كركوك والحلول الاستراتيجية – الانكليز ( الجزء الثالث )
كركوك والانكليز
بعد أن سيطرت الحكومة البريطانية على العراق، أرادت معرفة رغبات الشعب العراقي في نوع الحكم الذي يرغب فيه فسألت وكيل الحاكم الملكي البريطاني العام في العراق أرنولد ولسن في 30 تشرين الثاني 1918 حول هذا الموضوع وطلبت منه أن يستطلع رأي الشعب العراقي في هل يحبذون تأسيس دولة عربية واحدة تحت الأشراف البريطاني تمتد من حدود ولاية الموصل الشمالية الى الخليج العربي .وإذا كان إلا كذلك فهل يرون وضع الدولة الجديدة تحت حكم أمير عربي وفي الحالة الأخيرة من الذي يقترحونه من الأمراء العرب وقد أرسل ولسن نسخاً من هذه البرقية والمراسلات الأخرى الى الضباط السياسيين البريطانيين في العراق (ومنهم الضباط السياسيين في ولاية الموصل) مع تعليمات لأجراء الأستفتاء، وفعلاً جرى الأستفتاء في شتاء 1918-1919 في أغلب مناطق العراق ومنها كركوك على وفق ارادة الحكومة البريطانية فقد تمكنت سلطات الاحتلال من الحصول على مضبطتين في لواء كركوك جاءتا على وفق ارادة ولسن حملت الأولى 17 توقيعاً من رؤساء العشائر العربية والكردية والوجهاء في منطقة صلاحية (كفري حالياً) فضلت رئاسة أمير عربي، مع التأجيل في مسألة التعيين وأكدت على وحدة العراق في ظل المساعدة البريطانية أما المضبطة الثانية فقد حملت 17 توقيعاً أيضا من وجهاء ورؤساء العشائر في منطقة كركوك أكدت على وحدة العراق في ظل المساعدة البريطانية ، فبالنسبة لكـركـوك لم يشمل الاستفتاء مناطق اللواء المختلفة وحملت المضبطتان 34 توقيعاً وهذا يدل على أن الغالبية العظمى من سكان اللواء لم تشترك في الأستفتاء وقد تكون المسألة تعمدية في عدم شمول كل السكان في الاستفتاء، أو أن الفجوة التي كانت قائمة بين الحاكمين والمحكومين في العهد العثماني جعلت أغلبية السكان لاتكترث بالاستفتاء .
كركوك عام 1920
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وانتهاء أعمال مؤتمر سان ريمو في 25 نيسان 1920 الذي وقع العراق بموجبه تحت الأنتداب البريطاني، أدى ذلك الى هياج خواطر العراقيين واشتداد عزمهم للمطالبة بحقوق بلادهم، ودفع الحكومة البريطانية لتنفيذ سياستها تجاههم، ولم تعير للموضوع أهمية . أدى تمادي الأنكليز في سياستهم من خلال الأحتلال المباشر والادارة العسكرية القاسية الى حدوث رد فعل داخل نفوس الشعب العراقي وأصبحت الأجواء مهيأة للثورة ولم يكن ينقصها سوى الشرارة، والتي جاءت بأعتقال شيخ عشيرة الظوالم في الرميثة في 20 حزيران 1920 مما أدى الى هياج شعبي كبير عم مختلف أنحاء العراق . تأثرت كركوك بهذه الأحداث والسبب كما ذكرنا هو العداء للأنكليز مع غلبة بعض العوامل على بعضها الآخر من مكان لآخر، وقد اتصل أعضاء جمعية العهد السرية في الموصل مع أبناء كركوك لغرض استثارة هممهم فضلاً عن جهود جمعية سرية اخرى في كركوك أسسها بعض الوطنيين فيها لغرض مقاومة الأحتلال الأنكليزي . في هذا الوقت كانت صلاحية (كفري) تعلن الثورة على المستعمرين وتمكن ثوار كفري من قتل سالمون الحاكم السياسي البريطاني في 28 آب 1920، واعلان انهاء حكم الأحتلال البريطاني . وأعلنت عدد من قرى ليلان القريبة من كركوك انتفاضتها ضد المحتلين واصطدمت مع القوات المحتلة التي تمكنت من السيطرة على الوضع، وتبعت عملية الصدام أعمال حرق وتدمير ومطاردة قام بها المحتلون الأنكليز امتدت آثارها الى طوز خورماتو
