يبدو ان الاحساس بوطئة المكان قدر مسلط على الانسان لا يمكنه التخلص منه ، واذا كان الفلاسفة منذ القدم قد نظروا الى المكان على انه الحاوي للأشياء بما يتميز به من اللاتناهي ، وعدم الفناء فإن للشعراء شأنا آخر في التعامل مع المكان ، ربما يقترب من تصور اسبينوزا حينما جعل المكان قرين الامتداد وجعل الامتداد صفة لله ، وبهذا فقد اعطى المكان بعدا حلوليا واضحا مستمدا من فلسفته الحلولية , وهكذا نجد ان للمكان عند الشعراء تصورا ينطلق من الواقع لكنه يسمو عليه .
ونعتقد ان ثمة ملمح واضح يفصل المكان الشعري ان جازت التسمية عن المكان الواقعي ، فالمكان في الشعر يمثل اعداما للطبيعة النوعية لما هو كائن سعيا نحو الاستمتاع بما هو متخيل ومفترض .
وفي مجموعة ــ عبور النهر ــ للشاعر العراقي باسم الفرات يصادفنا المكان في صور متعددة تنبع من الواقع ــ لا سيما اذا عرفنا ان باسما مولع بالأسفار من بلد لآخر ــ لكن تلك الامكنة تعبر من جهة اخرى عن ايقونات متخيلة تجسد رؤى الشاعر ذاته , فمدن باسم فرات اماكن تعبرنا ونعبرها لتترك وشمها فينا … مدن نطوف بها كالمجاذيب … نعلق ذكرياتنا فيها ، وكأن الشاعر يعد الامكنة التي يمر بها حواضن رحبة للاغتراب ، فكيف يمكن التوفيق بين جماليات تلك الامكنة وهواجس الاغتراب ؟
في هذا الصدد يرد في الذاكرة كلاما معبرا لشاخت يقول فيه : ((من الممكن حدوث نوع آخر من الاغتراب في غمار علاقة الانسان بالطبيعة ، وهو نوع لا ينشأ من الانفصال عن الطبيعة ، وانما من انعدام الانفصال عنها)) وقد يبدو تجسيد هذا الكلام واضحا في اكثر من موضع في مجموعة باسم فرات ففي نصه ((البراق يصل الى هيروشيما)) يقول باسم : ص5
امام قلعة هيروشيما
وحيدا
يقف البراق
دون نبي يمتطيه
حاملا احلاما
فقدت صلاحيتها …
فأذا كان تمثال الفرس المجنح وسط هيروشيما استحث قريحة الشاعر ، فإننا نعتقد ان باسما في قوله : (وحيدا) و (حاملا احلاماً) قد اسقط ذاته على ذلك التمثال , اذ ان التوحد مع الامكنة كثيرا ما يؤدي بالإنسان الى اختراع الادوات من اجل الوصول الى الانسجام الذاتي , لا سيما اذا عرفنا ان التمثال المذكور نفسه قد كان ايقونة مماثلة لما في التراث الاسلامي من قصة البراق الوارد في حديث الاسراء والمعراج , وهذا كله يرتد بنا الى المصدر الجمعي الى اللاوعي الفردي في الابداع من اجل تفسير مثل هذه المواقف .
ونجد الشاعر باسم فرات في نصه الآخر ((عن الغريب الذي صار واحدا منهم)) يفصح عن مكنون اغترابه من خلال محاولته ترويض الامكنة شعريا , فيقول في هذا النص : ص13
ها انذا … قدم في ميكون واخرى في الامل
يرقد تاريخ في جعبتي
انصت للموج بينما الريح تقفل ابوابها خجلى
وفينجان خلفي
تحمل غبارها , وابتسامات عابري الطريق والرغبات .
ويقول في النص ذاته :
ثم انحدرت مع المتاهة الى طلات ساو
مستمتعا بعرس الطبيعة
فالأمكنة : (ميكون ـ نهر في وسط لاوس ـ وطلات ساو ــ سوق في عاصمة لاوس فينجان) الواردة في هذا النص لم تعد كما هي على الارض بل تحولت بريشة الشاعر الى مثابات للتأمل ، فالإنصات للموج ، وصلوات الرهبان ، وانغام الطبول ، وصمت الصيادين , ورائحة الشهوة , والخجل بين اقدام السائحين لمنظر النسوة المتشحات بالفقر والجمال ، كل تلك الدلالات كانت بالنسبة للشاعر اعترافا بوذيا ــ ان جاز التعبير ــ بعدم الايمان بواقعية المكان كما هو , فتلك الامكنة التى تضج بالمعاني كان يقابلها صمت الشاعر الذي يشبه صمت المتصوف الذي يعبر عن الدهشة الوجودية …. انه صمت يمثل مجالا للرؤية الشاعرية بغية وتأمل ادراك التداعيات الكشفية التي تثيرها تلك الامكنة في قريحة باسم فرات .
وفي نص اخر يجتاز بنا باسم فرات عتبات النظر السطحي للأشياء نحو سبر مكتنزاتها الخبيئة ليفصح عن عظمة الاموات من خلال ايقونات التماثيل ، وهذه المرة تستحدثه الشاعرية لمناجاة تمثال الامبراطور (خاي دينه) في مقبرته في فيتنام , اذ لم يكن تمثال الامبراطور المذكور ومقبرته مجرد مكان ، بل صار عند شاعرنا منجما لذاكرة تاريخية حاول الشاعر التقاط ما امكنه من صدفاتها وهو يرى الممالك تحت عرشه تستغيث , وقد ملك الجهات العشر ، وزرع فرسانه السواحل بحجماجم الغزاة ، ونفشوا في المحار قبلات حبيباتهم :
كانت العذارى مفتاح بهجته
بمائة الامبراطوري يودعن عزوبتهن
علا مجده ، حتى استحال العويل خيانة للبلاد
وتتعدد وسائل التقريب بين الامكنة عند باسم فرات لتصل الى مد جسور الالفة بين مكان الولادة وامكنة التجوال البعيدة , فلطالما وجد باسم في مجموعته هذه ان ايجابية التفاعل مع الامكنة البعيدة او سلبياتها انما تقاس بمعيارية ما يجسده حنينة لزمنه الطفولي البريء … زمنه الذاتي او زمنه الجمعي , فها هو يتوجه بكلمة (سبادي) التي تعني التحية باللغة اللاوية الى اولئك القرويين الذين تنبت اكواخهم البسمة والدهشة على وجوه العابرين ليصور بعد ذلك ذاته وكأنها جامع بذار في حقول الغاضرية فيقول :
الم حياءهم واحزانهم في سلال رحيلي
بينما الغاضرية تستفيق على امتداد حقول القصيدة
اهدهدها على نغم المونغ
مستسلما للضباب
وهو ينفث احزانه خلال انفاسي
ومما تقدم يعني ان باسم فرات في مجموعته هذه قد يكون على بينة من امره وهو يجوس عالم الامكنة بوعي اغترابي , فعلى الرغم من طابع الالفة مع تلك المثابات الا ان الفته تلك كانت هي الاخرى معبرا نحو ذاته الهائمة على وجهها ، فمهما تنقل باسم بين تلك الامكنة والمدن والبلدان ، ومهما استظل بأفياء امير الدارما في هيروشيما وفيتنام ولاوس وتايلند واستراليا فانه لا محاله يظل صانع امكنته الشعرية الخاصة به ، وكأنه سندباد يحكي لنا عن مدن … لكن هذه المرة يقدمها ليست بوصفها مدنا واقعية بل كائنات من الشعر جميلة .