22 نوفمبر، 2024 6:56 م
Search
Close this search box.

كيس التفاح

ركل العلبة المعدنية الفارغة الملقاة على الطريق ، طارت ،  سقطت على مبعدة أمتار ، أسرع نحوها ، ركلها ثانية ، أحدثت قعقة مدوية كسرت طوق الصمت ، فرح ، تبسم ، أحس بنشوة تسري في جسده ، صوت ينعشه ، أي صوت يبدد  السكون المخيف ، في هذا الحي الغني بفلله وبيوته الفارهة ..
 حتى  إرتطام القناني في الشوال الثقيل الذي يحمله ، تأنسه ، يتعمد أحيانا تحريك بدنه ليسمع تلك القعقعة ، يغني مواويلاً لايفهم  كلماتها ، هي أصوات والسلام ،  أنيس يرافقه ، في هذه الشوارع الصامتة  الموحشة ، وهو ينوء بحمل شوال الخام الخشن الممتليء الى نصفه بالقناني  الفارغة ، والنعل الاسفنجية المستهلكة ..
 ينتابه حزن وأبتئاس لايعرف مصدرهما كلما وصل الى هذا المكان ، ربما هو الصمت الارستقراطي في الشوارع العريضة الخالية من الناس ، قصور لاروح فيها ، قلبه يهفو الى الازقة الفقيرة بصخب أهلها ، وحميمية بيوتها البسيطة الدافئة ..
بدل موضع الشوال من كتفه الايسر الى كتفهِ الايمن ، طرحه على الارض لبرهة ، ثم أعاد حمله ، تؤلمه مواضع القناني الزجاجية الفارغة حينما تلامس عظام ظهره  ، يمشي بطريقة تضمن له الحد الادنى لإحتكاك محتويات الكيس بجسده الصغير، طريقة علمته إياها التجربة والسير المضني  في الأزقة والشوارع الطويلة ..
 رفع العلبة المعدنية من الأرض ، أنزل الكيس الثقيل عن ظهره ، التصق بجدار أحدى البيوت الكبيرة لينعم ببقايا ظل يكاد ينحسر، تمعن في العلبة ، تهجأ الحروف المتبقية على  ورق غلافها ( ممم ععع ججج ) معجون الطماطة ، فرح عندما أهتدى لحلها ، لايتذكر متى ذهب آخر مرة المدرسة ..
 رفع العلبة وقربها من فمه وراح يغني ، منتشياً برجع الصدى الذي أضفى على صوته حلاوة وعذوبة ..
نسي أن الضجيج  محظور هنا ، ونسي الوعيد إن هو عاد ودخل هذا الشارع !!
دَسَّ العلبة في الشوال ، واخرج من جيبه كيس نايلون ، عليه أن يستغل هذه الظهيرة ، ويملئ الكيس بالفاكهة المتدلية على أكتاف الاسيجة العالية ..
إنتقى شجرة تفاح وارفة ، أدنى الشوال الكبير من السياج ، صعد فوقه ، قطف تفاحة دانية ، دسها بفرح في الكيس ، هذه نصيب أخي الصغير، قالها في سره مبتسماً ، عليه أن يقطف أربعة أخر ، لأختيه وامه وواحدة له ..
 لكن الأغصان بعيدة ، لاتطالها يده ، عليه أن يتسلق السياج ليصل اليها ، تلفت الى كل الجهات ، مازال السكون مطبق ، والشوارع خاوية ، الشجرة حجبت عنه النافذة التي وقف خلف ستارتها  شبح أنسان ، إمتدت يد الشبح  الى الهاتف ، ضغطت على  الازرار ..
 يد الصغير تمتد الى الغصن ، أمال جذعه الى الامام ليصل الى التفاحة  ، يده الثانية تتشبث بغصن واهٍ  خشية السقوط ، لامسها بأطراف أصابعه ، مسافة صغيرة ، صغيرة ، وتصبح في يده ..
 يد الشبح خلف الستارة تعيد سماعة الهاتف الى مكانها ، بعد مكالمة مقتضبة ..
 مسافة صغيرة ، صغيرة  بحجم عقدة الاصبع ويقطفها ، لم يعد هناك مايعينه على الاستطالة بعد وقوفه على اطراف اصابعه التي بالكاد تلامس حواف السور ، الغصن الذي يستند عليه يئز ، اصبحت في يده ، الجسد يندفع الى الامام ، الغصن ينشرخ ، قطفها ، سقطت ، سقط …
السور عال ، عال ، كأنه جدار بئر لاقرارة له ، تشبث بساق الشجرة ، هي الاخرى بدت عالية وأغصانها لاتطال ..
 ركض في كل الاتجاهات بلاوعي ، اراد أن يصرخ ، يبكي ، لكن الصوت اختنق في حنجرته ، والدموع باتت عصية من هول الموقف ، شل تفكيره ،  راعه ماهو فيه ..
لم يجد حجراً أو خشبة أو أي شيء يعينه على تسلق السور..
 إستحضر في لحظات صورة أمه وأخوته ، ود لو ان الحرب لم تغيب أباه الى الابد ..
 ستائر النافذة تهتز ، يتوارى الشبح المختبيء خلفها ..
 الارض تموج ، الحديقة تدور ، الاشجار تدور، أحس بوهن في ساقيه ، ماعادتا تقويان على حمله  سقط على الأرض ..
 يد دافئة تلامس وجهه ، صوت كصوت أمه يناديه ، لم يكن حالماً ، فالكيس المليء بالتفاح في يده ، والدينار الورقي في جيبه ، وإبتسامة العجوز الدامعة ، تشيعه الى آخر الطريق ..

أحدث المقالات