أبرزت مجلة “ذا أتلانتيك” الامريكية معاني وخفايا الاستقالة المفاجئة لوزير المالية العراقي علي علاوي مؤخرا، والتي تحمل دلالات خطيرة لكونها تمثل اقرارا بالعجز من جانب هذه الشخصية الاصلاحية التي عول كثيرون عليها، والتي تؤكد فشل النظام التوافقي القائم على تقاسم اموال النفط وهيمنة الاوليغارشية والميليشيات التي تحميهم.
وقدمت المجلة الامريكية رواية لما جرى منذ السادس عشر من شهر آب/أغسطس الماضي، عندما اجتمع وزراء الحكومة في القصر الجمهوري في بغداد، حيث قدم علاوي، وهو وزير المالية منذ العام 2020، طلبا استثنائيا حيث أراد قراءة النص الكامل لرسالة استقالته بصوت مرتفع، وهو ما وافق عليه رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.
وذكر التقريران علاوي استهل قراءة استقالته بالمجاملات البيروقراطية التقليدية حيث وجه شكرا خاصا لرئيس الحكومة، لكنه طرح لائحة اتهام شاملة للطبقة السياسية، وهو ما وصفته المجلة الأمريكية بانه “قد يكون من بين أكثر خطابات الاستقالة اللاذعة التي كتبت على الإطلاق”.
واعتبر التقرير الامريكي انه عندما يكتب المؤرخون في المستقبل عن جهود العراق المضطربة من اجل اقامة ديمقراطية على الطراز الأمريكي خلال السنوات الاولى من القرن الواحد و العشرين، فإن رسالة استقالة علاوي ستوفر لهم نظرة تتسم بالندرة عن الوضع الداخلي في “دولة فاشلة”.
ولفت التقرير كيف أن رسالة الاستقالة تناولت بالتفصيل سلسلة من نشاطات الاحتيال التي جرت بموافقة أو ترويج من جانب بعض الرجال المحيطين به، والذين ساعدوا في خلق “اخطبوط واسع من الفساد والخداع” يسمم البلد كله.
وقال علاوي في رسالته ان العراق على شفير الانهيار وهو بمواجهة أزمة على مستوى “الدولة والمجتمع وحتى الفرد”، وأن المشكلة لا تتعلق فقط بوجود قادة لا يتمتعون بالنزاهة، وإنما بالنظام كامل وضعه الأميركيون قبل عقدين من الزمن، حيث اعرب علاوي عن اعتقاده “بأننا نواجه احدى أخطر التحديات التي واجهتها اي دولة على مدى القرن الماضي”.
ووصف التقرير ما جرى في ذلك الاجتماع، حيث استغرقت قراءة علاوي لاستقالته نصف ساعة كاملة، وقوبل بصمت وذهول من الحاضرين، حيث لم يكن هناك منهم من يتوقع ان رجل دولة كبير كعلاوي الذي له العديد من الكتب، ان يصدر عنه مثل هذا الانتقاد الفظ.
ولفت التقرير ان استقالة علاوي لاقت اهتماما اخباريا في العراق، الا انه خارج العراق بالكاد لاحظها أحد، وطغت عليها لاحقا اندلاع أعمال العنف بين فصيلين شيعيين في شهر آب والتي تسببت في مقتل العشرات.
الا ان التقرير اشار الى ان استقالة علاوي أثارت صدمة في العواصم الغربية، حيث أن الرجل قبل عودته الى العراق أواسط العام 2020، كان من اقوى الأصوات التي تحذر من الفساد، وينظر إليه على أنه تجسيد للنزاهة والكفاءة في المجال المالي.
وبعدما ذكر بكيفية توليه منصبه بعد اندلاع تظاهرات الاحتجاج في العام 2019، حيث قام الكاظمي لاحقا بتعيين علاوي والعديد من التكنوقراط في الحكومة الجديدة، مضيفا أنه بالنسبة للمراقبين من الخارج، فقد بدا الأمر وكأن هذا هو “فريق الأحلام، وربما الفرصة الاخيرة امام العراق ليجدد نفسه”.
ونقل التقرير عن رسالة الاستقالة كيف أن الفساد كان أعمق مما كان يدركه، وأنه تعرف على الحقيقة المروعة حول تدهور آليات الدولة خلال السنوات الخمسة عشر الماضية، وأن الأحزاب وجماعات المصالح، استولت فعليا على الدولة، مشيرا الى ان وزارة المالية نفسها كانت مكتظة بأشخاص “ليس لديهم خبرة مهمة أو مهارات لغوية، وليس لديهم سوى القليل من الإدراك للممارسات الحديثة في الإدارة العامة والشؤون المالية.”
واوضح التقرير؛ ان علاوي أعد لنفسه خريطة مفصلة تظهر من من الموظفين في الوزارة تابع لاي حزب، وأنه تبين له ان القوة الحقيقية تكمن في أيدي قادة الاحزاب و الأوليغارشية وزعماء الميليشيات، مشيرا الى ان علاوي نفسه تعرض للتهديد بمنعه من السفر لانه رفض تلبية استدعاء من زعيم أحد الأحزاب.
