قصة قصيرة
بقلم: أمين الساطي
حينما كنت صبياً، كانت أمي تحذرني من النظر في الضوء الخافت طويلاً إلى المرآة، لقد أخبرتني بأنني إذا أمعنت النظر إلى المرآة لفترة طويلة، وركزت خلالها على صورتي، من دون أن ترفَّ عيناي، فستظهر خلف رأسي صورة لوجه قريني باللون القرمزي الأحمر، لكنني إذا لم أخف، وتابعت النظر إلى المرآة، فسيظهر بعدها صورة الجني الذي يعيش معنا في حمام البيت باللون الأسود.
كانت أمي تصرُّ دائماً على الخادمة الجميلة المراهقة عندنا، بألا تتعرى، وألا تستعرض مفاتنها أمام المرآة، لأن بعض الجن الذين يعيشون في داخل المرآة، قد يشتهون جسدها، وقد يندفع جني متهور من المرآة، ويسحبها معه إلى داخلها، فتختفي من عالم الإنس، لتعيش خادمةً له في عالم الجن إلى الأبد.
على الرغم من هذه النصائح التي كانت تبدو سخيفةً، إلا أنها عشّشت في عقلي الباطن، ومنذ حوالي شهرين، بدأت تظهر لي في الأحلام صورة لبنت تصرخ بأعلى صوتها لكي أخرجها من القبر.
مع مرور الأيام تناسيت الموضوع، جربت أن أخرج هذه الذكريات السيئة التي تخيفني حول وجود الجان التي تعيش في المرايا، وأقوم بإخمادها، ثم استبدالها بذكريات أفضل منها، لكن صورة وجه البنت الذي حاولت تجاوزه، عاد ليلح على الظهور في الآونة الأخيرة من جديد بشكل أقوى مما كان عليه، ولم يعد باستطاعتي تجاهله، وكلما حاولت ذلك عن وعي، عزز ذلك من حضوره، بالنهاية قررت التخلص نهائياً من عقدة الخوف من ذكريات الماضي، وذلك بأن أعيشها فعلياً، مرة ثانية على أرض الواقع.
لقد اكتشفت من تجربتي الخاصة، بأن هناك علاقة خاصة بين الإنسان والمرآة، وأنه إذا انعكست الأشعة المنبعثة من العين التي تحمل طاقة سلبية على المرآة، فيمكن أن تشكل خطراً للناظر، وعلى الجالسين بالغرفة، حينها فهمت لماذا تلجأ بعض الفتيات لارتداء أحجار طبيعية لمّاعة صغيرة حول رقبتهن، لتعكس شعاع الإصابة بالعين.
دخلت إلى غرفة النوم التي توجد فيها مرآة كبيرة على خزانة الحائط، وكنت قد لاحظت مؤخراً، أنني عندما أكون وحيداً وألتفت فجأة إليها، أرى وجود ومضات وخيالات تتحرك عليها، لكنها لا تلبث أن تتوقف بمجرد نظري إليها، وكأنها واعية بما يحدث حولها. أطفأت جميع الأنوار، بعدها أشعلت شمعة واحدة طويلة بيضاء وضعتها على تسريحة الشعر العائدة لزوجتي، والتي هي حالياً في زيارة مع ابني عند أهلها، فشعرت بالوحدة والرهبة وبسكون الليل يحيطني من كل جانب، إنه مزيج من النشوة والجنون والسعادة بأنني سأكتشف العالم المجهول في المرايا الذي تسكنه القوى الخفية.
جهّزت عقلي لاستيعاب تجارب ومساحات جديدة، بدأت بالتحديق في المرآة، شاهدت في البداية انعكاساً لوجهي مع مفروشات الغرفة، لكن بعد عدة دقائق من التركيز، شعرت ببعض الدوار، وتشوشت رؤيتي لغرفة النوم، فبدت أكثر اتساعاً ولمعاناً، بدأت تظهر على المرآة ومضات ضوئية، ما لبثت حتى تحولت إلى خطوط بيضاء ساطعة خشنة، وأخذت أشاهد بينها أجساماً طافية وبقعاً سوداء متحركة، تحولت بالنهاية إلى سرب من الذباب، أخذ يرسم بحركة متموجة وجهاً ضبابياً كحلياً يشوبه السواد، سرعان ما تجلى في وجه مألوف لبنت ناعمة، لم أره من قبل.
