مرت سبعة اسابيع على اندلاع ازمة محافظة الانبار، وبدء العمليات العسكرية من قبل الحكومة العراقية ضد الجماعات الارهابية التابعة لتنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش)، ولكن الى الان لم تتبلور في الافق ملامح ومؤشرات حسم من شأنه ان يرسم واقعا جديدا في المحافظة، ويطوي صفحة الارهاب، او في اقل تقدير يحجم الجماعات الارهابية ويضيق الخناق عليها، وبالتالي يدفع بها خارج اللعبة.
وربما بين التقييمات المستغرفة في التفاؤل، والاخرى المستغرفة في التشاؤم، ضاعت المعالم والملامح الحقيقية لصورة المشهد العام في الانبار، ولعل ذلك في جانب منه امر طبيعي ومتوقع في خضم تفاعلات حادة، واجواء مشحونة بالقلق والغضب والخوف، والكثير من الشد والشحن السياسي الذي اتخذ طابعا طائفيا مقيتا.
وفي اطار التفاؤل والتشاؤم يمكن ان نشير الى جملة من العوامل المعوقة والمعرقلة لعملية حسم المعركة مع (داعش) في الانبار.
اولا: مايجري ليس معركة عسكرية نظامية، وانما عبارة عن حرب عصابات في سياقها العام، ومثل هذه الحروب لاتخضع لقوانين وقواعد الحروب العسكرية النظامية، ولهذا السبب فأن الحكومة العراقية لايمكنها استخدام كل وسائل وادوات القوة التي بحوزتها، لان ذلك سيفضي الى وقوع خسائر بشرية كبيرة في صفوف المدنيين.
وفي اكثر من مناسبة اكد رئيس الوزراء العراقي والقائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي، انه عارض خيار اللجوء للقوة العسكرية المسلحة لتطهير مدينة الفلوجة ومناطق اخرى في الانبار من تنظيم داعش، لان ذلك من شأنه تعريض حياة الناس المدنيين للخطر.
ويشير احد وجهاء قضاء الفلوجة بالقول “تسبب أي عملية اقتحام للفلوجة مجزرة بين العسكريين والمدنيين لشدة الاستحكامات التي أقامها مسلحون في مداخلها التي تشكل في معظمها مناطق سكنية، اذ انهم لجأوا الى تلغيم كل ما تقع عليه أعينهم في الفلوجة، من سيارات وحيوانات وغيرها، وهناك من يقول إن مسلحين لغموا جثث جنود عراقيين سقطوا في القتال الذي يدور في أطراف المدينة”.
ثانيا:ساهمت المواقف المتذبذبة لبعض العشائر–ومازالت تساهم-في اضعاف تحركات وجهود القوات الامنية والعسكرية الحكومية من جانب، وتوفير مساحات كبيرة للجماعات الارهابية للتحرك والمناورة.
وبما ان المجتمع الانباري يمتاز بتركيبته وثقافته العشائرية، لذا فأن مواقف وتوجهات العشائر تؤثر الى حد كبير في تقرير المعطيات والنتائج.
وللانصاف فأن هناك عشائر وقفت في السابق وتقف حاليا الى جانب الدولة، وتتبنى مواقف مبدئية وشجاعة في مواجهة الجماعات الارهابية، لكن في ذات الوقت هناك عشائر –او جزءا منها-تتعامل مع الجماعات الارهابية، وتقوم بدور الداعم والمساند لها، ولعل اقدام عشيرة البوفراج على استدراج عدد من الجنود في الجيش العراقي وتسليمهم الى عناصر (داعش) ليتم قتلهم فيما بعد بطريقة بشعة ودم بادر، يعد مثالا واحدا من بين امثلة عديدة على مهادنة الارهابيين ومساندتهم.
واذا لم تكن هناك مغريات تدفع بعض العشائر الى الوقوف مع الارهابيين، فأغلب الظن ان عوامل الترهيب ليست قليلة، ومانقلته بعض العوائل النازحة من الانبار الى محافظات اخرى بينها كربلاء المقدسة من وقائع واحداث مروعة، تكشف عن اجواء الرعب والترهيب التي خلقها تنظيم (داعش) في المناطق التي سيطر عليها.
ثالثا: والى جانب المواقف المتذبذبة والمتأرجحة لبعض العشائر، فأن مواقف بعض الشخصيات والقوى السياسية التي تدعي انها تمثل المكون السني، بدت في معظم الاحيان معبرة عن توجهات الجماعات الارهابية اكثر من كونها تتمحور حول تشخيص الاسباب الحقيقية للازمة والسبل العملية لمواجهتها وحلها.
