خاص: إعداد- سماح عادل
“خيري الذهبي” كاتب وروائي وسيناريست ومؤرخ سوري.
حياته..
ولد خيري الذهبي في دمشق غادر إلى مصر في بداية ستينيات القرن العشرين، وتلقى هنالك تعليمه الجامعي في جامعة القاهرة وتخرج منها حاملاً الإجازة في اللغة العربية، حيث درس الأدب العربي وتتلمذ أدبياً على يدي “يحيى حقي ونجيب محفوظ وطه حسين”.عاد بعد ذلك إلى سوريا وساهم في الحركة الثقافية السورية، بكثافة في الصحافة والإذاعة والتلفزيون والأدب بشكل خاص.
حاز على جائزة أدب الأطفال الأولى في سبعينيات القرن العشرين، وشارك في تحرير العديد من دوريات وزارة الثقافة واتحاد الكتاب، عاش سنوات طويلة في النضال من أجل الحرية والكرامة الإنسانية ونشر مبدأ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتعددية السياسية في سوريا، فبعد أن أسره جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي اختطفه من موقع خدمته في الجولان السوري المحتل، حصل على وسام الشجاعة والشرف من الجمهورية العربية السورية، فتفرغ للعمل الثقافي والأدبي والنهضوي.
دفع أثماناً باهظة لنشاطه الفكري والسياسي في الثمانينيات والتسعينيات، حيث سحب جواز سفره ومنع من السفر مرات عديدة، إضافة إلى تسريحه من عمله في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون عام 1991 بعد توقيعه على بيانات وعرائض احتجاجية ومشاركته في الحراك السلمي المدني. لم ينتم “خيري الذهبي” إلى أي تيار أو حزب سياسي، وبقي مستقلاً تماماً ليبرالي الفكر، عروبي النزعة، داعماً لفكرة المواطنة والمجتمع المدني الديمقراطي ومبدأ فصل الدين عن الدولة. ثم غادر سوريا بعد عام 2012 وانتقل إلى مصر ومنها إلى الامارات ومن ثم الأردن وبعدها انتقل للإقامة في فرنسا.
التاريخ والرواية..
في حوار معه أجراه “هيثم حسين” يقول “خيري الذهبي” عن علاقة رواياته بالتاريخ: “وهل الرواية إلا شكل من حبس العالم خارج السيرورة الزمانية المعيشة لتصبح “التاريخ” ولو راجعت كل الروايات التي كتبت، فسترى أنها التاريخ، تاريخ ما حدث، تاريخ الماء الذي انسكب وحالما انسكب، ومهما ادعيت أن انسكابه سيكون في المستقبل إلا أنه انسكب حسب النص وصار “التاريخ” وربما ماعدا روايات الخيال العلمي والتي يتواطأ فيها الكاتب والقارئ على أنها تجري في المستقبل، فإن كل الروايات هي “التاريخ” فأنت إما أن تكون مخلصا للفن فتخون التاريخ، وإما أن تخلص للتاريخ فتخون الفن، ولذا فليس هناك من رواية ليست “التاريخ”.
على أية حال فأنا لا أكتب الرواية التاريخية، ولم يسبق لي أن كتبت الرواية التاريخية بالمعنى الذي تقصده، فللرواية التاريخية شروط من أهمها أن تكون ملتزما بالحادثة التاريخية، فتصبح عبدا لما “حدث” وما حدث ملك للجميع يستطيع أي قارئ أن يكتشف مغالطتك فيه ولو كان ذلك لدوافع فنّية، فيتوقّف، ليقول لك بصوت جارح: توقّف فقد أخطأت. وبذا تسقط فنّيتك.
إن اعتبرت رواية “اسم الوردة” للإيطالي أمبرتو إيكو، تاريخية، فأنا أكتب الرواية التاريخية، وكذلك إن اعتبرت “ذهب مع الريح” للأميركية مارغريت ميتشل رواية تاريخية، وهاتان روايتان صنعتا من التاريخ مادة روائية، وكسالى النقاد ممن صنعوا وانتشروا بعثيا، يحبّون دوما الإجابات السهلة التي لا تسبّب لهم وجع الرأس، ولذا فهم يسمّون كل من يكتب عن التاريخ كاتبا تاريخيا، أما أنا فأكتب الرواية التي تتّخذ من التاريخ مادة للكتابة مستفيدا من التاريخ كما يستفيد البعض من علم النفس، ومن علم الجرائم “الكريمينولوجي” مادة للكتابة”.
“الإصبع السادسة”..
