23 ديسمبر، 2024 4:06 م

أيام في سكن العُزّاب (١)

أيام في سكن العُزّاب (١)

 

سلسلة في أدب الرحلة

كتبها: محمد فيض خالد

زلت قدمي وتلك تصاريف الأيام، لأجدني وقد توطنت سُكناي في بيتٍ متواضع، من ثلاثة طوابقٍ  يضم أجناسا شتّى، هجره أصحابه بعدما أوكلوا إجارته لرجلٍ من الهنودِ يُسمّى “فواز”، هو الآمر المُتصرِّف، هبطت من السيارةِ التي أقلتني من المطارِ مباشرة، نحنُ الآن ضحايا شمس الظهيرة الحارقة، تحت نيرها الذي لا يرحم، لم تطاوعني نفسي النّزول، إذ كيف لي المجازفة، وأنا أهنأ في دعةٍ تحت برد المُكيّف الذي يلفحني، وفي الخارجِ تتماوج مُتلمّظة شياطين جهنم، طالعت الشّمس فوجدت نظرات الحقد وقد انصبّت على الأرضِ ومن فيها، لم يكن من بُدّ غير مغادرةِ السّيار ، وقد تململ السّائق “البنغالي” قائلا في تأففٍ: “ليش ما تنزل صديق”، وبدأ يبرطمُ ضجرا.

وقعت عيني أوّل ما وقعت على واجهةِ البيتِ، القابع في سكونهِ راضيا مُستسلما لمصيرهِ، يجتر همومه في صمتٍ كصمتِ الموتى، شعرت بوخزة اللّهب تحرِق جلدي، لحظتها انفتح الباب الخارجي، لأجد من خلفهِ عوالم أخرى، لأسرابٍ من بُنيّ الإنسان في مملكةٍ مخفية، شخوصا في هيئتنا، غير أنّ لَهم رطانة غريبة لم تعهدها أذني، اللهم إلّا في أفلام العيد التي سحرتنا صغارا، لم أميز من لكنتهم غير كسارةٍ من لسان العرب، هالني جرأتهم على الحياةِ في هذا الوسط المشتعل، وكأنهم في فلكٍ يسبحون، أشار عجوز منهم نحونا مُلقيا بالتحيةِ في ابتسامةٍ بشوشةٍ، أزاحَ لحظتئذٍ عن وجههِ سمرة قد تلبّدت، من طلاءٍ غامق يُشبه منقوع “الكركديه”.

ضرَبَ ابن خالي بكفهِ فوقَ كتفي مُرحّبا: ” أهلا بك يا نجم في فندق النجوم الزُّرق “، وانخرط في عفوية في ضحكة طويلة، وقد توزّعت عينه ما بيني وبين المكان الذي غَامَ من أمامي، تمالكت نفسي تدريجيا وأنا أغالِبُ هياجَ أعصابي وانفلاتها، مُكتَفيا بمطالعةِ خليط البشر الذي حَام من حولي، كأسرابِ النّمل التي خرجت من تحتِ أطمارِ المكان، انجذبت أنفي طوعا  لرائحةٍ نفاذة، لم تمهلني طويلا، بعدما اقتحمت الأجواء “طشة” قوية لاذعة، تناثرت كالقنبلة.

لأول مرةٍ في حياتي أجد لرائحةِ الطّبخِ أثرا يحرِق الوجوه ويكوي الجلود، مزيج مُرعِب، سريعا سالت مدامعي، واحتَقنَ أنفي، وتلبّدَ مدخل البيت في لمحِ البصر، بسحابةٍ داكنةٍ  دسمة تحلّقت حول موائد الطّبيخ التي توزّعت بين أروقةِ المكانِ في عشوائيةٍ مقلقة، وبعد انجلاءِ الغارة واستقرار الأوضاع، اشتبكت عيني مع الفاعل، الذي وقفَ مُبتهجا، يُردِّد مسرورا مقطوعات لأغانٍ هندية حماسية على ما يبدو، يُحرِّك مغرفة خشبية تآكلت أطرافها يمينا وشمالا، قد كسى خشبها العتيق جِنزار مخيف، تتابعت نظراتي السَّاهمة وكأنّ الزّمن قد توقّفَ عن الدورانِ.

اعتدلَ صاحبنا قبالتنا فَتبدّى كالماردِ العجوز، خَرجَ لتوهِ من القمقمِ، يتصبب منه العرق يَحكَ جسده البضّ في الحائطِ مستسلما لخشونتهِ، وقد لَفّ وسطه بخرقةٍ مزركشة بالية، تداخلت ألوانها فبدت في بُهرجٍ  يستفز العين، تضيء محاجر عينيه في وهجٍ أخاذ، هزّ رأسه في حركةٍ نصف دائرية هاشا مُردّدا في لطفٍ محيّر: “هلا صديق”، عرفت لاحقا من أنّها تحيتهم المعهودة، إصفرَ معها وجهي، وتداعت قواي، وأنا أرى مستقبلا واهيا، وقد تَجسّدَ مجهولَ الملامح أقف على أعتابهِ مُرتَبكا، داعيا الله القدير أن يهيئ لي من شدتي مُرتفقا..

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة