وكالات – كتابات :
في وقت من الأوقات؛ كانت “بابل” أكبر مدينة في العالم، ويُعتقد أنها موطن الحدائق المُعلّقة، إحدى عجائب الدنيا السبع، بالإضافة إلى “برج بابل” الأسطوري. لكن اليوم، تنهار “مدينة بابل” القديمة؛ الواقعة في جنوب “العراق” الآن.
تأسست المدينة في الأصل؛ منذ حوالي 4300 عام، وهي مزيج من الحداثة والقدامة. واليوم تتساقط واجهات الجص التي أعيد بناؤها، لمحاكاة أصولها التاريخية، تتساقط من الجدران، وأصبحت بعض المباني، التي كانت تحظى بشعبية لدى السياح، خطرةً بحيث لا يمكن دخولها. فما علاقة التغير المناخي بذلك ؟.. ولماذا المنطقة العربية هي الأكثر عُرضة للخطر في العالم ؟
آثار المنطقة العربية مهددة بالإندثار بسبب العوامل المناخية..
تقول “إليانور روبسون”، لهيئة البث الألمانية (دويتشه فيله-Deutsche Welle)، وهي أستاذة تاريخ الشرق الأوسط القديم في جامعة “كوليدغ لندن”، التي كانت تزور باستمرار المواقع التراثية العراقية: “لسنوات، كانت المياه الجوفية، ثم تأتي فصول الصيف شديدة الجفاف التي تتسبب في إنهيار المباني. قضيت يومًا في آيار/مايو الماضي؛ أتجول مع الخبير؛ عمار الطائي، وفريقه (من صندوق الآثار العالمي في العراق)، وكان الأمر محزنًا للغاية. إنهم يُشاهدون المكان وهو ينهار أمام أعينهم”.
و”مدينة بابل”؛ المدينة العراقية القديمة، هي أحد مواقع التراث العالمي لـ (اليونسكو)؛ منذ عام 2019، لكنها ليست الموقع الوحيد في المنطقة العربية الذي طالته التأثيرات المتزايدة لتغير المناخ.
ففي “مصر”، يتغير لون الحجارة في الهياكل التاريخية وتتشقق بسبب ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة. وتُهدد حرائق الغابات المتكررة والعواصف الترابية والرملية وتلوث الهواء وزيادة الملوحة في التربة وارتفاع مستوى سطح البحر؛ المواقع التاريخية الأخرى هناك.
وفي “الأردن”؛ هناك قلق من أنَّ أجزاء من “البتراء” – المدينة التي يبلغ عمرها حوالي: 2300 عام، ومبانيها المعقدة مُشيّدة في جانب الجرف – معرضة للخطر بسبب احتمال زيادة الإنهيارات الأرضية.
أما في “شرق اليمن”، تُلحِق الأمطار الغزيرة أضرارًا بالمنشآت الشهيرة من الطوب اللبن في “وادي حضرموت”، كما تتسبب الفيضانات المفاجئة، الأكثر شيوعًا في البلاد الآن، على إزالة المباني المبنية من الطوب اللبن.
وفي “ليبيا”، أصبحت “واحة غدامس” القديمة؛ مهددة بالانقراض بسبب جفاف مصدر المياه الرئيس فيها. ومات الغطاء النباتي المحلي وغادر السكان. كما أنَّ المواقع التراثية على السواحل حول المنطقة معرضة للخطر بسبب ارتفاع منسوب مياه البحر والفيضانات.
منطقة الشرق الأوسط مهددة بمخاطر التغير المناخي أكثر من غيرها..
نشر فريق من الباحثين من معهد “ماكس بلانك” للكيمياء؛ في “ألمانيا”، والمعهد القبرصي، ورقة بحثية، في أيلول/سبتمبر 2022، بدت وكأنها تتوقع أنَّ الأسوأ سيأتي بعد. وخلُص البحث إلى أنَّ منطقة الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط: ”ترتفع درجة حرارتها بمعدل مرتين تقريبًا عن المتوسط العالمي، وبسرعة أكبر من المناطق المأهولة الأخرى في العالم”.
وهذا يعني أنَّ القلاع والحصون والأهرامات والمواقع القديمة الأخرى في هذا الجزء من العالم معرضة لخطر أكبر من أي وقتٍ مضى بسبب التغيرات في البيئة.
قال “المجلس الدولي للآثار والمواقع” – ومقره “باريس”: “صار تغير المناخ أحد أهم وأسرع التهديدات نموًا ضد الناس وتُراثهم الثقافي في جميع أنحاء العالم”.