وعن روايته “الإصبع السادسة” يقول: “في رواية “الإصبع السادسة” حاولتُ قراءة ما الذي جرى لأولئك الذين آمنوا بما بشّر به إبراهيم باشا من الحقوق والواجبات الثورية الفرنسية بعد انسحاب إبراهيم باشا من الشام، ما يجري الآن في سوريا هو شكل من أشكال خيبة الثورة البورجوازية الفرنسية التي حملها إلينا إبراهيم باشا عام1831، وكانت الأمل في إخراج سوريا من الحمأة الآسيوية التي غرقت فيها منذ الغزوات البدوية القادمة من عمق آسيا.
حين وصل إبراهيم باشا إلى الشام، كان معه عدد من ضباط بونابرت حاملي أفكار الثورة التي غيّرت مسيرة العالم، وكان أشهرهم الكولونيل سيف، الذي سنعرفه من الأدبيات المصرية تحت اسم سليمان باشا الفرنساويّ، وهؤلاء البونابرتيّون لم يكونوا عسكريّين محترفين فقط، بل كانوا رسل الثورة الفرنسية.
وكان من أهم ما حاول إبراهيم باشا تغييره في الشام هو الفواصل ما بين الناس من مَوال وعرب، ومسلمين وذمّيين، ذلك حين ألغى البنى القديمة كلّها بما فيها الجِزية، وفرض المفهوم الفرنسيّ “المواطنة” بما لها من حقوق وعليها من واجبات.
في رواية “الإصبع السادسة” حاولتُ قراءة ما الذي جرى لأولئك الذين آمنوا بما بشّر به إبراهيم باشا من الحقوق والواجبات الثورية الفرنسية بعد انسحاب إبراهيم باشا من الشام، ووقوع الشام ثانية تحت “البسطار” العثماني، وكيف تعامل معهم المؤمنون بثبات التاريخ وقابلية ديمومته، وما المخاضات التي عاشوها حتى ظهر فيهم المسرح وأبو خليل القباني، وعبد الرحمن الكواكبي، وقسطاكي الحمصي، وأحمد فارس الشدياق، وفرانسيس مرّاش وغيرهم”.
“فخ الأسماء”..
في حوار آخر معه أجراه “ماجد رشيد العويد” يقول “خيري الذهبي” عن “فخ الأسماء” والحضارة العربية الإسلامية: ” أنا أعتقد وهذا رأي شخصي أن الحضارة العربية الإسلامية كانت في طريقها إلى صنع بورجوازيتها المدينية منفصلة عن “المقاطعجية” العسكرية والسيطرة المطلقة لمؤسسة الخلافة على المجتمع. كانت الثروات قد تراكمت في المدن، وكان التجار الكبار والصناع الكبار على طريقتهم طبعاً، قد بدأوا في التشكل، وكان المتمردون على النظام الاستغلالي للمدن المركزية قد بدأ. ولنذكر ثورات الزط والقرامطة والزنج والخرميين “جماعة بابك الخرمي” والثوريين المحترفين سعياً وراء العدل الخوارج.
كان هذا كله على طريق بناء المجتمع البورجوازي، متصالح الرأسمالية وهي كلمة لنعتبرها اصطلاحية وبين الثوريين الساعين إلى توزيع جديد للثروة، ولو تم هذا الصلح ونشأت البورجوازية فلربما ما وصلنا إلى ما نحن عليه الآن من هزيمة كاملة للبورجوازية وصحوة كاملة للقبلية والطائفية والمذهبية، بل العائلية على حساب المجتمع الحديث البورجوازي بالمعنى الدقيق لكلمة بورجوازي التي تعني مديني، سكان المدن، وليس بالمعنى المبتذل الذي حمّله صغار السياسيين معنى السباب والشتيمة.
لكن ما حصل هو أن المجتمع وهو في قمة تحضره للانتقال الاجتماعي في مصر وبغداد وحلب وطرابلس إلى البرجوازية، قدم إلى الساحة الإسلامية وافدون جدد هم العنصر الطوراني بدءا من السلاجقة وحتى المماليك، قدموا ومعهم المفهوم الجنكيزخاني عن بناء الدولة ذات الرأسين، رأس ديني يملك ولا يحكم، ورأس زمني يحكم ولا يملك فطبقوا هذا المفهوم على الخليفة العباسي الرمز وعلى السلطان السلجوقي سيد كل شيء.
