” تنتهي الفتنة بالمعارك ويتفاوض المتحاربون وتبدأ عملية السلام بينهما، والخسارة تتحملها أم الشهيد وزوجته الأرمله، واطفاله اليتامى، لعن الله الفتنة ومن أيقظها، والحروب ومن أشعلها”.
رسائل المراجع الشيعية تحتاج الى تأني في قرائتها، وتحليل كل عبارة بل كلمة ترد فيها، فالكلمات التي يكتبوها غالبا ما تعبر عن أمر مهم وخطير، مما يحتاج الى التوغل في الدراسة واستنباط ما وراء الكلمات ومعرفة مغزاها، والغرض منها، سبق أن عملنا بهذه الطريقة التحليلية في مباحث ومقالات سابقة تعلقت بعدد من المراجع ومنهم المرجع الشيعي علي السيستاني، ولم أجد من حاول ان يتوغل في دراسة رسالة المرجع كاظم الحائري سوى الأستاذ الفاضل والوزير السابق عامر عبد الجبار، واقول الحقيقة ان الأساتذة الفضلاء يحي الكبيسي وعامر عبد الجبار وأحمد الأبيض ونزار حيدر وأحمد الشريفي، وأياد العنبر وناجح الميزان، وبعض المحللين في خارج العراق مثل أحمد الياسري ورمضان البدران والقليل غيرهم ـ هذا من وجهة نظر شخصية ـ هم من أبرز المحللين السياسيين، ولابد لكل عراقي ان يقرأ ما يكتبوه او يشاهد محاوراتهم في البرامج التلفازية، لكي يعرف حقيقة ما يجري في العراق، ويسبر أغوار ما يجري في الكواليس السياسية، ويفهم حقيقة الشراذم التي تحكم العراق، ودور المرجعيات الدينية والقضاء العراقي في رسم المسار المنحرف لما يسمى بالعملية السياسية. إضف الى مقدمي البرامج الوطنية مثل: البوصلة، بصراحة، بمختلف الآراء، تلك الأيام، ستوديو التاسعة، بوضوح، وملفات ساخنة، وبكل جرأة ومن بغداد. لذا سنحاول أن نتوسع في ما ذكره الأستاذ عامر عبد الجبار من تفاصيل حول رسالة المرجع المعتزل كاظم الحائري الشيرازي.
نود أن نبين أنه لم يحدث في تأريخ المرجعيات الشيعية ان يتنازل المرجع عن تكليفه الشرعي مهما بلغ به السن والمرض، والسيستاني شاهد على ذلك، فهو أكبر سنا وأكثر مرضا من الحائري الشيرازي. طالما ان المجتهد على قيد الحياة فلا يجوز ان يتنازل عن تكليفه الشرعي وفقا للفقه الشيعي، يقول محمد جعفر الجزائري” إنّ جواز تقليد المجتهد حال حياته كان قطعيّا لهذا العامي، وبعد موته يشك في ارتفاع هذا الجواز”. (منتهى الدراية8/594). ويقول السيد محمد سعيد الحكيم” المجتهد على تقليده لا على أهليته للتقليد”. (التنقيح4/250). الأدهى منه قول الخميني” إني أتوجه بكلامي هذا إلى علماء الدين، ويجب أن يعلموا بأن اعتزالهم سوف يقود إلى إيجاد هوة بين أبناء الشعب وعلمائهم”. (صحيفة الإمام17/91).
ثم لماذا التنازل الحائري الشيرازي للخامنئي وليس لغيره من المراجع؟ وهل يحق للمرجع ان يحول مقليده الى مرجع آخر، أم يترك الأمر لإختيارهم وحسب ما يقرروه هم؟ ربما البعض ممن الشيعة في العالم من مقلدي الحائري يتحفظ على ولاية الفقيه (على الرغم من إعتقاد الحائري بها)! فلا قهر وإجبار في التقليد، الجميع أحرار في إختيار مرجعهم.
نوه السيد مقتدى الصدر بأن اعتزال المرجع الحائري الشيرازي لم يكن بمحض إرادته، وما صدر عنه من بيان كان تحت الضغط، بمعنى ضغط من الخامنئي، وما يؤيد ذلك تنازل الحائري الشيرازي عن مرجعيته للخامنئي حصرا. وهذا ما أكده العلامة حسين المؤيد حفظه الله بقوله ” نظام الملالي وعلى رأسه الخامنئي مستفيد من مواقف الحائري الشديدة التأييد له والمتماهية معه، ولا تشكل مرجعية الحائري المحدودة والتي فشلت في التمدد عراقيا فضلا عن غير العراق أي ضرر على خامنئي ونظامه”. وكشف المؤيد ” وقف الحائري ضد مرجعية محمد الصدر، لكن بحذر وتحفظ، ولم يتغير موقفه إلا بعد أن علم بأن محمد الصدر أوصى بالرجوع اليه، إذا غادر الحياة، فتنفس الصعداء، وإنتعش فيه الأمل بوراثة الشارع الشيعي في العراق”.
