبيا ومصر والجزيرة وبلاد الشام، وكان يَتكلم العَربية والتركية والكردية والفارسية والالمانية والفرنسية والانكليزية.
كان جَعفر العَسكري شَخصِيّة نادِرة بَين شَخصِيّات العِراق التي تسَلمَت مَقاليد المَسؤولية فيه عند بدايات تأسيس دَولته الفتيّة، فقد كان مِثالاً للخُلق الرَفيع والنَبيل الذي كان يُمَيّز جيل الرُوّاد مِن بُناة الدولة العراقية، ثم بَدأ بالتلاشي حَتى باتَ مَعدوماً في العُقود الآخيرة. فرَغم شِدّته وقوة شَخصِيّته، إلا أنه كان وَدوداً لطيفَ المَعشَر، عُرف ببَساطته بالتعامُل مَع الآخرين وعَدَم إساءته لأحَد في حَياتِه، كان ظريفاً ومَرحاً وصاحِب نكتة لا تفارق الإبتسامة مُحَيّاه، وتروى عَنه قصَص طَريفة ومَقالب مُنوّعة. عُرف عَنه شَجاعِته ولباقتِه السِياسية وثقافته العَسكريّة والقانونية، كان ذكياً يُحِب القراءة وإلتحَق خِلال إقامَته في لندَن بإحدى كليات الحُقوق لدِراسة القانون رَغبَة بالإستِزادة مِن العِلم وليسَ لحاجَة الى شَهادة، فقد وَصَل لأعلى مَناصِب الدولة، وأصبَح رَئيساً لوزرائِها مَرّتين وَوَزيراً لدفاعِها خَمس مَرّات.
لقد كانَت سيرة الرَجل بحَق سيرة عَطِرة مَليئة بالإنجازات الكبيرة، وأحياناً بالمُغامَرات، نتيجة للجُرأة التي كان يتمَتع بها خُصوصاً في المَواقِف الحَرجة، والتي كانَت السَبَب في أن تنتَهي هذه السيرة نهاية مَأساوية مُحزنة. ففي سَنة 1936 وعِندَما فاجَأ بكر صدقي وزارة الهاشمي بإنقلابه المَعروف، قرّر جَعفر باشا الذي كان وزيراً للدِفاع التوجّه بنفسِه الى القطَعات الزاحِفة على بَغداد لمُحاورتِها وإيقافها لا سِيّما وقد إستقالت الوزارة، في خطوة لم تخلو مِن الجُرأة والمُخاطرة، إلا أنه كان يُراهِن على أن ما يُكِنه له ضُباط الجَيش وجُنوده مِن مَحَبّة واحترام سَيُمَكنه أن يُثني هذه القطَعات عَمّا تعتزم القيام به ويُحبط مُحاولة بكر صدقي، فاتصل به وأبلغه بقدومِه إليه حامِلاً رسالة مِن المَلك غازي. لكن بكر صدقي كان يَتحَيّن الفرصة للتَخلص مِن جَعفر العَسكري صَهر الرَجل القوي وَزير الخارجية آنذاك نوري السعيد، لذا رَتّب الأمر مَع أتباعِه مِن الضُباط لإغتياله، وما أن وصَل الفريق جَعفر العَسكري إلى المَنطقة المُحَدّدة قربَ بعقوبة حَتى جَرّدوه مِن سِلاحِه، بَعدها تقدّم عَدَد مِن الضُباط وَوَجّهوا صَوبَه وابلاً مِن الرَصاص فلقيَ مَصرَعه في الحال، وسقط أبو الجَيش العراقي مُضَرَجاً بدمائه على يَد أبناء هذه الجَيش!!
وهكذا طويَت صَفحة أخرى مِن صَفحات التأريخ الحَديث للعِراق، صَفحة تحوي السِفر الجَليل لأحَد أهَم وأبرَز بُناة هذه التأريخ، إلا أنها لم تطوى بالطَريقة التي يَستحِقها هذا الرَجُل وأمثاله، بَل طويَت بالطريقة اللاإنسانية الدَمَوية البَشِعة التي عُرف بها تأريخ هذه البلاد وشَعبها، طريقة إمتازَت بالغَدر والقسوة ونُكران الجَميل لكل ماهو مُشَرّف في هذا التأريخ، وهو أمر يَستحِق البَحث والدراسة في تركيبة هذا الشَعب، وجُهد بَدأت تتّجه له اليوم أنظار الكثيرين، نتمنى أن يُثمِر عَن نتائِج مَلموسة ذاتَ نفع وفائِدة لتغيير هذا الوَضع الشاذ أو على الأقل إصلاحِه في المُستقبل الذي نرجوا أن لا يَكون بَعيداً جداً كما نظن ونتوَقع.
المَصادِر:
1ـ نجدة فتحي صفوة (مَقال في مَجلة الف باء العَدد 745)
2ـ جيمس موريس (كتاب الملوك الهاشميّون).