كركوك و الملك فيصل
أرسلت الحكومة البريطانية المندوب السامي برسي كوكس الى العراق وقد أستطاع كوكس التغلب على أغلب المشاكل لتنفيذ الوعد القاضي بإنشاء حكومة وطنية وتمكن أيضاً من اقناع عبد الرحمن النقيب بتشكيل الحكومة في 27 تشرين الأول 1920 وقد ضمت هذه الحكومة المؤقتة أحد أبناء كركوك وهو عزت باشا الكركوكلي الذي تولى وزارة التربية والصحة ثم تسلم وزارة الأشغال العامة والمواصلات بعد أن وجد صعوبة في ادارة الوزارة السابقة . بعد تكوين الحكومة المؤقتة التي ترأسها عبد الرحمن النقيب سنة 1920 فكرت الحكومة البريطانية بوجوب إيجاد نظام حكم ثابت وطرحت هذه الفكرة في مؤتمر القاهرة الذي عقد في آذار 1921. وكان أمام المؤتمر مجموعة من الأسماء هم كل من عبد الرحمن النقيب والسيد طالب النقيب وشيخ المحمرة وفيصل بن الشريف حسين وغيرهم من الأسماء الاّ أن الحكومة البريطانية ولاعتبارات عدة، أهمها إرضاء الشريف حسين ولتحقيق نوع من التوازن بينه وبين آل سعود – وهذا يعني مسبقا أن البريطانيين عازمين على تحجيم دور الشريف حسين بن علي وإعطاء دور أكبر لصديقهم الجديد ابن سعود في الجزيرة العربية – اختارت فيصل بن الحسين . جرى التصويت لأختيار فيصل ملكاً على العراق في عموم أنحاء العراق وكانت نتيجة التصويت في لواء كركوك الى حد ما متوازنة بين مؤيد ورافض لترشيح فيصل ملكاً على العراق فقد كان هناك (41) مضبطة جاءت (21) منها غير مؤيدة للترشيح، فيما أيدت (20) منها ترشيح فيصل ملكاً على العراق . وبذلك أصبح فيصل ملكاً على العراق وتوج رسمياً في 23 آب 1921 .بدأت كركوك وابتداء منذ الأشهر الاولى لعام 1921 بالاستقرار وقبلت بتعيين والي لها في شباط 1921 حيث تم ابدال الحاكم العسكري بحاكم مدني كمتصرف لها وكان هذا الشخص هو فتاح باشا حيث بدأ هذا الرجل خطوات جادة في تحسين الخدمات في المدينة وترك الأمور تسير دون تدخل كبير لكي لايثير المشاكل .
كركوك المعاهدة العراقية – البريطانية 1922 والمجلس التأسيسي
واجه الملك فيصل بعد تتويجه مهاماً عدة منها تخليص العراق من الأنتداب البريطاني، واقناع الأنكليز بالتخلي عن الحكم وتسليمه الى الوطنيين تدريجياً، والحفاظ على الموصل التي تطالب بها تركيــا، وانشاء حكومة عصرية بكامل تشكيلاتها واداراتها، ووضع دستور حديث لها، قدم المندوب السامي البريطاني بعد أيام قلائل من تتويج الملك فيصل، أول مسودة للمعاهدة العراقية البريطانية المزمع عقدها وقد ظهر من تلك المسودة وجهة النظر البريطانية حيال المعاهدة، التي تعدها واسطة لتبديل نظام الأنتداب وتنظيم علاقاتها مع العراق باقل كلفة وأقل احتكاك مما قد يحدث لو كان حكمها له مباشرة ولم تكن هذه المعاهد الاّ صورة أخرى من صور الاستعمارمما أدى الى رفضها من قبل سائر طبقات الرأي العام. أما داخل مجلس الوزراء فقد كان هناك رأي طالب بالغاء الانتداب وعقد معاهدة صداقة بين الفريقين على أسس متساوية واستمرار العون البريطاني للعراق، وازداد الموقف المعارض وضوحاً في مؤتمر كربلاء خلال شهر نيسان 1922 الذي وحدهم وجمعهم حول معارضة المعاهدة والعمل على مناوئتها ..
