18 نوفمبر، 2024 3:16 ص
Search
Close this search box.

رحلة الغرناطي ..رواية للكاتب اللبناني ربيع جابر : انزياح التاريخ في المشغل السردي

رحلة الغرناطي ..رواية للكاتب اللبناني ربيع جابر : انزياح التاريخ في المشغل السردي

الطبعة الثانية 2013
الناشر:دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع
ربيع جابر في عمله الروائي المعنون”رحلة الغرناطي”كما في اعماله الروائية الاخرى يستند الى انسجامه العميق مع منظومة البناء السردي الحديث،فهو عادة مايتحرك وفق مخيلة ذاتية تعيد تركيب الواقع وتستحضر اللامرئي وتقف على مسافة بعيدة جدا عمّا يفرضه المرئي،ولافرق في هذا لديه بين أن تكون المادة ذات مرجعية تاريخية بعيدة كما في رواية رحلة الغرناطي والفراشة الزرقاء أو واقعية معاصرة كما في اعماله الاخرى طيورالهولداي إن وبيروت مدينة العالم على سبيل المثال.
المتن الحكائي
رحلة الغرناطي رواية ينهض متنها الحكائي على رحلة طويلة تبدأ من مدينة غرناطة يقوم بها محمد  بحثا ً عن أخيه الربيع الذي كان قد توغل في الغابة في آخر يوم من شهر آب من العام 1091 بحثا عن خروف خرج في غفلة عنهما ومضى بعيداً عن  مسار قطيع كبير من الغنم كانا يرعيانه لكن الربيع اختفى في الغابة ولم يخرج منها،ولم يعرف له من اثر..ضاع الابن البكر لعبد الرحمن أبي الربيع بن سليمان المازني القيسي الغرناطي . بحثوا عنه عشرة ايام متواصلة ولم يقعوا له على اثر،لاهو ولا الخروف الملعون: “ثلاث سنوات بعد حدث اختفاء الربيع والجد سليمان المازني الستيني الهرِم يخرج الى الغابة يومياً بحثاً عن حفيده لعله يعثر عليه.وفي أحد الايام لم يرجع الجد مساءً الى البيت كعادته،وبعد البحث عنه في الغابة وجدوه صباحاً جالسا على الارض وظهره يستند على شجرة،عيناه مفتوحتان،يده اليمنى تقبض حفنة تراب وورق سنديان يابس والنمل يغطي وجهه،كانت يده زرقاء كأنها نُقِعَت في حجر نيل،وفي باطن كفه علامات من أظافره”.
في نفس العام الذي اختفى فيه الربيع ذي الاثني عشر عاما وقبل شهر من هذا الحدث كان المرابطون قد دخلوا غرناطة بعد أن اعتقلوا والي اشبيلية المعتمد بن عباد مع حريمه واهله وارسلوهم جميعا الى مراكش بعد أن كان المعتمد قد استنجد بهم قبل خمسة اعوام من هذا التاريخ،اي عام 1085باعتبارهم اصحاب الدولة الاقوى في افريقيا لمساندته في مواجهة ملك قشتالة الفونسو السادس الذي استولى على مملكة طليطلة الاسلامية وبدأ يستعد للسيطرة على الاندلس كلها.وبعد أن تمكن المرابطون من الحاق الهزيمة بالاسبان اختلفوا مع امراء المسلمين في الاندلس وانقلبوا عليهم فسيطروا على غرناطة وقرطبة وملقى وأرسلوا امراء هذه المدن اسرى الى مراكش .
بعد عدة أعوام يقرر محمد أن ينطلق في رحلة من غرناطة الى بلنسية بحثا عن شقيقه الربيع وذلك بعد أنْ وصل الى مسامعه وعبر احد العشَّابين القادمين من مدينة قرطبة والمعروف بأبي يوسف العشّاب والذي التقى به محمد وأكد له بما لايقبل الشك انَّ في بلنسية رجل يشبهه تماما يتاجر بالقرمز وعشب الامراض بين بلنسية ومدن الاندلس،له نفس المواصفات التي كان عليها اخوه الربيع..يرحل محمد تاركا خلفه والده عبد الرحمن الذي كان طريح الفراش منذ نصف سنة مصابا بشلل نصفي بسبب اصابته بالفالج..يقع محمد أسيرا لدى القوات الاسبانية اثناء رحلته الطويلة،إلاّ أنّه ينجو من الأسر بعد أن اختلط الامر على احد الفرسان الاسبان لمّا ظنَّ بأنه قد رآه سابقا في بلنسية قرب كنيسةٍ خارجا من قداس فأخبرالحراس بذلك،فأعتقدوا هم ايضا بأنه رجل مسيحي وليس مسلماً،وبعد رحلة شاقة، يصل الى تونس ومنها الى الاسكندرية،ومن ثم القدس.فكانت رحلة طويلة اجتازفيها قارات وهو يتتبع اثر أخيه الذي لم يعثر عليه أبداً إلاّ في مخيلته التي تبقى تلاحقه في اليقظة والمنام بمشهد لقاءه بأخيه : “الآن،قبالة قناديل تتوهج في دكان عميقٍ كبئر تتوغل افقياً بين كنيستين ضخمتين في انطاكية،إنتظرَ أن يسمع صوت الربيع من جديد.سمع حركة خلفه. استدار. رأى وجهاً مظلماً.اقترب الوجه.أحسَّ محمد الغرناطي بالخوف.بعد آلاف الفراسخ،بعد كل هذه السنين،كان يرى قبالة عينيه،على بعد خطوة واحدة، وجه أخيه الربيع.ارتجفت أصابع محمد الغرناطي.ارتفعت يده في الهواء. أراد أن يلمس وجه اخيه.كان الربيع مازال في الثالثة عشرة.كان في مئزره الاحمر القديم.”
