المثقف هو انسان لديه رؤية واضحة لكل ما يحيط به ، ويمتلك من الخبرات والمعارف ما يؤهله ليكون قدوة في مجتمعه ، فينقل لمن حوله خبراته المفيدة ، ويؤسس لبناء هويته بثقة وانسانية مؤمناً بأن ثقافته ما هي الا ارشيف مدلولي يتمظهر من خلال المفاهيم السلوكية المتأصلة في ذاكرته كإرث وجودي يدفعه على الدوام للانصهار في واقع مجتمعه
وفي المجتمعات الراكدة ثقافيا يرى بعض المثقفين انهم هم من صنعوا مجدهم وتاريخهم الثقافي ، وأن على المجتمع الاعتراف لهم بذلك ، وعندما لا يجدون ما يحقق لهم هذه الرؤية الضيقة ، فإنهم يلجأون الى اسباغ هذا الاعتراف على انفسهم من خلال نشاطاتهم المحمومة للظهور والبروز ، وجمع المريدين والمصفقين والمروجين لاشباع حاجتهم الى المديح والاطراء بشتى الوسائل ، وقد يستعينون بالاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لهذا الغرض غافلين عن ان المثقف الذي يطفو على امواج المديح والاعجاب الكاذب هو انسان موهوم ومخدوع ، لان هذا الاسلوب سيدفعه لاستخدام جسور خاطئة في مجمل سلوكه وبالتالي سيجعل من ثقافته سلعة بائسة ينفر منها الاخر ويمقتها ويرفضها
كما ان المثقف الذي يوقع نفسه في شِباك الغرور والتعالي الأجوف سيواجه اشكالات كثيرة مع محيطه الاجتماعي عل وجه العموم ، فضلا عن ان هذا السلوك سيؤشر الى خلل في نموّه المتوازن بين قدراته الجسمية والفكرية والثقافية عموماً ، وبذلك فإنه في وضع كهذا وبسبب ميزته الثقافية قد يتجاوز الحدود المنطقية للاعتداد بالنفس فيشعر بأنه أعلى شأناً بسبب امتلاكه ثقافة اعلى من غيره ، متصورا ان الثقافة هي تحصيل قرائي وحسب في حين ان الثقافة هي سلوك قائم على الارض قبل كل شئ .
لقد بات المشهد الثقافي الحالي ضبابياً تسيطر عليه أنويات مظهرية متضخمة تحاول فرض مفاهيم غريبة عن واقعها الاجتماعي تارة بدعوى الحداثة ، واخرى بدعوى التجديد والتغريب ، وثالثة بدعوى رثاثة الموروث المعرفي السائد وضرورة الاجهاز عليه وتأسيس بنى معرفية جديدة تتوائم مع الواقع الاجتماعي المعاش ، وهذه سنة حسنة ومقبولة اذا ما روعيت فيها الثوابت وارتكزت على البؤر المضيئة والمشعة في موروثنا المعرفي وصيرورته التي تأسست ونهضت عبر قرون من البناء والتأصيل الذي أرساه قادة الفكر والادب والفن في بلادنا ، فالحداثة بقوالبها المستوردة والجاهزة ، ومحاولة فرضها بشكل استشراسي وفوقي وعنيف – في بعض الاحيان – هو تخريب لاواعٍ يفرض علينا التعامل معه بالكثير من الحذر والتأمل والعقلانية ، وبما ان سمة المثقف – في الغالب – ترتكز بالاساس على المعارف والعلوم الانسانية التي تعد معارف تأويلية وان طروحاتها ونظرياتها تحليلية افتراضية فما أراه صحيحا هو وجهة نظر ترتكز على مستوى اعدادي الذهني والمنهجية التي اعتمدها في تحليلي وتأويلي ، ووجهة النظر هذه ليست باتة او ملزمة للاخرين ، فضلاً عن ان التمسك بها بشكل قاطع ومتزمت سيؤزم العلاقة بيني وبين الواقع الاجتماعي الذي يريد حلولا لمشاكله لا البحث في التنظيرات العقيمة او التيه في التأويلات التي تزيد من تعقيد هذه المشكلات وتبقيها بلا حلول .
وفيما يتصل بهذا الامر فثمة ما يوجب الاشارة اليه ايضا ، فالمثقف الذي يعرف لغة اخرى غير لغته الام عليه ان لا يستخف بموروثه المعرفي ويترفع عنه ويظهر نرجسيته وأنويته ومماحكاته ويبحث عن البؤر السوداء فيه ويضخمها ويسقطها على الواقع السياسي والاجتماعي الذي يعيشه ليقدم لنا بدائل غريبة شوهاء لا تنسجم مع هذا الواقع ، لانه بذلك يعالج الخطأ بخطأ اكبر منه ، ففرض الوصاية والهيمنة والتعالي ، والنظرة الفوقية للاخر هو سلوك يفقد المثقف هيبته وقيمته الشخصية والاعتبارية ويمنعه من رؤية الاخر او التواصل معه والاعتراف بانجازاته وابداعاته ، بل تحقيرها وتبخيسها ووصمها بما لا يليق مما يشير الى حالة أنوية متورمة فرضتها ذاكرة اقصائية سابقة مورست بحق من يتصف بهذه السمة ، وهي بعد ذلك سمة مرَضِيّة او على الاقل سلوك لا سوي مزمن له مسبباته واعراضه الشخصية التي ابتلي بها بعض المثقفين .
واستكمالا لهدف هذا المقال عن تضخم الانا عند بعض المثقفين لابد من الاشارة الى ان الشخصية الأنوية تتشكل من مستويات ثلاث هي :
* النرجسية ، وحب الذات والحاجة اللاواعية على الدوام الى الثناء والمديح والاطراء ، مع احساس داخلي بالحصول على المزيد من هذا التبجيل ومداومة هذا الفعل لانه فعل محبب ومريح لدى النرجسي يدفعه الى استقطاب الادعياء والمطبلين ، وصناع علامات الاعجاب ، وشارات الانبهار في كل مناسبة واي وقت
* اما المستوى الثاني لشخصية المثقف متضخم الانا فهي التسلطية ، والتنمرية ، والاخضاع ، حيث يرى الاخرين على انهم طرفين احدهما معه والاخر ضده فيقرّب من يرى انه معه ويجافي او يُبخّس من يعتقده ضد منهجه المريض هذا
* اما المستوى الثالث فهو الاحتواء للمناهضين لنهجه بالاغراءات المادية او المعنوية والانتفاعية ، وإستمالتهم بطرق التوائية ، ومن ثم السيطرة عليهم وتحريكهم بالكيفية التي ترضي غروره ونرجسيته وأنويته المتورمة البعيدة عن العقلانية والقريبة من الهشاشة الفكرية الرافضة للنقد والتوجيه .
ومن نافلة القول – وقبل الختام – ان نشير الى ان البديل المفهومي الصحيح لتضخم الانا المرضية الذي ننصح به كل مثقف حقيقي واعٍ هو ما يعرف بقوة الانا او الانا الواقعية ، الواثقة ، والنقية ، تلك التي تنتج مثقفاً نقدياً متمكنا من اسقاط ايجابيات ثقافته وخزينه المعرفي على بيئته ، ويؤثر في تغيير الانماط البالية ، والممارسات الخاطئة في مجتمعه ، ويسهم في تأسيس قواعد التغيير البنيوي لحاضنته الاجتماعية ، ولبيئته المعرفية ، ومن ثم تغيير السلوكيات الشائهة التي يئن منها المجتمع ، وهذا اسمى هدف يسعى اليه كل مثقف مؤمن ومخلص ونبيل.