في نكتة سياسية قديمة، طلب رئيس مركز بلدي من “الزبالين والكناسين” انتخاب الباشا نوري السعيد، فرد عليه أحد “الزبالين” بالرفض، بعد تراس الباشا للحكومة، وتثبيته في منصبه أصدر عقوبة بذلك المعترض، حوله من “زبال ” الى “كناس”، ولان الانتخابات كانت تجري بين حين واخر بحل مجلس النواب في إرادة ملكية، كرر المسؤول الطلب من ذات الشخص متوعدا بانه سيرجعه الى عمله او يعاقبه مرة أخرى، فرد عليه بانه الان مجرد “كناس” فما الذي يستطيع فعله هل يحوله الى مساعد كناس مثلا ؟؟
مثل هذه النكتة لا تمنع من الاعتراف بان الباشا نوري السعيد كان أكثر ساسة العراق قدرة على التكيف مع الظروف ما دامت تحافظ على أهدافه الاستراتيجية وهي ازدهار العراق وتقدمه، ولم يكن يمتنع عن التحالف مع اشد خصومه قسوة في تشكيل الحكومة ، في وقت ما زالت الحكومات العراقية تشهد ولادات قيصرية بعد كل دورة برلمانية تظهر فيها نتائج الانتخابات من دون فائز بالأكثرية المطلقة ، فيتطلب التحالف البرلماني لتشكيل حكومة ائتلافية ، تخضع لمراقبة اقلية برلمانية ، وحتى اليوم لم تشكل اية حكومة عراقية يتحالف فيها الأصدقاء – الأعداء من اجل مصلحة الوطن ، كما كان نوري باشا يفعل في حقبة الحكم الملكي ، هل كان ظرف الباشا يختلف عن ظروف قادة العملية السياسية اليوم ؟؟
ربما يكون هناك فوارق زمانية، الا ان علم إدارة الدولة قد تطور نحو اليات مبتكرة لتداول السلطة فيما عرف ب”الديمقراطية التوافقية” التي تحولت بقدرة أميركية غير محمودة الى محاصصة طائفية قومية، وجميع شرائح المجتمع اليوم من هم مع العملية السياسية كليا او خارجها، يطرحون السؤال هل ثمة” نوري سعيد جديد ” في عراق اليوم ؟؟
وللإجابة على هذا السؤال دعوني اسال بدوري ما هي مواصفات الباشا سعيد ، واجيب، انه فهم اليات التوازن في ادارة الدولة ، دوليا في قبول المصالح البريطانية من اجل بناء القدرات العراقية ومن ثم المطالبة بالحقوق وفقا لتلك الاتفاقات التي عقدها مع بريطانيا العظمى حينها ، وإقليميا عرف كيفية إدارة مصالح العراق وسط تنازعات مصالح الدول المحيطة من خلال توازنات دقيقة جدا تكاد لا تفرق ما بين دولة وأخرى، وداخليا تعامل مع الشعب بروح ابوية من حيث كون الجميع تحت قانون واحد حتى العاق منهم ينتظر العقاب حينما يخطأ وليس العكس!!.
اليوم تختلط الأمور كثيرا اذا حاولنا تطبق مثل هذه المعايير على اجندات الكثير من الأحزاب العراقية التي تقود المشهد السياسي، واي مطابقة بين الشخصيات القيادية لا يمكن ان يتساوق مع هذه المعايير الوطنية التي كان عليها الباشا سعيد، فالكثير من هذه الشخصيات تنكفأ عند اجندات احزابها وعلاقاتها مع دول الضيافة التي تواجدت فيها خلال مرحلة معارضة نظام صدام، وهي نقطة تواصل يمكن ان تنقلب في مواقف معينة الى تقاطع حاد جدا ما بين المصالح الوطنية ومصالح تلك الدول.
لذلك تتداول وسائل الاعلام ان المرجعية الدينية في النجف الاشرف تتفق على ان يكون رئيس الوزراء المقبل مدنيا، وليس من الأحزاب الإسلامية، لإخراج موقع رئيس الوزراء من الاجندات الحزبية الضيقة الى فضاءات التعامل الابوي مع الجميع، ويجري نداول اسم كل من الدكتور احمد الجلبي وعلي عبد الامير علاوي، كمرشحين مدنين لمنصب رئيس الوزراء المقبل ، ولكن مشكلة ذلك الرجل في النكتة أعلاه تبقى قائمة ، لان مصالح اليوم ليس في الانتقال من منصب “زبال” الى “كناس” ، بل اعمق واكثر خطورة ، فهل ينتبه الناخب العراقي قبل ان يغمس أصبعه في الحبر البنفسجي لمصلحة وطنه ومستقبل اجياله ام ينظر الى مقعده وتعليمات مسؤوله سواء في الوظيفة او المنطقة او العشيرة .. سؤال بحاجة الى ألف جواب !!
[email protected]