جاؤوا وجاء معهم مصطلح “السه يا سة” التترية التي أوجدها جنكيز خان والتي استحالت على يد المترجمين العرب إلى كلمة السياسة ناسين أن الكلمة التترية تعني كيفية إدارة الدولة، وكيفية اختيار الحاكم الجديد وكيفية انعقاد مجلس الشورى الكبير لبحث القضايا الكبرى الخ.. جاؤوا ومعهم “السه ياسة” والتي تصر على الدين الواحد والمذهب الواحد والرأي الواحد والحاكم الواحد وتكفير وتخطيء وقتل كل من يخرج على هذه الواحدية. وبهذا فقد الإسلام تعدديته الموجودة في نص الإيمان بكتب الله جميعاً، ورسل الله جميعاً، فوصل الأمر في العهد المملوكي والعثماني إلى الشقاق ما بين الحنفي والشافعي ورفض التزاوج فيما بين أتباع هذين المذهبين.
المهم ما يعنينا من هذا كله هو حفري العميق الباحث عن جذر الديكتاتور العربي المعاصر والعزيز جداً على قلوب الناس، هذه الظاهرة التي لم يعد لها مثيل في العالم كله، فلقد تخلت عنه أمريكا اللاتينية وجنوب آسيا، وظل العالم العربي فاقد البورجوازية ومنكرها، مصرّاً على التمسك به.
حفرت حتى وصلت إلى الحاكم المملوكي العجيب والمسمى بالملك الظاهر بيبرس، وهذا الرجل ضئيل الفاعلية في التاريخ الإسلامي، فهو ليس بأهمية خالد بن الوليد وليس بأهمية ألب أرسلان بطل معركة ملاذ كرد، وليس بأهمية يوسف بن تاشفين وليس بأهمية محمد بن القاسم الثقفي.. إلى آخر الأسماء الكبرى في التاريخ الإسلامي.
رجل بدأ حياته باغتيال بطل معركة عين جالوت المظفر قطز، وأنهاها بمحاولة قتل آخر الأمراء الأيوبيين المعزولين لتنفيذ نبوءة عن قتل ملك في هذا العالم فرأى افتداءه به، فمات بيبرس ونجا الأيوبي. رجل كل إنجازاته تحرير بعض القلاع من الاحتلال الصليبي، وهذا كل منجزه. ولكن لماذا احتفظت الذاكرة العربية لثمان مئة سنة به تتلمظه، وكأنه منجز كل رائع في التاريخ الإسلامي.
هذا الرجل كان الأذكى بين كل من ذكرت فلقد طلب من مثقفي عصره أن يكتبوا له سيرة حياة تشبه الشاهنامة، فكتب له ابن شداد سيرة حياة رفضها لسذاجتها، وكتب له ابن عبد الظاهر سيرة حياة، فرفضها، وأخيراً تقدم مثقفان من مثقفي عصره هما الديناري والدوادار لكتابة سيرته على أن يراجعها فصلاً فصلاً، فإن وافق عليها أبرمت وإن رفضها ألغيت……… وهكذا كتبت سيرة هذا الرجل ليصبح السلطان الحلم الذي تنتظره الأمة الإسلامية منذ محمد “ص” والذي نذر له أثرياء الأجيال السابقة ثرواتهم، ونذر له العلماء والحكماء علمهم وسحرهم والذي يعلّم المصريين ممثلين بعثمان بن الحبله ـ الإسلام منذ الشهادتين حتى الوضوء والصلاة ولنتخيل هذا، إنه كل شيء، والذي سينتصر على الإنس والجان والفرنجة والروم والمغول.
هذا المانيفستوـ السيرة ـ سيكون كتاب الطاولة لمعظم الأُسر وكتاب السهرات للمقاهي والندوات، وسيصبح مانيفستو الحاكم الذي يحلم بتكرار الظاهر بيبرس والمحكوم الذي يحلم بالحاكم القوي العادل.
بيبرس وسيرته هذه أعتقد أنها كانت رسالة الديكتاتورية العربية التي سيحفظها ويؤمن بها المجتمع العربي الإسلامي خلال الثمان مئة عام الماضية التي أنجبت جيلنا. هذا الحاكم كان ثمرة قراءاتي، وكان من نتيجتها روايتي “فخ الأسماء” التي صدرت عن دار الآداب عام 2003 وروايتي “صبوات ياسين” التي صدرت عن دار الخيال اللبنانية عام 2006 والتي تتحدث عن الجدل بين المثقف المعاصر والمثقف الذي كتب سيرة الملك الظاهر وتمزق الكاتب المعاصر بين إخلاصه للفن كابن مخلص للثقافة العالمية والرواية العالمية وبين تبعيته للديناري والدوادار في كتابة سيرة السلطان المعاصر”.