كركوك والعراق وعصبة الأمم
صادق مجلس الوزراء على المعاهدة في 25 حزيران 1922 بشرط وجوب تصديق المجلس التأسيسي عليها وفي شهر آب 1922 نشبت أزمة بين الملك والمندوب السامي حول تعيين المسؤولية فيما يخص الأدارة الداخلية، مما أدى الى استقالة الحكومة في 19 آب 1922. في هذا الوضع أصبح أمام المندوب السامي مهمة تأليف وزارة جديدة تأخذ على عاتقها نشر المعاهدة وتأليف المجلس التأسيسي, وأبلغ الملك في 18 أيلول بأن يكلف عبد الرحمن النقيب بتأليف الوزارة، وفعلاً شكل النقيب وزارته في 20 ايلول 1922، وفي 10 تشرين الأول 1922 قررت الحكومة المصادقة على المعاهدة والمباشرة بأنتخاب المجلس التأسيسي ووضع القانون الأساسي (الدستـور) والتقدم الى عصبة الأمم لقبول العراق في عضويتها .
كركوك وانتخابات المجلس التاسيسي ودور الاكراد
بدأت انتخابات المجلس التأسيسي في شهر تشرين الأول 1922 وقد أبدى سكان كركوك تخوفهم منها لشكوكهم بأن هذه الأنتخابات لغرض تسجيل النفوس للتجنيد الاجباري وعدم التأكد من الأمتيازات الممنوحة لسكان اللواء فضلا عن أن أعيان كركوك كانوا يرون إرجاء هذا الموضوع في الوقت الحالي لأسباب تتعلق بالوضع في شمال العراق بشكل عام الاّ أن هذا الحال لم يمنع سكان كركوك من اجراء الأنتخابات فيما بعد، وعلى اثر ذلك تم انتخاب الهيأة التفتيشية في اللواء .أسفرت انتخابات المجلس التأسيسي في لواء كركوك عن فوز خمسة نواب، يمثل ثلاثة منهم أبناء المدن ونائب واحد للعشائر ونائب واحد للطائفة اليهودية، وهم على التوالي صالح بك النفطجي والشيخ حبيب الطالباني عن مدينة كركوك، وجميل بابان عن بلدة كفري، ودارا بك الداودة واسحق افرايم، وقد استقال النائب جميل بابان في نهاية أعمال المجلس فلم ينتخب بدلاً منه أحد . بعد اكتمال انتخابات المجلس التأسيسي قدم جعفر العسكري رئيس الحكومة مسودة المعاهدة والأتفاقيات المتفرعة عنها الى المجلس وأتبعها بتذييل قائلاً ((… ان المعاهدة ثمن لعراقية الموصل)) تقرر تشكيل لجنة لتدقيق المعاهدة في المجلس التأسيسي، يمثل كل لواء بنائب واحد باستثناء لواء الموصل الذي يمثله نائبان، وقد انتخب عن لواء كركوك النائب الشيخ حبيب الطالباني، ولما كان النواب قلقين إزاء مشكلة الموصل فقد قدم نائبا كركوك صالح النفطجي وأسحق افرايم مع زملائهم نواب أربيل تقريراً تضمن فحواه تأجيل البت في المعاهدة حتى تنتهي مشكلة الموصل الاّ أن هذا التقرير رفض بأكثرية الأصوات عندما وضع للتصويت . أثارت المناقشات حول التصويت على المعاهدة داخل المجلس المندوب السامي البريطاني الذي هدد بحل المجلس في حالة رفضه التصويت على المعاهدة ، وابلغ هذا الحال الى الملك فيصل الذي دعا بدوره النواب للاجتماع والمصادقة على المعاهدة قبل منتصف ليلة 10/11 حزيران 1924 وهو الموعد المحدد للأنذار البريطاني وفعلا تم التصديق على المعاهدة من قبل نواب المجلس التأسيسي بعد مناوشات كبيرة على شرط ان تعد المعاهدة لاغية اذا لم تحافظ حكومة بريطانيا على حقوق العراق في ولاية الموصل بأجمعها . تخلف عن الجلسة من نواب كركوك كل من صالح النفطي ودارا الداودة وجميل بك بابان ، ولعل عدم حضور النفطي والداودة كان لغرض عدم التصديق على المعاهدة ، بينما كان جميل بابان غائبا لأكثر جلسات المجلس بعد تصديق المعاهدة, أبلغت بريطانية العصبة في 31 أيار 1931 عن رغبتها في أدخال العراق عصبة الامم, وفعلاً تم قبول العراق عضواً في عصبة الامم في 3 تشرين الاول 1932 وأصبح دولة مستقلة وقدم نوري سعيد استقالة وزارته في 27 تشرين الاول 1932 على أساس أن مهمتها انتهت بنهاية الانتداب ..