ومن السهل على اي متابع اليوم لخطابات واطروحات تلك القوى والشخصيات ان يلمس اللغة الناقدة بحدة للحكومة لانها قررت ملاحقة وضرب الجماعات الارهابية، بينما يغيب الى حد كبير من تلك الخطابات والاطروحات الحديث عن الفضاعات التي ارتكبها تنظيم (داعش) وقبله عناوين ومسميات اخرى.
بعبارة اخرى يتعاطى البعض مع مايجري وكأنه معركة سياسية ولابد له ان يمنع الخصم من تحقيق مكاسب من نوع ما على حسابه، ومايجعل مثل تلك الادعاءات مقبولة، هو ان ازمة الانبار تفجرت في ظل اجواء التهيوء والاستعداد الفعلي للانتخابات البرلمانية المزمع اجراؤها في الثلاثين من شهر نيسان-ابريل المقبل.
والاكثر من ذلك نجد ان بعض الشخصيات لاتتحرج في التعبير صراحة عن تعاطفها وتأييدها لتنظيم القاعدة، ومانقلته بعض وسائل الاعلام مؤخرا عن رئيس مايسمى بهيئة علماء المسلمين في العراق حارث الضاري، قوله بملء الفم “نحن القاعدة”، ابلغ دليل عن ذلك التعاطف والتأييد العلني الفاضح.
رابعا:رغم مايقال عن تقاطعات واختلافات وصلت الى حد الاقتتال المسلح على الارض السورية بين تنظيم (داعش) من جهة، والجماعات الارهابية الاخرى المدعومة بالدرجة الاساس من المملكة العربية السعودية، فأن الكثير من الارقام والمعطيات تؤكد ان (داعش) مازال يتلقى دعما ماليا وعسكريا ولوجيستيا من خارج العراق، وخصوصا من السعودية-او عبر السعودية-فهو يمتلك انواعا وكميات من الاسلحة ووسائل النقل والاتصال، ناهيك عن القدرات المالية الكبيرة، التي لايمكن له تأمينها من دون اطراف خارجية.
وتساعد طبيعة جغرافيا محافظة الانبار الصحراوية الممتدة لمسافات طويلة لتترابط وتتصل مع جغرافيا ثلاث دول هي سوريا والاردن والسعودية، على سهولة تنقل الارهابيين بين الحدود، وخصوصا مع سوريا التي تعاني اوضاعا مضطربة امنيا منذ ثلاثة اعوام، قد تمنع السلطات الحكومية هناك من ضبط حدودها مع العراق، والسعودية التي هي من الاساس لايروق لها ان يتعزز الامن في العراق وتستتب الامور. في ذات الوقت فأن القوات العراقية لم تبلغ من حيث العدة والعدد والامكانيات الفنية، المستوى الكافي الذي يؤهلها للسيطرة على مساحات شاسعة ذات طبيعة صحراوية، غالبا ماتكون الكلمة الفصل فيها للعشائر القاطنة فيها.
وتؤكد مصادر في قوات حرس الحدود بين الفينة والاخرى “ان مسألة السيطرة على الحدود بالكامل صعبة الى حد كبير، ان لم تكن مستحيلة، خصوصا الحدود السورية-العراقية، حيث يفر ارهابيو داعش حينما يتلقون ضربات من قبل الجيش السوري او الفصائل الارهابية الاخرى، الى الاراضي العراقية، مستفيدين من مواطيء القدم التي تتوفر لهم من خلال وجود معاقل وقواعد واوكار للتنظيم في العراق، فضلا عن الغطاء الذي تؤمنه لهم بعض الجهات التي تسعى الى اضعاف الدولة بأي شكل من الاشكال.
ازاء ذلك كله، يبقى الحديث قائما عن ضرورة ايجاد اجواء ومناخات وظروف وعوامل من شأنها اضعاف تنظيم داعش وتحجيمه، من خلال العمل بأكثر من اتجاه، الاول، سحب القدر الاكبر من العشائر الى ساحة الدولة والحكومة، بأعطائها دور حقيقي، في اطار المؤسسات الامنية والعسكرية الحكومية، لمواجهة الجماعات الارهابية المسلحة، والاتجاه الثاني يتمثل في تعزيز الجهد الاستخباراتي، الذي يمكن من خلاله اختراق الجماعات الارهابية وضربها من الداخل، ويمكن الاستفادة مما حصل في سوريا من تناحر بين الجماعات الارهابية المسلحة، جعلها تضعف بعضها البعض، وفي نفس الوقت تقوي السلطة الحاكمة، اما الاتجاه الثالث، فيتمحور حول توفير مناخ سياسي مناسب لتخفيف حدة الاحتقان والشد السياسي الداخلي، يترافق معه تحرك لفتح قنوات مع اطراف خارجية، واستثمار القنوات المفتوحة بين تلك الاطراف لاغلاق بعضا من-ان لم يكن جميع-منافذ الارهاب.