يعود تاريخ العلاقات العراقيّة الإيرانيّة الحديثة إلى سبعينيّات القرن الماضي حيث وقّع البلدان اتّفاقيّة الجزائر في العام 1975، واتّفقا فيها على تحديد خطوط الحدود البرّيّة والبحريّة وفقا لبرتوكول القسطنطينيّة لعام 1913 وخطّ التالوك.
وبعد الانقلاب على شاه إيران محمد بهلوي ومجي نظام الحكم الجمهوريّ الحاليّ في العام 1979 عاد التشنّج مُجدّدا بين البلدين، وفي العام 1980 ألغى الرئيس العراقيّ الأسبق صدام حسين اتّفاقيّة الجزائر، وكانت بداية لمرحلة مُتشابكة انتهت بحرب الثمان سنوات والتي سحقت مئات الآلاف من الشعبين.
وبَقِيَت نار الكراهية المُتبادلة مُستعرة، حتّى مرحلة الاحتلال الأمريكيّ للعراق في العام 2003، وقد صرّح أكثر من مسؤول إيرانيّ بأنّه” لو لا إيران لما استطاعت واشنطن احتلال العراق”!
وهكذا صار العراق الحديقة الخلفيّة لإيران التي تدخّلت في كلّ شاردة وواردة، بحيث إنّ علي يونسي، مُستشار الرئيس الإيرانيّ السابق حسن روحاني أكّد في 8 آذار/ مارس 2015 أنّ” إيران أصبحت إمبراطوريّة كما كانت عبر التاريخ وعاصمتها بغداد حاليا”!
وهنالك منذ منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي غليان شعبيّ كبير داخل إيران ترجمته المظاهرات والمواجهات العنيفة مع قوّات الحرس الثوريّ في العديد من المدن بسبب وفاة الشابّة مهسا أميني بعد توقيفها من قبل الشرطة الأخلاق بطهران، ويبدو أنّ المظاهرات الحاليّة مختلفة تماما عن سابقاتها، والسؤال الذي يَمْثُل أمامنا:
هل للمظاهرات الإيرانيّة أيّ تداعيات على المشهد السياسيّ العراقيّ الهشّ أصلا، والذي فشل في تشكيل حكومة رغم مرور عام كامل تقريبا على نهاية الانتخابات البرلمانيّة؟
بموجب المنطق الإنسانيّ يُمكن الإشارة إلى تشابه الضرورات البشريّة في كلّ مكان من المعمورة، وهذا التماثل يُعدّ من القواعد شبه الثابتة بمسيرة الحياة، من حيث حاجة الإنسان إلى الغذاء والدواء والماء والحرّيّة والأمان!
وهذا التناغم في ضروريات الحياة يَظهر جليّا في الدول المَحْرُومة من نِعَم الأمن والحرّيّة والتعايش الرسميّ والمجتمعيّ السليم، ولهذا يتمثّل دور الثورات (أيّ ثورة) بتنقية الأنظمة المريضة من الأسقام التي تهلك الناس والبلاد معا!
واقعيّا أغلب مؤسّسات الحُكم العراقيّة، ومنذ العام 2003، قائمة على الدعم الإيرانيّ العسكريّ والأمنيّ والسياسيّ العلنيّ والسرّيّ، ولهذا تَصرّ إيران، على التعامل بأستاذيّة وتَسلّط مع غالبيّة ساسة العراق لتحقيق مصالحها ولو على حساب العراق والعراقيّين!
ورغم التغلغل الإيرانيّ الواضح في العراق فإنّ نجاح المظاهرات الشعبيّة الإيرانية الحاليّة أو على الأقل قدرتها في قلب قواعد اللعبة السياسيّة سيكون له أثره الكبير على الساحة العراقيّة المُتشنّجة أصلا، وبالذات مع الدعوات المستمرّة لثورة شعبيّة عراقيّة تشرينيّة في الأوّل من تشرين الأوّل/ أكتوبر القادم!
وقد سبقت ثورة تشرين المُرتقبة جُملة من الأحداث التي تزامنت مع جلسة البرلمان يوم الأربعاء الماضي، وفي مقدّمتها محاولات شبابيّة جادّة لعبور نهر دجلة عبر جسر الجمهوريّة والدخول للمنطقة الخضراء المحصّنة بسبب رفضهم لانعقاد الجلسة البرلمانيّة، وكذلك وقوع عدّة قذائف هاون على سطح بناية البرلمان ومرآب سيّارات النوّاب، ومع ذلك أتصوّر أنّه، وبدون جماهير التيار الصدريّ، لا يُمكن اقتحام الخضراء!
وهذه التطوّرات لا تعني أنّ أحداث إيران هي التي دفعت شباب العراق للتظاهر لأنّ المظاهرات العراقيّة أقدم بعدّة سنوات من المظاهرات الإيرانيّة!
والحقيقة لا يُمكن الجزم بنجاح المظاهرات الإيرانيّة لكنّ الذي لا يُمكن القفز عليه أنّ المظاهرات أحدثت شرخا كبيرا في الداخل الإيرانيّ سينعكس بلا شكّ على التمدّد الإيرانيّ في العراق والمنطقة!
وبالمجمل فإنّ التطوّرات على الساحة الإيرانيّة ستُشْغِل القيادات هناك بمحاولات قمع المظاهرات، وبالنتيجة لن ينشغلوا لا بالعراق ولا بغيره لأنّ القضيّة الآن بالنسبة لهم قضيّة وجود أو فناء، وهذه النقطة من أهمّ الثمار الداعمة والساندة للمظاهرات العراقيّة!
الثورة الشعبيّة العراقيّة ستمتدّ آثارها الى كيان المجتمع العراقيّ كلّه، وبالذات مع المحاولات السياسيّة لتجاهل دور مقتدى الصدر، والهرولة لإعلان “ائتلاف إدارة الدولة” بمشاركة غالبيّة القوى السياسيّة عدا الصدر، وجميع هذه المعطيات تؤكّد احتماليّة التلاحم الميدانيّ ما بين ثوّار تشرين والتيار الصدري، في الأوّل من تشرين الأوّل/ أكتوبر المقبل، وحينها لا يمكن للقوى الأمنيّة والسياسيّة أن توقّف هذا الطوفان الشعبيّ الذي قد يمتدّ لعموم العراق!
إنّ سياسة انتزاع العدل من آفاق البلاد، ونشر الترهيب والعدوان في أرجائها جزء من أسباب إشعال الثورات الوطنيّة، ولهذا واهم من يظنّ أنّ إحاطة الخضراء بالكتل الإسمنتيّة يمكن أن يجهض الثورة لأنّ الشعوب الثائرة تُحطِم الجبال وتسحق الطغيان، وعليه كان الأولى بهم إحاطة أنفسهم بسياج من الكتل القانونيّة والعمليّة والإنسانيّة القائمة على العدل، والثابتة بمنجزات حقيقيّة نافعة على الأرض وقوانين عادلة في ظلّ دولة جامعة، وهذا ما لم يفلحوا في تحقيقه!
إنّ بناء الدولة العراقيّة على الرمال لا يُمكن أن تَصمد بوجه القوى الشعبيّة الثائرة، ولهذا مَنْ يُريد أن يبني الدولة عليه أن يؤسّسها على العدل والسلام والحقوق الإنسانيّة الثابتة والصريحة، بعيدا عن التدخّلات الخارجيّة والداخليّة السلبيّة!
فمَنْ سينجح في الدولة العراقيّة؟
dr_jasemj67@