كنت أتمشى مع غائب طعمه فرمان في الشوارع المحيطة بجامعة موسكو , وكان الوقت عصرا في نهاية آب / اغسطس , واقتربنا من حديقة باكملها تضم اشجار التفاح فقط ومنسّقة بشكل هندسي رائع , وكان التفاح الجميل الناضج مفروشا على الارض , التفاح الذي سقط من تلك الاشجار , وبقي على الارض دون ان يقترب منه أحد بتاتا , بل وكانت عيون التفاح ( المكحّلة باللون القرمزي !) تحدّق بنا وتدعونا ان نلتقطها , وقد ( راودتني نفسي!) فعلا على ( تلبية !) نداء تلك العيون , لكني ترددت خجلا من الكاتب الكبير والمترجم الكبير غائب , فطرحت عليه سؤالا حول هذا المنظر السريالي الغريب , وسألته بشكل غير مباشر عن تفسيره لهذه الظاهرة , اذ انه ( موسكوفي عتيق !) . ضحك ابو سمير وقال وهو يقهقه – نعم , نعم , انه منظر سريالي فعلا , تفاح حقيقي معروض على الارض مجانا , ولكن الروس لا يلتقطونه , بل و حتى لا ينظرون اليه , فقلت له , ولكننا عراقيين , فهل يمكن لي ان أختار ولو تفاحة واحدة لأجرّب طعمها , استمر غائب بقهقهته وهو يقول , طبعا طبعا , تفضل تفضل , فرفعت تفاحة ناضجة , وقلت لغائب بعد ان ذقتها , انها لذيذة جدا , وسألته , لماذا ذهب الروس الى الاراضي البكر البعيدة , كي يحرثوها ويزرعوها ويبذلوا كل هذه الجهود الهائلة من اجل ذلك , اذا كانت اراضيهم صالحة للزراعة حتى في ضواحي مدنهم الكبيرة مثل موسكو , وامامنا الان ( سجّادة التفاح!! ) مفروشة في الشارع الروسي ولا يوجد حتى من يرغب بالنظر الى اكوام التفاح هذه ؟ قال غائب (وهو ينظر اليّ باستغراب) , وهل تعتقد , اني استطيع الاجابة عن سؤالك الغريب هذا , والذي يرتبط بمسيرة التاريخ الروسي المتشابك ؟, فقلت له , ولكنك ترجمت رواية شولوخوف – الارض البكر حرثناها , والتي حوّلت انت عنوانها المستقر بالعربية الى عنوان جديد هو – ارضنا البكر , اي انك فكّرت عميقا بشأن هذه الرواية , لدرجة انك غيّرت – وبشكل جذري واضح – حتى بنيّة عنوانها , والذي أصبح ( حسب وجهة نظري الشخصية ) بعيدا عن الاصل الروسي مقارنة بالعنوان العربي المذكور, ولهذا طرحت أنا عليك هذا السؤال , لأني كنت على قناعة تامة , انك تعرف الاجابة , فضحك غائب وقال , وهل تعتقد انني انا شخصيا الذي اخترت هذه الرواية كي اترجمها ؟ فتعجبت أنا من طبيعة سؤاله , وقلت له , من المفروض ان يكون الامر هكذا , فقال لي , انه مثل كل من يعمل في مجال الترجمة هناك ينفّذ خطط دار النشر التي يعمل بها , وان الادارة الروسية في تلك الدار هي التي تحدد الكتب الروسية للترجمة , وهي التي تحدد المترجمين لتلك الكتب , ولا تستشير المترجمين حول ذلك ابدا , بل هي تصدر الاوامر الادارية ليس الا , ونحن ننفذها دون اي اعتراض او حتى ابداء الرأي حول ذلك . تعجبت انا من هذا التوضيح ونكهته (الديكتاتورية الفظّة!), وقلت له , انه يعيش في موسكو منذ سنوات طويلة , وانه كاتب عراقي شهير ومهمّ في اطار العراق والعالم العربي برمّته , ومترجم بارز للادب الروسي الى العربية منذ زمن طويل , وكنت أظن , انك الان بمثابة مستشار ثقافي لدار النشر هذه . نظر غائب بأسى وقال , ينطبق عليك المثل العراقي الطريف – (اليدري يدري والما يدري كضبة عدس) . شعرت ان غائب أخذ يتألم , وهو يتحدث عن علاقة دار النشر السوفيتية به , ولهذا حاولت رأسا تغيير الموضوع , وطرحت عليه سؤالا غير متوقع له , وقلت , من المؤكد انك التقيت بشولوخوف يوما – ما , وربما عندما كنت تترجم روايته تلك , فهل سألته , لماذا كتب هذه الرواية عن الاراضي البكر , بينما توجد حولهم مثل هذه الاراضي الخصبة , التي تمنحنا التفاح اللذيذ مجانا ؟ فضحك غائب وقال , انك فعلا (بطران!) , ضحكت انا وحاولت مرة اخرى تغيير طبيعة الحديث , بعد ان فهمت , ان غائب لا يمكن ان يلتقي بشولوخوف , فقلت له , (بطران) بلهجتنا العراقية , ولكن كيف نعبّر عن معناها بالعربية الفصيحة ؟ فقال وهو مستمر بالضحك – انا مثلك لا اعرف …
ختاما ,اود ان أذكر بعض الملاحظات الضرورية حول هذه السطور . اولا , حدثت هذه (السالوفة!) بتاريخ آب 2022 ليلا . ثانيا , لا اعرف كم استغرقت هذه الحكاية من وقت . ثالثا , عندما استيقظت من النوم , فهمت , ان هذا المنام الجميل – شكلا ومضمونا – يستحق التسجيل فعلا . رابعا , ان هذا المنام يعني , ان غائب طعمه فرمان حي يرزق بالنسبة لي شخصيا , وانه يرتبط – في أعماق روحي وعقلي وقلبي – بالتفاح الروسي والادب الروسي وترجمة هذا الادب الى العربية وبالتاريخ الروسي ايضا . خامسا واخيرا , اريد ان اقول – ان غائب طعمه فرمان موجود بيننا , نحن العراقيين , رغم انه رحل عن عالمنا في شهر آب / اغسطس من عام 1990 في موسكو , وتمرّ هذه الايام الذكرى( 32 ) لرحيل هذا المبدع العراقي الكبير , وكلماتي هنا هي بمثابة باقة ورد له في هذه الذكرى …