الشيرازي وحشده الشعبي
أخطر ما جاء في رسالة اعتزال المرجع الحائري الشيرازي” أوصي جميع المؤمنين بحشدنا المقدس، ولابد من دعمه وتأييده كقوة مستقلة، غير مدمجة في سائر القوى، ويكون قوة ضاربة وقاهرة للمترصين بأمن البلاد ومصالحها الى جانب باقي القوات المسلحة”. مؤكدا إن مقتدى الصدر فاقد لللإجتهاد وباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعية.
لكن ما فات المرجع الخائف إفتقاد الحجة الشرعية في لغوه، نسأل: اليس هذا الأمر ينطبق على حشد الحائري المقدس (الحشد الشعبي)، حيث من يقوده فاقد للإجتهاد وباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعية. اليسوا قادته من أصحاب الشهادات المزورة، الرشاوي، الاختلاس، القتل، الانحلال الخلقي، الفساد بكل أصنافه.
لكن بالتأكيد عندما قال (حشدنا) فهو مصيب في رأيه، فالحشد عراقي في رواتبه واسلحته وأعتدته وملابسه ومأكله، لكن ولائه للخامنئي وليس العراق، العراق بالنسبة للحشد مصدر تمويل مالي فقط، وما يؤيد كلام الحائري الشيرازي هي تصريحات قادة الحشد أنفسهم بما فيهم الولائي فالح الفياض، وهو متفرس أكر من الحائري نفسه، وهذا ما يقال عن نوري المالكي وقيس الخزعلي وهادي العامري وابو ولاء الولائي وابو فدك، فما علاقة الحشد بالعراق والتقديس؟ الم يقل العامري انه انفصل عن المجلس الاعلى وتزوج من المالكي (أي زواج مثلي) زواجا كاثوليكيا؟
كما إن قول الحائري الشيرازي ان الحشد قوة مستقلة، يجسد الواقع الفعلي في العراق، فهؤلاء المتفرسين لا يستلموا الأوامر من القائد العام للقوات المسلحة بل من زعمائهم الولائيين، بل إعتبروا القائد العام للقوات المسلحة معز وجمل وداسوا على صوره بالأحذية، وهدروا كرامته وضربوا قصره بالصواريخ واعتدوا على قصر رئيس مجلس النواب الحلبوسي وأطلقوا صواريخهم الايرانية على اقليم كردستان، واليوم يتحدثون بكل وقاحة وقباحة عن هيبة الدولة الخائبة! علما ان المادة 9 ب/ من الدستور العراقي تذكر” يحظر تكوين ميليشيات مسلحة خارج إطار القوات المسلحة، ومن أجل حفظ السلاح بيد القوات المسلحة والأمنية، وتحت القانون، وتعزيز هيبة الدولة وحفظ أمنها، وجعل السلاح بيد الدولة فقط”. بمعنى ان الحائري الشيرازي يحرض على إنتهاك الدستور العراقي. بل من الغرائب ان من شرع هذا القانون هو اليوم ينتهكه، لكن لا عجب في عراق اليوم، عراق اللادولة.