وقال “نيكولاس باكيرتزيس”، الأستاذ المشارك المتخصص في علم الآثار والتراث الثقافي في معهد “قبرص”: “ليس هناك شك في أنَّ التراث الثقافي للشرق الأوسط مُعّرض لخطر أكبر من ذلك الموجود في أماكن مثل أوروبا”.
ويُرجِع “باكيرتزيس”؛ هذا الخطر المتزايد إلى عاملين؛ أولهما أنَّ المواقع التراثية في الشرق الأوسط معرضة لخطر أكثر من غيرها؛ لأنَّ المنطقة تزداد سخونة بوتيرة أسرع، وثانيًا؛ لأنَّ العديد من البلدان في المنطقة لديها مخاوف أخرى قد تكون لها الأولوية على حفظ التراث، بما في ذلك الأزمات الاقتصادية أو السياسية، وحتى الحرب.
وأوضح: “الجميع يُدرك أنَّ هذا يُمثل تحديًا، لكن لا يستطيع الجميع تحمل منح الأولوية لهذا”. وأضاف أنَّ تغير المناخ يؤثر أيضًا في مواقع التراث الأوروبي، لكن “أوروبا” في وضع أفضل بكثير لإدارتها.
ماذا يمكن أن تفعل دول المنطقة لحماية هذه الآثار العريقة ؟
تقول (دويتشه فيله)؛ إن دولاً مثل: “مصر والأردن ودول الخليج”، تُحرز تقدمًا في تحسين إدارة مواقعها التراثية في مواجهة تغير المناخ. لكن الدول الأخرى في المنطقة لم تكن قادرة على فعل الكثير.
وأشارت “إليانور روبسون”؛ أستاذة تاريخ الشرق الأوسط القديم في جامعة “كوليدغ لندن”، إلى أنَّ دول المنطقة غالبًا ما تُنشيء منظمات حكومية لإدارة المواقع التراثية. على سبيل المثال، لدى “العراق”؛ مجلس الدولة للآثار والتراث. وتابعت: “لكنها يُعاني من نقص شديد في الموارد والتجهيز والتدريب بسبب العقوبات وتداعيات السنوات العشرين الماضية في العراق. وفي غضون ذلك، أصبحت الاحتياجات المادية للمواقع أكثر إلحاحًا مما يجعل صيانتها أكثر تكلفة”.
قال “إبراهيم بدر”، الأستاذ بكلية الآثار بجامعة “مصر للعلوم والتكنولوجيا”، خارج وسط “القاهرة”: “الوعي بقضية الحاجة إلى حماية المواقع التراثية من تغير المناخ ما زال في مهده. وأُجرِيَت بعض الدراسات؛ لكن ذلك لم يرُقَ إلى اتخاذ العديد من الإجراءات على أرض الواقع. لسوء الحظ، فإنَّ معظم دول الشرق الأوسط ليست مستعدة للتعامل مع هذه القضية وهذا له تأثير سلبي في المواقع الأثرية”.
مزيد من النهب..
هناك مشكلة أخرى قد تنشأ؛ وهي أنه عندما يُصبح السكان المحليون يائسين، فقد يبدأون في البحث عن القطع الأثرية التي يمكن بيعها أو تهريبها.
وأوضحت “إليانور روبسون”؛ أنه: “عندما لا يعود الناس قادرين على إعالة أنفسهم من الأرض بسبب التصحر وارتفاع درجات الحرارة، فمن المحتمل أن نشهد تجدد أعمال النهب الأثري، سواء على المستوى المهني أو من أجل الكفاف”. وتذكرت أنَّ هذا حدث بعد الغزو الأميركي لـ”العراق”؛ عام 2003، حيث نُهّبت الكثير من آثار “بلاد الرافدين” وأصبحت في “أوروبا” و”أميركا”.
ويتفق جميع الخبراء على أنَّ كل هذه العوامل تُشدد على ضرورة بذل المزيد من الجهود لتحسين إدارة تأثيرات تغير المناخ على التراث الثقافي في الشرق الأوسط.
وقالت “روبسون”: “بعبارات أثرية صارمة، قد تقول (عن بابل) إنها تنتظر إنهيارًا آخر للموقع، مثلما حدث عدة مرات على مدى السنوات الـ 5000 الماضية. ويمكن لعلماء الآثار المستقبليين القدوم وحفره واستخراجه مرة أخرى”.