وبحسب التقرير فقد كان هناك ترحيب بمجيء علاوي والكاظمي بوصفهما من المنقذين المحتملين للعراق، لأنهما لم يتلوثا بالسياسة العراقية، الا ان هذا الوضع جعلهم لا يتمتعون سوى بنفوذ محدود في بلد “تمارس فيه السلطة عبر عصابات الشوارع المسلحة والأموال المنهوبة والدين”.
واوضح التقرير ان علاوي راح يعمل على فضح العقود القديمة التي تتضمن عمليات احتيال، وعرقلة جهود تمرير عقود جديدة، وكان من بين ذلك نظام الدفع الالكتروني ” Qi Card” والهادف إلى مساعدة موظفي الحكومة والمتقاعدين على سحب رواتبهم بسهولة اكبر، الا ان هذا النظام كانت تتم ادارته من دون رقابة، وأصبح بمثابة وسيلة تستخدمها الأوليغارشية وقادة الميليشيات من أجل اقتطاع الرواتب واستنزاف الأموال من خلال مخططات “الجنود الأشباح”.
وتابع التقرير بالقول إن أحد أكثر أفراد نخبة الأوليغارشية شهرة في العراق اقترح تطبيق نظام جديد للدفع الإلكتروني ليحل محل بطاقة “Qi Card”، وهو ما كان خيارا اسوأ، وانه بالاضافة الى احتمال استمرار تحقيق الكسب غير الشرعي، فإن الشركة الجديدة اقترحت بندا تمنح فيها لنفسها غرامة قدرها ستمائة مليون دولار في حال تم إلغاء العقد الحكومي.
واضاف التقرير ان المثير للعجب أن هذا العقد جرت الموافقة عليه من جانب مجلس ادارة البنك الرئيسي المملوك للدولة، برغم من ان علاوي كان يحاول منع ذلك من التحقق.
ونقل التقرير عن علاوي قوله إن هذا العقد “كان بالنسبة إليه القشة التي قصمت ظهر البعير”، موضحا أن العقد اظهر درجة تدهور الدولة وتحولها الى ألعوبة لجهات المصالح الخاصة .
وفي رسالة استقالته، أظهر علاوي ان الفشل واقع حتما ليس فقط بسبب السياسيين الفاسدين، وانما ايضا بسبب “الاطار السياسي لهذا البلد”، مشيرا بذلك الى النظام الذي تم وضعه خلال فترة الاحتلال الأمريكي والذي يساهم في تعزيز المنافسة السياسية وتقاسم السلطة والذي تحول الى عملية توافقية يتم من خلالها تقاسم أموال النفط، عبر الوزارات من جانب الاوليغارشية والميليشيات التي تحميها.
ولفت التقرير إلى أن هذا النظام هو اللعبة الوحيدة المتاحة تقريبا في العراق حيث ان نسبة كبيرة تعمل في الحكومة، وأن جهود بناء قطاع خاص قادر على الحياة جرى تدميرها بشكل متعمد، وهو ما يعني أنه في حال ان العراق الذي يعتمد أكثر من أي وقت مضى على العائدات النفطية، في حال انهيار هذا النظام فيه فان البلد كله سوف يصاب بالإفلاس ، ما عدا أفراد الأوليغارشية الذين يمتلكون منازل فارهة في لندن.
ووصف التقرير وضع علاوي المقيم في لندن حاليا، قائلا إنه يبدو حزينا لكنه غير نادم، وأنه امعن التفكير في قرار استقالته، وانه “كان يتخذ موقفا أخلاقيًااخلاقيا ويرغب في أن يوقظ الناس… حيث يتعرض مستقبلهم للبيع”.
وختم التقرير بالاشارة الى حادثة تحمل الكثير من الدلالات، حيث ان اكثر رد فعل لم يكن متوقعا من استقالته جاء عبر رسالة نصية تلقاها علاوي (باللغة العربية) بعد عدة أسابيع من استقالته، كتبها من شخص يسميه العراقيون “الحوت”، وهو التعبير المحلي الذي يشير الى الاوليغارشية الفاسدة الممسكة بمصير العراق.
وكتب هذا “الحوت” في رسالته: “لقد ترددت كثيرا قبل كتابة هذه الرسالة”، مضيفا أنه قرر الكتابة لأنه معجب بإخلاص علاوي ووطنيته. كما يتحدث عن أنه يتفق مع الكثير مما قاله علاوي في رسالة استقالته، وإنما ليس مع الجزء الذي ذكر فيه علاوي شركة رجل الأعمال الخاص ودورها في وسط فضيحة فساد. كما قال إنه يأمل في أن يكسب صداقة علاوي وهو يطلب مشورته. وقال “الحوت” في رسالته “اتمنى ان نتمكن يوما ما من الجلوس في إحدى ضواحي لندن، وبإمكاني أن أطلعك على القصة من جانبي انا، حتى يكون حكمك عادلا”.
الا ان ان علاوي لم يرد على الرسالة، كما ختم التقرير الأمريكي