إن اعتداء الحشد الشيرازي (المقدس) في التظاهرات السلمية الأخيرة على الصدريين يؤكد انهم لا يلتزموا بأوامر القائد العام للقوات المسلحة الذي أمر جميع القوات المسلحة بعدم إطلاق النار، هل يوجد (حشد مقدس) يطلق النار على متظاهرين سلميين ابرياء، فما بالنا بالحشد الكافر إذن؟
عندما نقول ان الحشد فارسي الولاء، فنحن لا نتجنى على الحشد ولا على الحائري الشيرازي، اقرأوا تصريحات قادته، صرح رئيس ميليشيا الحشد الشعبي فالح الفياض في 13/6/2022 في كلمة القاها بمناسبة الذكرى السنوية الثامنة لتأسيس الحشد الشعبي إن ” هناك من يحاول جعل الحشد الشعبي ظاهرة مؤقتة في العراق ضد مشروع المقاومة الإسلامية، ان الحشد الشعبي أصبح الذراع القوي بيد إمامنا خامئني لتحرير فلسطين، وسلاح الحشد الشعبي يدافع عن مشروع المقاومة الاسلامية مع شقيقه الحرس الثوري في إيران، فنحن من حمى ودافع عن الحكم الشيعي المرتبط بمشروع الامام خامئني”. كما صرح قاسم الاعرجي (من فيلق بدر الايراني) وهو مستشار الأمن القومي العراقي في حديث صحفي بتأرخ 9/12/2021 ” أزف اليوم البشرى إلى إمامنا خامئني وفصائل المقاومة بإنتهاء المهام القتالية للتحالف الدولي في العراق والذي جاء نتيجة صواريخ فصائل الحشد الشعبي والضغط الإيراني وأحزابها المقاومة في العراق”. كما صرح أيضا عضو تحالف الفتح، حسين اليساري في 31/10/2021 في تصريح صحفي الى” وجود مخاوف كبيرة من (تذويب) الحشد الشعبي من قبل البرلمان والحكومة المقبلة التي افرزها التزوير الذي حصل في الانتخابات. لكن بوجود الإمام خامنئي ورئيسي لن يلغى الحشد”.
السؤال المهم: لماذا لم يدعم الحائري الجيش العراقي وبقية القوى الأمنية بدلا ان يحصر دعمه في (حشدنا المقدس) ومن اين جاءت صفة التقديس هذه؟ الا يؤكد هذا الكلام ان ايران تخشى من تعاظم الجيش العراقي، وتصب إهتمامها (على حشدها المقدس).
إن إعتداد الحائري الشيرازي بنفسه على إعتبار ان الصدريين من مقلديه يجانب الصواب، فلو سألت 98% من الصدرين عن الحائري الشيرازي سيجيبوا بأنهم لا يعرفوه، وهذا ما أكده الصدر بقوله ان قيادة الصدر لم تكن بفضل الحائري او غيره من مراجع الشيعة، بل أرث من الله تعالى ومرجعية محمد محمد صادق الصدر. ان النجف هي مرجعية الشيعة الأولى سابقا وحاضرا ومستقبلا، وليس قم كما غمز الحائري الشيرازي في طيات بيان إعتزاله.
أما دعوة الحائري الى الوحدة والانسجام في العراق، فهذا أمر يثير السخرية، لأنه بصراحة موجعة لا يوجد في ايران من يتمنى الأمن والإستقرار ووحدة العراق والحفاظ على سيادته، إنهم يرغبوا بعراق ضعيف، خشية من ان يجرعوا كأس السم ثانية، فما زال طعم السم في أفواه مراجعهم كما يبدو.
ونسأل العقلاء: هل بيان الحائري الشيرازي يدعو الى الوحدة والإنسجام أم العكس؟ إعد قراءة رسالة الإعتزال وستكتشف الحقيقة بنفسك. الغرض من إعتزال الحائري الشيرازي هو شق صف التيار الصدري لا أكثر، من خلال توجيه الصدريين الى طاعة الولي الفقيه الخامنئي بإعتباره الأجدر والأقدر في إدارة الأمة. لكن الأوضاع في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة تكشف زيف هذه الدعوة الباطلة.
ثم هل نسينا فتاوى الحائري المتطرفة بقتل رجال البعث (تبناها حازم الأعرجي القيادي في التيار الصدري)، وفتوى جواز تفجير دور السينما وغيرها من فتاوى الإرهاب وفق القانون الدولي، فأية وحدة يزعمها هذا الدعي؟ ان محاولة نقل المرجعية الشيعية من النجف الى قم، أقرب للخيال، ويبدو ان الحائري وهو في أرذل العمر، قد فشل فشلا ذريعا في بيان مبررات إعتزاله.
الطريف في الأمر ان ردٌ مقتدى الصدر على بيان إعتزال الحائري يضعنا في مشكلة فقهية عميقة، فقد ذكر الشيخ المظفر” عقيدتنا في المجتهد الجامع للشرائط: إنّه نائب للامام (ع) في حال غيبته، وهو الحاكم والرئيس المطلق، وله ما للإمام في الفضل في القضايا والحكومة بين الناس، والراد عليه راد على الامام، والراد على الامام راد على الله تعالى، وهو على حدّ الشرك بالله”. (عقائد الإمامية/18). حسنا ردٌ مقتدى الصدر على المرجع الحائري نائب الإمام، فكيف سيكون الموقف؟