التاريخ في مشغل السرد
الرواية تركيب تخييلي للواقع بكل مفرداته تُخضِعُ وفقا لاشتراطاتها الفنية المادة التي تتناولها – التاريخ والواقع والشخصيات الواقعية- الى مشغلها الفني،لتكتسب بالتالي خصائص جديدة وفقا لمخيال الصنعة الروائية وادواتها التقنية واجتراحاتها لتصبح بالتالي لاعلاقة لها بالتاريخ ولاالواقع ولاالشخصيات الواقعية.
في رواية رحلة الغرناطي وإن كان التاريخ مرجعية أساسية إعتمد عليه المؤلف في تركيب بنية عمله السردي إلاّ انَّهُ أخضعه لمشرطه التخييلي،لينتج لنا في مخطوطته السردية تاريخا جديدا لاصلة تجمعه  بخاصيته الوثائقية.
التاريخ هنا في رواية رحلة الغرناطي ومن خلال تأؤيلات واشتغالات مخيلة الكاتب اكثر تشخيصا وأكثرصدقا في التعبير عن جوهره مما هو مسجل في المخطوطات والوثائق والحفريات.
فالصلة التي تربط التاريخ بالتاريخ نفسه تتغير جوهريا عندما تنزاح الى حقل الرواية لتصبح صلة غير مباشرة،طالما تبقى رهينة ادارةِ وموجِّهات الكفاءة السردية للكاتب،الذي لايتعامل معه بأعتباره مؤرخاً،بل بأعتباره مُبدعاً يأخذ به إلى  مساحة حريته الابداعية،ليتحركُ بين احداثه مُتحررا من اشتراطات الخارج التاريخية والواقعية،مستجيبا لمخيلته الواسعة وهو يتحرك في فضاء الازاحة والتأويل.
تقنية السرد
من خلال هذه الرحلة التي نسج ربيع جابر مسار بنيتها مارس لعبته الفنية بمهارة واضحة مستندا فيها الى وجهة نظر السارد الغائب/بصيغة الماضي.
وجهة النظر هذه تجعل”السارد لايتدخل بشكل مباشر ويتحدث بشكل لاشخصي،وبنفس الوقت تُقدم الاحداث وتُحلل بطريقة كمايراها الكاتب ” 1
من خلال اختياره لوجهة النظر هذه  توغل جابر مستعيناً بمخيلته في صفحاتِ تاريخٍ غني وعاصف من للعرب المسلمين في بلاد الاندلس.وليقترح متناً حكائياً مُحَمَّلاً بوجهة نظره المختفية وراء السارد الغائب : “الفتى الغرناطي لايعود غرناطيا .الشيخ العشّاب قال إن صاحبه البلنسي عنده بيت في بلنسية .بيت وأمرأة وأولاد .ويحمل لهم من قرطبة ،مع قرمز تجارته ،الثياب وأصناف البضائع الغربية .الغرناطي الذي كان يرعى الخِراف مع أخيه الصغير ،عند حافة غابة من سنديان الفلين ،نسي من يكون .ذهب يبحث عن خروف ضال،فأضاع نفسه “.
كان اختيار ربيع جابر لوجهة النظر السارد /الغائب العالم بكل شيء قد شكل مقترباً تقنيا إستحضر من خلاله آلية القَص الشفاهي الموروث حتى يتمكن من الامساك بصيرورة بناء الحكاية والتحكم بها عن طريق الايهام الكثيف بالواقع المتخيل من دون أن يخرج عن إطارها التاريخي،خاصة وأن هذا السارد لم يكن مُشَّخَصَاً ولم يحمل أي صفات شخصية(أي بمعنى غياب الانا الثانية)فلم يكن هنالك من علاقة بينه وبين شخصيات الرواية،وهذا اجراء تقني تنكَّر خلفه الكاتب بقصد تحديد المسافة الجمالية ــ كما يصفها الناقد واين بوث ــ وتقريبها مع القارىء لأجل إيصال مايبغي طرحه من افكار وقيم : “رائحة الخصوبة تتصاعد كالبخار من التراب،وهو كأنه ليس هو.بينما بيوت قرطبة والرصافة والربض، وقناطرالقصور وأبراج الاسوار ،تبتعد وتغيب وراء ظهره،تسلل إليه – كأن من الهواء الذي يزداد خفة كلما تقدم في الطريق المحاذية لنهر الوادي الكبير – شعورٌ بالانشراح لم يعرفه منذ أمد بعيد ” .
بهذا الاختيار التقني تواصل الكاتب مع المتلقي في تكوين معمارية عمله الفني فمنح فاعلية خطابه السردي بنيته الجمالية،ومن خلالها وقف السارد متموضعا عند العتبة التي تفصل عالم الرواية التاريخي المتخيل عن الواقع المعاصر للكاتب والقارىء.
1-    نورمان فريدمان – نظرية السرد من وجهة النظر الى التبئير – ترجمة ناجي مصطفى – منشورات الحوار الاكاديمي .

أحدث المقالات