كلنا يذكر درس الإنشاء في منهاج اللغة العربية لمراحل دراستنا الابتدائية والثانوية، وكيف كان معلمونا ومدرسونا يولونه اهتماما خاصا لايقل شأنا عن درس قواعد اللغة العربية، ولم يتأتَ هذا الاهتمام إلا لأن الكتابة لاتقل شأنا هي الأخرى عن المحادثة وجها لوجه او الخطابة المباشرة، إذ كلها تهدف الى إيصال معلومة او نشر فكرة او بث شكوى، او طرح مشكلة او البحث عن حل لها، وأحيانا تكون بوحا لآلام تعتصر قلب الكاتب او الخطيب او المتحدث، وفي الأحوال كلها يجتمع الكاتب والقارئ،والمتحدث والسامع، والخطيب والمتلقي، ليكمل أحدهما الآخر فتكون حينذاك فائدة عامة، ومنفعة شاملة، وبخلاف هذا ليس للنطق حاجة ولا للكتابة أهمية، ويتساوى إذاك الذين يعلمون والذين لايعلمون.
في سطوري هذي بوح ألم وبث شكوى، وطرح مشكلة، وبحث عن حلها، أما الألم فلأني أعيش في بلد ذي عمق حضاري غائر في التاريخ، وأما الشكوى فلأني لاأرى -بعد الله- غير منبري هذا أعرض من خلاله شكواي، بعد أن أُتخِمت صناديق الشكاوى المركونة على أبواب المسؤولين الصغار والكبار و -الكبار جدا-. وأراني معذورا لو رددت أبيات الشاعر:
وددت لو يسـتعيد الدهر دورتــه
ولو لحظة من زمان الأمس تسـترق
ماذا سأشكو على الأوراق من ألـم
أقــل شـكـواي لايقـوى لـه الورق
نحـن انتمينـا الـى تاريخنـا بدم
وآخـرون علـى تاريخهـم بصقـــوا
اليوم نمر -جميعنا- بظرف ليس فيه مساحة للوم او العذل، فكما نقول(الطاوة حارة) و-جميعنا- في غنى عن متاعب التقريع والتوبيخ، وكشفحساباتٍ ونشر غسيل قديم، وكما للأعمال أولويات، كذلك للمشاكلوالمصائب أولويات أيضا، ولحلولها قطعا أكثر من أولويات وعلينا إيلاؤها درجات اهتمام قصوى، نشترك -جميعا– في صياغتها على النحو الأمثلوالوجه الأكمل. و كلنا مسؤولون عن النتائج كيفما كانت، وليس لنا مناصمن المواجهة الحقيقية –وإن كانت صادمة– مع الأمر الذي وقع والذي واقعلامحالة. وليس من مصلحتنا التهرب بعيدا، او الانزواء جانبا أمام ماتفرزهلنا الأحداث ومايستجد منها يوميا. أما -جميعنا– فأقصد بهم:
– العراقيون المجنسون ليس بوثائق وأوراق ثبوتية فقط، بل بهوية عراقية لهاامتداد روحي صادق قلبا وقالبا.
– العراقيون الذين يستنشقون نسمات مدنهم ملء صدورهم، ولايستبدلونهابهواء بلاد غير بلادهم.
– العراقيون الذين تمتد جذورهم مع امتداد حضارات سومر وأكد وبابلوآشور، فيلتصقون بتراب الأرض المعطاء على مر العصور الغابرةواللاحقة.
– العراقيون الذين يجري في عروقهم دم لايستغنون عنه، كما هملايستغنون عن الماء الذي يجري في أحضان دجلة والفرات، ويستطعمونمذاقه ماءً عذبا سلسبيلا سائغا شرابه.
– العراقيون الذين لاينام لهم طرف إذا مس شر او ضرر شبرا منمحافظات عراقهم، وإن لم يكونوا قد رأوه او مكثوا فيه ولو لحظة.
– العراقيون المتألمون لما حدث بالأمس ومايحدث اليوم على أرضه،والشاكون لأنفسهم عن سوء ما جناه رعاع خونة محسوبون على العراقوالعراقيين، وهم لاينتمون اليه من قريب او من بعيد.
العراقيون هم ماذكرتهم حصرا، إذ من غير المعقول أن يستوي الأعمىوالبصير، ومن غير المستساغ ان يتساوى المحب للخير والارتقاء، مع الذينفي قلوبهم مرض لا يفقهون شيئا عن معنى الجمال وأشكاله وألوانه، فهمصم بكم عمي عن كل ماله صلة بالحياة، الذين لايرون في دوران الأرضغير الصداع و (دوخة الراس) ولايرون في النجوم الزهر غير ضوء آفلٍ،ليس له في قاموسهم أي معنى، فيما يراه الطيبون الخيرون لآلئ تضيءصفحة السماء، فتبعث في نفوسهم التأمل في جمال الكون وعظمة صنيعةالخالق. اليوم نحن -جميعنا- مطالبون بالوقوف أمام من يودون إرجاععقارب كل الحضارات الى الخلف، وليس لهم من الحب والجمال والحياةالكريمة من شيء، هم بأسماء عديدة فمنهم: “الداعشي” ومنهم“الطائفي” ومنهم “السارق” ومنهم “الفاسد” ومنهم “المزور” ومنهم“المرتشي” وكثيرون آخرون بمسميات ليس لها حصر، علينا –جميعنا– مواجهتها، فهل نتفق –جميعنا– على هذا؟.