تمالكت نفسي، ولم أدع الرعب يجمد أوصالي، لأنها لو شعرت بضعفي، فستحاول الانتقام مني، وستقوم بسحبي إلى داخل المرآة، ولن يراني أحد بعدها. تذكرت في هذه اللحظات أن هذا الوجه يعود لبنت في العشرينيات من عمرها، جاءت بحالة إسعاف إلى مستشفى السامي الذي أعمل فيه مديراً إدارياً، كانت مصابة بحالة إعياء شديدة إثر تناولها كمية كبيرة من الأقراص المهدئة بقصد الانتحار. لم يكن مع أمها التي ترافقها مبلغ الخمسين ألف ليرة سورية، وهو الحد الأدنى المطلوب، كضمانة للدفع على الحساب للمرضى الداخلين إلى قسم الطوارئ. هذه كانت تعليمات إدارة المستشفى، ولم يكن باستطاعتي تجاوزها إلا في الحالات الاضطرارية، وبما أنني لا أعرف هذه البنت، فلقد أعطيت التعليمات لنقلها بسيارة الإسعاف التابعة للمستشفى إلى مستشفى المجتهد العام لتلقي العلاج، ولسوء حظها فقد فارقت الفتاة الحياة في أثناء نقلها بالسيارة، بسبب التأخير في تقديم الإسعافات الأولية لها.
عندما وصلت المستشفى كان قلبها قد توقف عن الخفقان، وبعد أن عاينها الطبيب أصدر على عجل شهادة بوفاتها، فتم دفنها بسرعة، وفي حالات نادرة جداً يتوقف القلب بشكل مؤقت، ويدخل المريض في غيبوبة لفترة قصيرة تسمى الموت الكاذب، لكن أحداً لم يلاحظ ذلك، لقد دفنوها وهي حية، وعندما استعادت وعيها، وجدت نفسها مسجاةً داخل القبر. حاولت بكل قواها أن تحفر التراب لكي تخرج من القبر، وأخذت تظهر في أحلام الأشخاص الذين ساهموا في دفنها متوسلةً إليهم لكي يخرجوها من القبر، لكن لم يلتفت أحدٌ إليها، ولم يأخذ الأحلام على محمل الجد، فسألت ربها أن ينتقم لها من الأشخاص الذين دمّروا حياتها.
بعد يومين كانت هناك سيدة في زيارة لمقبرة عائلتها في حي الدحاديل، على أطراف دمشق، في أثنائها سمعت أصواتاً خافتة صادرة من أحد القبور المجاورة، قبل أن تبدأ الأرض بالاهتزاز تحت قدميها، فتصورت بأنها تعيش نهاية العالم، وأن الأموات أخذوا يقومون من قبورهم، عندها خرجت من القبر ذراع امرأة، وظهرت أصابع يدها الصغيرة مخضبة بالدماء، وقد تكسرت أظافيرها، فسارعت السيدة خائفة إلى بيتها، وروت القصة لزوجها، لكنه لم يصدقها في بادئ الأمر، ولكي يهدّئ من روعها، عاد معها إلى المقبرة للتأكد من ذلك، وأخبرا الموظف المسئول بالمقبرة، واصطحباه إلى حيث كانت المرأة تحاول الخروج من قبرها، وعلى الفور، تم إخراجها من القبر، ولكنها كانت جثة هامدة، لقد فات الوقت على إنقاذها.
من جديد عدت للنظر إلى وجه البنت على المرآة، إنه يزداد وضوحاً مع كل دقيقة، حتى إنه تحول بالنهاية إلى وجه حقيقي ثلاثي الأبعاد، وأصبح الجزء الأمامي منه خارج المرآة، فدبَّ الرعب في أعماقي، ثم فتحت فمها، وبدأت تمتص الأشياء الموجودة أمامها، وأحسستُ بأنني بدأت أنجذب نحو فمها المفتوح، بدأت الوسائد وعلب المكياج تتطاير في الهواء، وتتجه نحوها، لتدخل في فمها، فتمسكت بطرف السرير الخشبي لكيلا أنزلق إلى المرآة، لكنني بعد لحظات شعرت أن السرير بكامله بدأ يتحرك ببطء نحو المرآة. في تلك اللحظات تحركت تسريحة الشعر التي كانت أخف وزناً، ودخلت في المرآة، فانطفأت الشمعة، وساد الغرفة ظلام دامس، في هذه اللحظة شعرت بأن نفسي تخرج من جسدي، وتسير أمامي، وأراها تتجول في الغرفة كأنني أنا.
لما فتحت عينيّ من جديد، وجدت نفسي مستلقياً على كنبة جلدية بنية في غرفة بيضاء، نظرت من نافذتها، فشاهدت أشجار السنديان الخضراء الباسقة، وبدا البحر من بعيد بلون رمادي فاتح، فعرفت أنني على تلة قريبة من البحر، كان يجلس أمامي رجل في متوسط العمر، يرتدي معطفاً أبيضَ، وخلفه على الحائط بضع شهادات تشير إلى أنه طبيب نفسي، أخذ سحبة عميقة من غليونه، ثم نفث دخانها سحابة بيضاء، شكلت دوامات، وارتفعت نحو سقف الغرفة، ثم سألني بصوت خافت، أعطاني شعوراً بالطمأنينة: “أريدك أن تتذكر أول مرة شاهدت فيها جسد الخادمة عارية على المرآة، ثم كيف بدأت علاقتكما”؟.